تنتقل الجماعة من الهمجية والبربرية إلى المدنية والحضارة ، عندما تعرف النظام وتفهم معنى حدود كل شخص وأى عمل ، وهو ما يتأدى بها إلى ما يُعرف بحكم القانون (Rule of law) حيث تكون السلطة الحاكمة والمؤثرة هى المؤسسات ، ويكون كل شىء فيها وكل نشاط بها محكوما بالنظام (Discipline , system أو order) . فيجرى النظام من تلقاء نفسه لينطبق على الأحداث والأشخاص ، دون ما إرادة فردية تعوقه أو تمنع تطبيقه .
فإذا قام على نظام الحكم إنقلاب (Coup d’état) ، أو قامت فى الشعب ثورة ، فإن هذه الثورة وذاك الإنقلاب لابد أن تكون له أهداف يستنفدها فى مدى معين ، بعده ينتهى الإنقلاب وتنتهى الثورة ، ويعود حكم القانون . فإذا لم يحدث ذلك وكان ثم إدعاء بإستمرار الثورة فإنه يكون أمرا مؤديا لا ريب إلى عدم وجود رجال دولة (statesmen) وإنما أعضاء عصابة (gangsters) .
ولقد وصف ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عام 1953 الإنقلابيين فى مصر بأنهم عصابة مسلحة (Armed gang) ، وهذا الوصف هو الذى أطلقه عبد اللطيف بغدادى أحد كبار الإنقلابيين فقال إن مصر تحكمها عصابة (gang) وهو ذات الوصف الذى ذكره عبد الناصر للسادات ، إذ قال له إن مصر تحكمها عصابة .
ومعنى وجود عصابة تحكم ألا يكون هناك قانون بل إرادة حاكم أو حكام ، كما لا يكون فيها أمر محدد أو نظام واضح أو إختصاص ظاهر صريح ، إذ يتداخل كل شخص فى كل شخص ، ويتخالط كل أمر بكل أمر ، ويتماهى كل شأن فى شأن فى غيره .
وإذ كانت الدراسة السابقة قد حرصت على تحديد الأحداث وترتيب التواريخ فإن هذا القسم منها يتخصص بمسائل أخرى ، لم تُذكر حتى لا ينقطع السياق . لكن لا معدى ، ولا مفر من بيانها وتحديدها .
(أولاً) فقد إنتهى الوضع فى الشرق الأوسط قبل حرب 5 يونيو 1967 إلى إستقطاب كل القوى فى محورين ، أحدهما يتبع الإتحاد السوفييتى الماركسى (الروسيا الآن) ويتسلح منه ويحمى مصالحه ، وهو محور يقف نظام الحكم المصرى على رأسه ، أما ثانيهما فهو يلحق بالغرب ويتسلح من بلادها ومن الولايات المتحدة خاصة . وبهذا ينحل الصراع بين المحورين ، إلى صراع بين كل من نفوذ الإتحاد السوفييتى وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة .
ولا يمكن فى هذا المناخ الإدعاء بوجود إرادة مستقلة حرة لدولة من دول الشرق الأوسط ، لأن كلُّ يلتزم إرادة حلفائه وحُماته الذين يرعونه ويزودونه بالسلاح ، وغير السلاح مما يلزم للحروب من معونات وتدريبات وغيرها ، فضلا عن التأييد والتعضيد فى المحافل الدولية .
(ثانياً) أن الولايات المتحدة كانت ترغب فى حل المشكلة (التى أوجدها النظام المصرى بحشد قواته العسكرية وإغلاق مضايق تيران) حلا سياسياً . وفى ذلك كتب جونسون الرئيس الأمريكى فيما بعد .
I have never concealed my regret that Israel decided to move what it did .
وهو ما ترجمته : لم أُخْف أبداً أسفى على أن إسرائيل تحركت حين أرادت .
ويقول المؤرخ مايكل أورين أن دين راسك وزير الخارجية كان غاضبا بشدة (mad as hell) عندما قام الإسرائيليون بالحرب لأنها نسفت جهوده الدبلوماسية .
ولعل هذا هو السبب الحقيقى وراء ضرب البارجة الحربية الأمريكية (liberty) يوم 8 يونيو ، لأن إسرائيل خشيت أن تفسد هذه الباخرة أعمالها وعدوانها . ثم إعتذرت بعد ذلك وقالت إنه حدث من باب الخطأ .
وكان رجال السياسة (المؤسسة السياسية) فى إسرائيل لا يرغبون فى حرب شاملة ، غير أن رجال الجيش (المؤسسة العسكرية) كانت ترغب فيها بشدة ؛ لكنها كانت تخفى أهدافها وخطتها عن المؤسسة السياسية . وفى هذا المناخ المتعارض اقترح إيريل شارون إعتقال جميع رجال السياسة حتى تنتهى الحرب ، وهو ما لم يحدث.
(ثالثاً) أن إدعاء دخول الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الحرب بجوار إسرائيل كان عرضا تليفونيا من عبد الناصر على الملك حسين لإخفاء الهزيمة ، ونسبة الأعمال الحربية لقوى أكبر منها هى الولايات المتحدة وبريطانيا ، وقد أعلنا ذلك فى 6 يونيو 1967 . وفى مؤتمر القمة الذى انعقد فى الخرطوم (سبتمر 67) أنكر عبد الناصر تدخل أى من البلدين المذكورين فى الحرب ، كما أنكره الملك حسين فى تصريح له بنيويورك يوم 30 يونيو 1967 .
ونشرت صحيفة نيويورك تايمز تكذيب عبد الناصر لهذا الإدعاء .
(رابعاً) أن عبد الناصر صرح لأعضاء حزب البعث الذين قابلوه عام 1964 أنه لا يستطيع محاربة إسرائيل لأسباب شرحها لهم ولم يشأ أن يعلنها إلى الشعب المصرى والعربى . ووفقا لعادة العرب فى الثرثرة وعدم كتمان الأسرار فإن واحداً أو أكثر – إن لم يكن جميع أعضاء المجموعة التى قابلت عبد الناصر – قد أذاعوه وأشاعوه ، حتى وصل إلى إسرائيل .
وفى هذا الصدد يشار إلى أن جونسون نفى لأبا إبيان وزير خارجية إسرائيل أى طابع عدوانى للقوات المصرية المحتشدة فى صحراء سيناء ، وقال إن طابعها دفاعى .
(خامساً) بعد الحرب – كما تقول المراجع – بدأ هيكل فى نشر سلسلة من مقالاته التى كانت تذاع تلقائيا فى المذياع ، وهى مقالات تبرر الهزيمة (التى كان قد سماها نكسة setback) بأن الجيوش العربية لم تكن تحارب إسرائيل وحدها ، بل قوات من الولايات المتحدة وبريطانيا ، وكان يؤكد فيها أنه يوجد حلف بين الولايات المتحدة وإسرائيل .
وفى كل كتب التاريخ التى يدرسها الطلاب فى المدارس تأكيد على أنه لم تكن هناك هزيمة بل نكسة ، بسبب وقوف القوات الأمريكية والبريطانية بجانب القوات الإسرائيلية .
(سادساً) كان عبد الناصر – شأن أغلب العرب يأخذ كل شىء على محمل شخصى (personal) ويتوسع فى ذلك ، فيعتبر أن كل معارضة لرأى له هى خيانة لمصر ، وقد طابق فى ذلك بين شخصيته وبين مصر ، مع وجود فاصل بينهما لا ريب .
وعلى مستوى الدول ؛ فقد حدث نزاع بينه وبين بريطانيا ، وفرنسا ، والولايات المتحدة ، وألمانيا ؛ فضلا عن كثير من البلاد العربية كالسعودية والأردن وغيرهما .
وكذلك اختلف ثم اختصم مع قائد الإنقلاب اللواء محمد نجيب ، ومع كل أعضاء الإنقلاب (الذى سمى مجلس قيادة الثورة) ثم اختلف مع توأمه الروحى عامر وأخيه الطيار زوج ابنة عامر وهكذا ، وكذلك مع أصدقائه المقربين وتخص الدراسة منهم (الرائد) لطفى واكد و (النقيب) محسن عبد الخالق ، وهكذا كان فى خصام وشجار مع الجميع دولا وأشخاصا ، مما يكون سببا أو نتيجة لوجود نزعة خصامية لديه .
وقد ذكر محمود رياض وزير الخارجية للجنرال اجنار ريكى أن السوفييت طلبوا من عبد الناصر حشد قواته العسكرية فى سيناء ، لتخفيف الضغط (الموهوم) على سوريا ولأنهم كانوا يريدون التخلص من حزب البعث ويعيدوا سوريا إلى حكم عبد الناصر المعتدل (!!) . ولعل هذه النقطة هى مقطع النزاع ومفصل الصراع فى كل ما حدث قبل حرب 5 يونيو 1967 ، والسبب الرئيس فى إصداره أمرا بوضع حشود عسكرية فى صحراء سيناء ثم غلق مضايق تيران وخليج العقبة (دون سبب جدى) . فقد كان انفصال سوريا عن حكمه عام 1961 ضربة موجعة ، أخذها على محمل شخصى وصار كمن هجرته زوجه ، يريد أن تعود إلى عصمته بأى سبب وأى ثمن ؛ يضاف إلى ذلك أن الهجمات الإعلامية التى أذاعت – ولو ضمنا – ما كان قد وافق عليه سرا ، من فتح مضايق تيران وخليج العقبة للملاحة الإسرائيلية وغير ذلك – كانت جرحا غائراً لكرامته وزعامته ، فصارت لديه رغبة جامحة لتغيير الوضع السياسى بإنشاء وضع عسكرى يلوّح بحرب لا يريدها ويعرف أن جيشه غير مؤهل لها آنذاك ؛ خاصة مع وجود عدد كبير منه فى اليمن ، التى بدد فيها الغطاء الذهبى للجنيه المصرى ، مما أدى ويؤدى وسوف يؤدى إلى أزمات مالية وإقتصادية فى مصر .
وقد كان عامر مثله فى ذلك يأخذ كل شىء على محمل شخصى ، وأمثال هؤلاء لا يصلحون لبناء دول أو قيادة جيوش ، لأنهم لا يمكن بتكوينهم أن يكونوا رجال دولة (statesmen) أو رجال سياسة (politicians) وإنما يجنحون إلى أن يكونوا مثل رجال العصابات (gangsters) . وليس أدل على ذلك من أن عامر كان قد وضع حائطا لضرب دبابات العدو فلما أشير عليه بأن ذلك الوضع غير مجد قال : أصل أنا بينى وبين موشى ديان ثأر (بايت) من حرب 1956 ، فهو يتصرف كصعيدى جاهل يفكر فى الثأر ولا يتصرف للنصر .
(سابعاً) اقتصرت الدراسة على ما حدث فى مصر ، حتى الضربة الجوية الإسرائيلية ، صباح يوم 5 يونيو 1967 ، لأن ما حدث فيها كان هو المحرك الأساس والسبب الرئيس لنشوب الحرب . ومع ذلك فيذكر أن الأردن جمع قوات الإحتياط وقال لهم قائدهم “فى ظرف 3 أيام سوف نكون فى تل أبيب” وهو ذات ما قاله اللواء الشرقاوى الذى سلم الجنرال ريكى الساعة 10 مساء يوم 15 مايو الرسالة الكتابية الصادرة من رئيس هيئة أركان الجيش المصرى لسحب قوات الطوارىء ، بأنه سوف يتناول معه (مع الجنرال ريكى) العشاء فى تل أبيب بعد سبعة أيام . نفس الأسلوب وذات العبارات ، مما يشير إلى تطابق الفهم والتعبير لدى كثير من أفراد العرب .
(ثامناً) لم يقل المتحدث (هيكل) كل الحقائق ، والمثل يقول إن : نصف الحقيقة (هى) كل الكذب . فهو لم يذكر واقعة اتصال وزير الخارجية المصرى محمود رياض بالبلاد التى تشارك قوات لها فى قوات الطوارىء ليقرر لهم أن مهمة هذه القوات قد إنتهت ، حتى قبل أن يصدر قرار بذلك من يوثانت . ولم يذكر أن الأصول العسكرية تمنع القائد الأعلى للقوات المسلحة (جمال عبد الناصر) من إصدار أمر بحشد قوات عسكرية فى صحراء سيناء قبل أن تعد خطة واضحة ودراسة مفصلة ومهام محددة عن الإجراءات العسكرية التى سوف تُتبع ، ولم يجتمع عبد الناصر بقيادات الجيش إلا فى يوم 28 مايو – بعد أن سبق السيف العذل .
فوضْعه الجيش فى حالة حشد مادى دون ما خطة يعتبر خطأ فادحاً ، خاصة وأنه رجل عسكرى .
ولا تريد الدراسة أن تتبع المتحدث فى كل أقواله ، لأنه يحوّم حول الموضوع ولا يدخل فيه . ثم إن القصد من هذه الدارسة أن تكون بياناً للواقع وليس ردا على المتحدث .
ثم ماذا ؟
هذه الدراسة هى مجهود شخصى ، لا يدعى أنه يسلم من أى خطأ أو قصور ، لأن حرب 5 يونيو تحتاج إلى كتب لا إلى دراسة موجزة ، ومحكومة بظروف النشر . ويرجى مع ذلك ، أو بسبب ذلك ، أن يتخصص لهذه الواقعة (حرب 5 يونيو) لجنة قوامها أساتذة للتاريخ وضباط من الجيش ورجال من القانون – يبحثون فى تؤدة وتأن فى كل شىء ، خاصة وأن بعض الأشرطة التى سُجل فيها حديث عبد الناصر مع الضباط فى قاعدة أبى صوير وفى قاعدة قرب بلبيس قد أحرقت لإخفاء ما جاء فيها وما هو لازم لبيان الحقيقة .
وبغير ذلك فسوف تظل الذاكرة المصرية والعربية مضطربة تمتلىء بالأكاذيب وتتنكب الحقائق ، ويابئسها أمة تصل إلى هذا الحد من التخليط والتخبيط والتحنيط .
المراجع الرئيسية
1.. sacher, Howard ; A History of Israel from the rise of zioism to our time . newyork 2007 .
2.. Israel (country) Encarta encyclopedia .
3.. orea, michaet : the six day war , in bar – on mordechai : never-ending conflict : Israel military history, greewwood publishing group 2006 .
4.. year book of the united nations 1967 .
5.. bregman, ahron : Israel’s wars 1947 – 1993 .
6..segev, Samuel : a red sheet : the six day war .
7.. the nassar and his enemies : foreign policy diction making in Egypt on the eve of the six day war .
8.. shalaim, avi : the Iron wall : Israel and the arab world .
ومؤشرات البحث الألكترونى
Google , yahoo, msn فى الموضوعات المنشورة تحت عنوان حرب 5 يونيو 1967
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة