لأن الكويت بلد ديمقراطي يعتمد مبدأ فصل السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، كان طبيعياً، وضرورياً، أن ينبّه مجلس القضاء الأعلى أعضاء البرلمان الحالي إلى أن هنالك “حدوداً” لما تستطيع الأغلبية البرلمانية الحالية، أو أية أغلبية لاحقة، أن تقترحه، أو أن تقرّه، وهذه الحدود هي المبادئ الأساسية للدستور.
بكلام آخر، هنالك مبادئ أساسية يقوم عليها الدستور الديمقراطي لا يستطيع أن “برلمان” أن يتجاوزها، أو ينقضها، حتى لو صوّتت ضدها الأغلبية المطلقة للأعضاء، أو حتى كل الأعضاء… مثلاً، مبدأ المساواة بين المواطنين، أو مبدأ حرية المعتقد، أو مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، أو مبدأ “إستقلالية القضاء”، وهو “بيت القصيد” هنا.
فبدون “إستقلال القضاء” لا يبقى “قضاء”، ويتحوّل “القضاء” إلى “أداة” في أيدي السلطة التنفيذية او السلطة التشريعية، أو الحاكم الفرد. وتلك هي خلاصة التجرية التاريخية لشعوب العالم المتقدمة التي اقتبستها الدساتير العربية وغير العربية.
لقد سمعنا في الآونة الأخيرة، وفي الكويت بالذات، رغم تجربتها الدستورية المديدة (الأقدم في منطقة الخليج) “دكتوراً في الشريعة” يقترح سنّ قانون للإساءة إلى الذات الإلهية وتطبيقه على المواطن الكويتي المتّهم بالإساءة إلى النبي محمد. وقد فات “الدكتور في الشريعة” أن التطبيق “الرجعي” للقوانين يضرب كل “شرعية” القوانين. وأن بعض القوانين التي أصدرها “صدام حسين” اعتُبِرَت “مهزلة” وليس “قانوناً” لأنها مثلت تضمنّت “حكم الإعدام” على أي عراقي التحق بالحزب الشيوعي “قبل” صدور القانون الصدّامي!
واستطراداً، فالأرجح أن قانون الإساءة للذات الإلهية الذي أقرّه برلمان الكويت قبل أسابيع (في ظروف معلومة..) يمكن أن يكون قابلاً للطعن بدستوريته لأنه لا يتضمّن “تحديداً تفصيلياً” لما يعنيه تعبير “الذات الإلهية”، مثلاً! وكان ينبغي أن يتضمّن القانون تعريفاً واضحاً لماهية “الذات الإلهية”، وهو تعبير متداول ولكنه ليس تعبيراً قانونياً محدداً، ولا يوجد حتى تعريف “إسلامي” له! (لا يكفي الردّ بأن “الذات الإلهية” تعني “الله”، لأن أي محامي مبتدئ يمكن أن يلاحظ أن المشترع كان يمكن أن يستخدم تعبير “الله” بدلاً من “الذات الإلهية” إذا كان ذلك هو المقصود..)!
المجلس الدستوري الفرنسي ألغى قانون التحرّش الجنسي لأن التهمة “فضفاضة”
ولتوضيح النقطة السابقة، فقد
اتخذ المجلس الدستوري الفرنسي، في مطلع شهر أيار/مايو الماضي، قرارا بإلغاء القانون الذي يجرم التحرش الجنسي في العمل وبأثر فوري يشمل وقف النظر في كل القضايا التي لم يصدر فيها حكم نهائي. واعتبر المجلس أن مواد القانون «فضفاضة، وتحتاج إلى مزيد من التوضيح»، وبالتالي طلب من الهيئة التشريعية تحديد تفاصيل التهمة.
لا يعني ذلك أن المجلس الدستوري الفرنسي يؤيّد “التحرّش الجنسي، ولكنه يعني أن أية “تهمة” ينبغي أن تكون “محددة تحديداً شبه مطلق”، فلا تكون “فضفاضة” وتُترك لتقدير عضوٍ في البرلمان أو رئيس محكمة.
مجلس القضاء الأعلى في الكويت على حق تماماً في اعتبار أن بعض مقترحات النوّاب “تنطوي في حد ذاتها على المساس باستقلال السلطة القضائية لما فيها من تغول على أخص أمورها”.
تحية لمجلس القضاء الأعلى في الكويت الذي يدافع عن إستقلال القضاء. فهذه الإستقلال هو الذي سيحمي غداً الأغلبية النيابية الحالية حينما تصبح “أقلية” في برلمان لاحق!
بيار عقل
*
القبس تنفرد بكشف تدخل مجلس الأمة في القضاء بلسان القضاء:
مقترحات بعض النواب خطيرة .. وتهدم القانون
مبارك العبدالله
رفض رئيس المجلس الأعلى للقضاء المستشار فيصل المرشد (صورة المقال) المقترحات النيابية، بشأن تعديل تشكيل المحكمة الدستورية، وإدخال أعضاء من الحكومة والمجلس ضمن هيئة المحكمة. وقال المرشد في كتاب أرسله إلى رئيس مجلس الأمة أحمد السعدون «ان هذه المقترحات خطيرة، وتهدم الديموقراطية والقانون.. ومن شأنها أن تعصف باستقلال القضاء».
وقال المستشار المرشد في كتابه – الذي حصلت القبس على نسخة منه – «إن من شأن هذه المقترحات النيابية المساس بالقضاء والتغوّل في أخص أموره.. وإذا ما تم تطبيقها فإن ذلك بمنزلة تشكيك في الحياد ويجعل للاعتبارات السياسية وزناً في أحكام المحكمة الدستورية».
وأوضح المستشار المرشد «ان إدخال عناصر من غير جهاز القضاء في القضاء يعد هدراً لضمانات القضاء ويخالف الدستور.. وان بعض المقترحات تمثل تشكيكاً في صلاحية أعلى جهات التقاضي في البلاد، كما ان الأعضاء الذين يقترحون لإدخالهم في تشكيل المحكمة الدستورية غير مؤهلين لنظر القضايا».
وأشار المستشار المرشد – أيضاً – إلى ان مقترح عدم التجديد لأعضاء المحكمة بعد 4 أعوام يعد «عزلاً مقنعاً» وغير جائز.
أكد المجلس الأعلى للقضاء في رده على مقترحات أعضاء مجلس الأمة، أن بعض المقترحات من شأنها العصف باستقلال المحكمة، مؤكدة في الوقت نفسه أن الاقتراح بعدم التجديد لأعضاء المحكمة بعد 4 سنوات يعد «عزلا مقنعا» من جانب الحكومة، أو مجلس الأمة غير جائز.
وأشار المجلس الأعلى للقضاء في الكتب المرسلة إلى مجلس الأمة، والتي حصلت القبس على نسخة منه، أنه لا ريب في أن هذه الأمور جميعها، إنما تنطوي في حد ذاتها على المساس باستقلال السلطة القضائية لما فيها من تغول على أخص أمورها.
أشار المجلس الأعلى للقضاء في بداية رده على رئيس مجلس الأمة، أنه سبق تدارس المشروع المقترح، بشأن الاقتراح بقانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا المقدم من بعض النواب، والذي سبق تقديمه من قبل في دورات مجلس الأمة المتتالية والمتعاقبة، وإبداء عدد من الملاحظات عليه أكثر من مرة، حيث تمت موافاتكم بها.
وقال المجلس الأعلى للقضاء «هذا وقد لوحظ أنه لم يتم تدارك هذه الملاحظات في المشروع الماثل، على الرغم مما يشوب بعض نصوصه من عيوب دستورية، لاسيما ما يتعلق بالنص الخاص بتأقيت مدة تشكيل المحكمة بـ4 سنوات قابلة للتجديد، وعدم تقيد أعضائها بسن التقاعد.
تشكيل المحكمة
وأضاف «والنص الخاص بتشكيل هيئة المحكمة الدستورية، وإشراك غير القضاة في هذا التشكيل، والنص الخاص بإفساح المجال لجميع الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين في رفع الدعوى بعدم الدستورية أمام المحكمة الدستورية، بدعوى أصلية (مباشرة)، ولو لم تكن قضية مطروحة أمام المحاكم تتعلق بالنص المطعون في دستوريته.
وفيما يتعلق بالنص الخاص بتعديل تشكيل المحكمة الدستورية، وإشراك غير القضاة في هذا التشكيل، قال المجلس الأعلى للقضاء في الكتاب المرسل إلى رئيس مجلس الأمة أحمد السعدون «إن هذا التشكيل بالصورة المقترحة في مشروع القانون، يتضمن إهدارا لضمانات استقلال القضاء، وإخلالا بمبدأ فصل السلطات، إذ أدخل في تشكيل المحكمة الدستورية، وهي «جهة قضائية» عناصر غير قضائية، وأسبغ عليهم ولاية القضاء خلافا لحكم الدستور الذي حدد اختصاصات السلطة القضائية، والتي تتولاها المحاكم، كما حدد اختصاصات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، تحديدا قاطعا على سبيل الحصر، وليس من بينها ممارسة القضاء.
القضاء .. والرقابة
وبين المجلس الأعلى للقضاء «أن نص المادة 173 من الدستور جاء صريحا في أن الجهة التي تختص بالرقابة على دستورية التشريعات هي «جهة قضائية»، أي يجب أن يكون تأليفها من قضاة، ولايجوز أن يدخل في تشكيلها أعضاء من الشخصيات العامة، حتى ولو كانوا من المشتغلين بالقانون، يختارهم كل من مجلس الأمة والحكومة.
وأضاف «إذ يجب أن تكون هذه الجهة (القضائية) مستقلة عن السلطة التشريعية التي يتولاها مجلس الأمة، وعن السلطة التنفيذية التي تتولاها الحكومة، وتأسيسا على ذلك فإن وجود غير القضاة ضمن تشكيل المحكمة مؤاده عدم اعتبار هذا التشكيل داخلا في إطار المحكمة الدستورية كجهة قضائية، وينبني على ذلك اعتبار هذا التشكيل هيئة إدارية ذات اختصاص قضائي.
وتابع «بما يغدو إسناد هذا الاختصاص إليها سلبا لاختصاص عهد به الدستور لجهة قضائية، وهي المحكمة الدستورية، كما يحول النص المقترح بالصورة التي أفرغ فيها بين المواطنين، وبين الالتجاء إلى قاضيهم الطبيعي، ويفرض عليهم هذا النص محكمة مشكلة تشكيلا خاصا من ابتداعه، فضلا عن أنه يعاب على هذا التشكيل غير اللائق التشكيك في صلاحية أعلى جهات القضاء في الكويت، للقيام بمهمة تعد من صميم اختصاصاتها، علاوة على أن الأعضاء من الشخصيات العامة لن يكونوا مؤهلين لنظر القضايا، وأن إدخالهم في تشكيل المحكمة يشكك في حيدتها، ويجعل الاعتبارات السياسية وزنا في أحكامها.
استقلالية القضاء
وقال المجلس الأعلى للقضاء إن «السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصر أحكامها وفقا للقانون، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو شؤون العدالة، ولا شك في أن إشراك غير القضاة ممن يختارهم مجلس الأمة والحكومة في تشكيل المحكمة، يعتبر تدخلا في القضايا وفي شؤون العدالة.
وأشار إلى أن التدخل لا يقتصر على الضغط إلى التوصل لحكم معين في إحدى الدعاوى، بل يشمل أيضا التدخل عن طريق التشريع بهدف إشراك أشخاص لا ينتمون إلى الجهة القضائية في شؤون العدالة، وماسا بالاستقلال المقرر للمحاكم، ويعتبر ذلك مخالفة دستورية خطيرة، من شأنها أن تهدم دعامة أساسية من دعــائم الديــموقراطية وسيادة القانــون.
وأضاف المجلس الأعلى للقضاء «وبالنسبة إلى النص الخاص بإفساح المجال لجميع الاشخاص الطبيعيين والاعتباريين في رفع الدعوى بعدم الدستورية أمام المحكمة الدستورية بدعوى أصلية (مباشرة)، فإن الأنظمة المختلفة والمطبقة في دول العالم التي تأخذ بمبدأ الرقابة على دستورية التشريعات، كانت ماثلة أمام المشرع عند وضع النص الحالي في قانون إنشاء المحكمة الدستورية.
وتابع «وقد آثر المشرع أن يستن طريقا وسطا، محددا وسائل استنهاض اختصاص المحكمة تأخذ به معظم الدول في هذا الشأن، فلم يكتف بطريق الدفع المبدي من ذوي الشأن أمام مختلف المحاكم حتى إذا ما تبينت جديته، أحالت الأمر إلى المحكمة الدستورية، وإنما اضاف إلى ذلك حق أي محكمة إذا تراءى لها عدم دستورية نص لازم، للفصل في النزاع المطروح عليها، ووجود شبهة بعدم دستوريته، في أن توقف الدعوى وتحيل الأمر إلى المحكمة الدستورية، للفصل في المسألة الدستورية.
وأكمل «كما أجاز لذوي الشأن الطعن على الحكم الصادر من محكمة الموضوع بعدم جدية الدفع أمام لجنة فحص الطعون بالمحكمة الدستورية، فإذا تراءى لها استقامة الحكم في هذا الشأن على أسبابه، أيدته وإذا وجدت شبهة ظاهرة بعدم دستوريته أحالته إلى المحكمة الدستورية بكامل هيئتها للفصل فيه، مكتفيا المشرع بهذه الوسائل خشية أن تؤدي إباحة حق الطعن المباشر إلى إساءة استعماله، بما يكدس القضايا أمام المحكمة الدستورية ويعوقها عن التفرغ لمهامها الجسام.