لائحة المفاسد التي تقتلنا وتسمّم يومياتنا تصيبنا بالضجر؛ ضجرٌ، هو افضل السُبل لالهائنا عنها. مع اننا شعب «نقاق» تاريخيا. واحدة من العقائد المؤسّسة لكياننا هو انه لم يعجبنا بالاساس. فعل النق عندنا رياضة وطنية جامعة، تحولت مع الوقت الى واحدة من اوهامنا الديموقراطية؛ ننقّ تعبيرا عن «حرية «، ونسميها نقدا لنظامنا السياسي…
ولكن، النق بدوره صار مملا، ولم يعد ممكنا وصف هذا النظام من غير الاستنجاد بالكوميديا السوداء، من غير توليد المشاهد، الواحد تلو الآخر، طالما اننا بازاء ادوار وخشبة فحسب.
كان نظاما وحكومة في ظل وصاية سورية لثلاثة عقود. نظام ديموقراطي تعددي يحكمه ويتحكم به نظام سوريا الديكتاتوري. كان يتدخل في اصغر تفاصيله وتفرعاته (تعيين مدير كلية منسية للجامعة اللبنانية مثلا، لا حصرا). فكان انحراف في النشأة نال من مجمل «النخبة» السياسية، أو رجالات السياسة، او الطبقة السياسية، او المسؤولين، او السلطة… سمّها ما شئت؛ شبّوا تحت جناح نظام، يأتي الهمّان المعيشي والوطني لـ»رعاياه» في آخر سلم اولوياته، إن أتيا؛ فما بالك بالهمّين الكبيرين لبلد منكوب بحربه الاهلية، مشرّع للهيمنات الخارجية، افرد عليه هيمنة تأتي عليه بخيرات من النوع التي لن يجدها في غيره من البلدان؟
ثم أتت بشائر عهد تاريخي جديد، عبر ثورة ضد هذا النظام تهدر من الاعماق، لم تنتصر عليه ولا اسقطته بعد… ولكنها بالتأكيد أشغلته عن الامساك بتفاصيل ومتاهات نخبتنا، طالما انها «باقية»، تحت الشعار «النأي بالنفس» الذي لم يعد عبقريا، لا طُبّق ولا خولِف. فقط وفّر هامشا هائلا من الحرية لصولات وجولات لم يكن يحلم بها هؤلاء الرجالات في اسعد رؤاهم.
وفي هذا الهامش من «الحرية» الممنوحة من نظام مأزوم، يسرح ويمرح ابناء «نخبتنا» على خشبته السائبة، ينهشونه، يسلبونه، من غير ضابط واحد، من غير مرجعية واحدة… من غير رادع واحد الا سلاح «حزب الله» الذي لا يصلح هنا، لأنه ببساطة هو نفسه متورط في فضيحتَي تشكيل هذه السلطة وإفسادها.
هي حكومة «اللون الواحد»، التي اتت بانقلاب، «دستوري» في الشكليات، مسلح بالواقع. يجوز توقع البديهيات اللبنانية في بدايتها، من ان اطرافها متفقون، بالطبع، على الحصص التي «تطلع» لكل واحد من اطرافها. ولكن من سوء حظها، أو «من حسنه» يتصور الضالعون بوزاراتها، ان سقفها السوري الواقي ثُقب، وصارت فعاليته محدودة. ما جعل هذه الحكومة ضاربة ارقاما قياسية في الصراع والتمزّق وانعدام القرار.
عبارات احصيت عن العلاقة بين الاطراف المكونة لحكومة اللون «الواحد»، توحي وكأنك في حلبة صراع وجودي. اليك بعضها: «كل اختبار حكومي اختبار جديد»، «قطوع وراء قطوع» تجتازه هذه الحكومة، «إستحالة الاتفاق» من اعضائها. ولتتويج الذخيرة اللغوية: «توازن الرعب»، ليس بين اسرائيل و»حزب الله»، انما بين أعضاء الحكومة الواحدة. أو «لا غالب ولا مغلوب» بينهم، وهي الصيغة التي كان يخرج به الاطراف المتقاتلون في الحرب الاهلية اللبنانية بعد اتفاقهم على تهدئتها.
مقابل وصف لحال السلطة هذه، وبلغة اصحابها، كلام يفرغ تماما من معناه عندما يصرح وزراء أو مسؤولون عن حرصهم على صحتنا، «صحة المواطن قدس الاقداس»، أو «الامن الغذائي للبنانيين لا يجوز ان يكون لعبة بيد احد»… تشبه هذه التصريحات التظاهرات «المعيشية» التي يحثّ عليها أو يوعِز بها، اطراف في الحكومة نفسها. حكومة تتظاهر ضد نفسها… وما نسمعه وما نراه يوميا لا يعني ما يقول، ولا ما يفعل… هل فهم المواطن اللبناني ما قاله وزراء معنيون بالفضائح المتسلسلة في مؤتمراتهم الصحافية؟ باستثناء ان الصحافة هي المسؤولة عن الاساءة الى «صورة لبنان»؟ أو المعنى الذي اعطاه، أيضا، أحد المسؤولين، لظاهرة رمي لحوم أو اسماك أو طيور أو مياه أو دواء…. فاسدة، من ان «السوق ينظّف نفسه بنفسه»؛ أي افهم يا مواطن! لا حاجة الى تحقيق او قضاء او اعلان عن اسماء أو أي اجراء تنصّ عليها قوانين لبنانية شتى للكشف عن المتورطين بالتسبب في قتل المواطنين، ببطء او بسرعة. «السوق ينظف نفسه بنفسه» يعني ان الجميع بريء، الجميع رابح، كما في مدرسة الاطفال الهواة… بعد إدخال بعض كبوش الفداء الى السجن او إخضاعهم للتحقيق.
في مقلب آخر، الوطني، وعلى صلة حميمة بالمعيشي، احتدام الانقسام المذهبي من دون انفجار. الوضع «مستقر على نحو مفاجئ«، يكتب احد المراقبين الغربيين. ما الذي يجعلنا لا نتقاتل، كما الِفنا، وكما تسمح به التعبئة التي يشحننا بها الوضع السوري، ليل نهار؟
«وطنية لبنانية» غير معلنة، يجيبك البعض. حرص لبناني ضمني ان لا تعود حرب اهلية لوّعتهم؛ بل لامبالاة مقصودة تحاكي اللامبالاة السورية الماضية لمأساة حروبنا، وصمت سوري شعبي عنها. «كان دورنا… والآن دورهم»، يتمْتمون.
«قرار اقليمي دولي» بحماية الحكومة التي الفها «حزب الله»، يقول آخرون تفسيرا لعدم حصول الانفجار المنتظر بين خصوم يحمّسون انفسهم كل يوما بعد يوم.
فيما يفسر بعضهم الآخر: «معارضة زاهدة بالحكم»، و»سلطة تنام على حرير استمرارها»، وما بينهما من «وسطيين» يشكلون بيضة القبان، يمشون على خط رفيع دقيق، يتأرجحون فيه، مع كل هبّة ريح آتية من دمشق، أو من حمص. والانشغال الأعمق الآن هو كيفية تأمين البقاء في السلطة في الانتخابات النيابية المقبلة. ليس بتطريز القوانين الضامنة للفوز فحسب، انما ايضا بتحويل المحاصصة الى غزوات خاطفة، جنت حتى اللحظة مكاسب هزيلة وتناقضات فجة، تلاحظها العين المجردة وتنفيها العيون المغمضة.
التفسيرات الثلاث تكشف «الحالة اللبنانية» مع الثورات العربية، السورية خصوصا. انها حالة بلد ينتظر، يقبل بضياع وقته، مقابل جني ما تخبئه له اقدار المنطقة الثائرة. ينتظر لأنه لا يستطيع ان يأخذ قراره بيده. لا استقلال ولا سيادة. فمن جهة «نخبة» سياسية لا تستطيع الإنفلات من الوصاية عليها من دون الغرق في الانحراف السياسي، نخبة لها نفسية المراهق، وروح الداهية، المنجرف في لذة اكل حصته، ومع ذلك، لم يعد يعرف من اين تؤكل الكتف. ومن جهة اخرى شعب مستنكف عن صراع سوف يقرر مصيره ومصير نظامه، ولكنه لا يمل لعبة انقسامه المغرية لغريزته.
التقيتُ بسيدة لم تكفّ عن النقّ حول موضاعتنا الحياتية اياها: حليب الاطفال، اللحمة، الدواء، السمؤولين، الوزراء، المنافقين، أكلة لحوم البشر، المنحطين، المافيا، الله يخرب بيتهم، الله لا يسامحهم… لم تتوقف دقيقة، كانت في حالة من الغضب الشديد. عندما هدأت قليلا سألتها سيدة اخرى: «حسنا. الآن الانتخابات على الابواب. هل تنتخبين فلان نفسه من الذين سوف يتقدمون الى الانتخابات؟ فلان نفسه الذي لم تعفه من ظلم دعواتك ولسانك؟ هل تمتنعين عن التصويت على الأقل؟». نقزت السيدة من السؤال، ولكنها اجابت بسرعة وعفوية: «انا اصوت له ليس حبا بعيونه، ولكن كراهية بالطرف الآخر»، غامزة بعينها… من اننا فهمنا طبعا من هو «الطرف الآخر»، الخصم المذهبي. السيدة الناقمة على مندوبها الى البرلمان لن تصوت لسواه، حتى لو كان هناك «بديل محترم»، لأنها تريد من يقف في وجه «خصمنا» من «الضفة» الاخرى، من الحدود الاخرى؛ نائب وزعيم «قوي… يضعفهم…». ذاك هو الاتون الذي نحن منغمسون فيه منذ دهر. ولكنه اليوم استفحل، وصار ينال بصمت من حياتنا وحياة اولادنا…. صار سمّا زعافا يقتلنا.
فهل ما نشهده اليوم هو حشرجات نظام في لحظات سابقة على موته او انتقاله، ولكنها حشرجات طويلة، تمتد زمنا، نموت اثناءه ببطء؟ هل هذا هو الثمن الذي علينا دفعه الآن، نوع الثمن، مقابل عدم تقاتلنا المباشر والصريح، كما تمليه عواطفنا السياسية المتأججة وتوازنات الرعب في ما بيننا؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل