فى يناير عام 1978 عدت إلى مصر بعد غيبة شهرين فى الخارج – بين باريس ونيويورك. عندما قابلت وزير العدل قال لى إنه أثناء غيبتى عن مصر أنعقد فيها مؤتمر لوزراء العدل العرب أقترحوا فيه وضع كتاب عن “مساقى الشريعة” وعهدوا بالأمر إلى وزارة العدل المصرية. وأضاف الوزير أنه لا يجد بين رجال القضاء المصرى أحداً جديراً بوضع هذا الكتاب إلّاى. سألته عن المقصود من وضع كتاب بهذا المعنى، وهل توجد ضوابط أو إتجاهات معينة لكتابته أم أن الأمر متروك لمن يكتبه؟ قال: إن الأمر متروك لك لتكتب كتاباً عن هذا المعنى، فيه تجديد للفكر الدينى، يقدم خطاباً جديداً ومستحدثاً. سألته عن تاريخ إنعقاد المؤتمر المقبل لوزراء العدل العرب، فقال إنه سوف ينعقد فى سبتمبر القادم (1978).
عندما خلوت إلى نفسى، تذكرت أنى منذ أكثر من شهر سابق كنت وتوفيق الحكيم فى باريس، كلانا يمثل مصر فى مؤتمر، فمؤتمره عن المسرح ومؤتمري عن حق المؤلف (Copyright). وأثناء أن كنا نتجول ذات يوم فى جامعة السوربون ليسترجع الحكيم ذكرياته عن الفترة التى قضاها فى العشرينيات طالباً يدرس الحقوق جرى بيننا حديث عن الشريعة الإسلامية، طال حتى خرجنا من السوربون وإتجهنا إلى حدائق اللكسومبورج وجلسنا على مقعدين فيها. ولما أنتهى الحديث سُرّ الحكيم لما سمع وقال إن عليك أن تكتب كتاباً يتضمن وجهة نظرك فى الشريعة، فإنك بكتاب واحد مثل هذا، سوف تستطيع التأثير فى جيل بأكمله.
ولما انتهى الحديث بينى وبين وزير العدل إلى الإتفاق على أن أكتب كتاباً عن الشريعة الإسلامية، يتضمن تجديداً لها، وتذكرت كلامى فى باريس مع الحكيم، رأيت أن المسائل تجرى بقضاء، حتى أنشر ما كنت متريثاً فى نشره؛ وهكذا ظهر كتابى “أصول الشريعة” الذى أثار ضجة كبرى نتيجة الإحتكاك بين النقل (وهو الأسلوب الإسلامى منذ عهد أبى الحسن الأشعرى وأبى حامد الغزّالى، والعقل الذى كان أسلوباً للفقه الحنفى “نسبة إلى أبى حنيفة” ثم درس مع الأيام وتوراى تحت حجب كثيفة من التقليد والإتّباع).
ورد لفظ الشريعة فى القرآن مرة واحدة
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها) سورة الجاثية الآية 18.
ثم ورد فعل له واشتقاق ثلاث مرات:
(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) سورة الشورى الآية 13.
(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) سورة المائدة الآية 48.
(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله) سورة الشورى الآية 21.
وقد ورد فى كتب اللغة أن كلمة شرع تعنى ورد. شرع الوارد: تناول الماء بفيه.. والشرعة والشريعة: كشريعة الماء، أى مورده. ثم أصبح معنى اللفظين: الشرعة والشريعة، ما سنّ الله من الدين وأمر به. وقيل الشرعة هى المنهاج أو الطريق (لسان العرب: مادة شرع، المعجم الوسيط نفس المادة).
فلفظ الشريعة يعني – فى اللغة أصلا – مورد الماء أو مدخل الشيء.
وهو منهاج موضوع البحث أو الطريق إليه، وهذا هو المعنى الذى قصد إليه القرآن.
ولصعوبة تلخيص الكتاب، فإننا نعرض أهم ما جاء به.
أولاً: الشريعة والفقه: فالشريعة هى ما نزل من الله من أحكام، أما الفقه فهو ما صدر عن الناس من شروح لما نزل من الله، أو تفسير له، أو تطبيق.
وقد تسلّف الإسلام الخلط – بين ما نزل من الله وما صدر عن الناس – طريق اليهودية.
ففى اليهودية أن التوراة تعنى الهدى أو الهداية، والإعتقاد أن الله كتبها (ثم أعاد كتابتها) لموسى على الجبل. ولما نشأت بعد عهد موسى واقعات جديدة وحادثات مستجدة لم يكن لها فى التوراة حكم أو وُجد حكم رؤى التجاوز عنه بحكم آخر نشأت التلمود، وهى تعنى التعاليم التى صدرت عن الأحبار. وبعض هذه التعاليم كانت تقدم حكماً جديداً أو تعدّل حكماً قائماً. مثال ذلك أن فى التوراة حكم يأمر بنى إسرائيل “ألا يقبلوا ثمن الدم” أى أن لا تُستبدل بالعقوبة دية أو عفو. ولما رؤي – لاعتبار جدّت – تجاوز هذا الحكم أصدر أحد الأحبار فتوى أو تعليماً له بإمكان – قبول الدية (وهى ثمن الدم) خلافاً لما كان قد جاء فى التوراة.
وقد حدث نفس الخلط لدى المسلمين، فألحقوا الفتاوى والشروح والآراء التى تصدر عن الفقهاء، وتكوّن ما يسمى “الفقه الإسلامى” إلى الأحكام الشرعية التى هى الشريعة، وأصبح لفظ الشريعة يطلق على ما نزل من عند الله مع ما صدر عن الناس (الفقهاء أو القضاة أو غيرهم).
ويظهر هذا الخلط واضحاً فيما جاء فى نص المادة الثانية من دستور 1971 من أن “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع” وما جاء فى الترجمة الإنجليزية الرسمية للنص ذاته من أن:
Islamic Jurisprudence Is The Principal Source of Legislation.
أى إن الفقه الإسلامى هو المصدر الرئيسى للتشريع.
ووضع تفرقة بين الشريعة والفقه أمر ضرورى للفصل بين ما نزل الله وما صدر عن الناس. فالذى يأمر الدستور بتطبيقه هو أحكام الشريعة وليس أحكام الفقه، والخلط الذى يحدث فى هذا الصدد يؤدى إلى أخلاط فى الفهم والتقدير، وإلى إسباغ قداسة على الفقه الذى هو آراء الناس التى ليس لها أية قداسة، ويمكن تغييرها وتعديلها متى أقتضى الأمر ذلك.
ثانياً: أن تنزيل الشريعة (أو تطبيقها) يشترط قيام مجتمع دينى مؤمن إيماناً حقيقياً، حتى لا تُستعمل الأحكام الشرعية فى أمور غير شرعية.
وفى هذا المعنى قالت عائشة زوج النبى (صلعم): إنما أُنزل أول ما أنزل من سوره (القرآن) من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحرام والحلال. ولو أُنزل أول شئ لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً. (أخرجه البخارى فى صحيحه).
ثالثاً: تفسير آيات القرآن يكون على أساس أسباب التنزيل، والتى غالباً ما توجد فى الآيات.
لم يضع القرآن نظاماً لتفسير آياته. وفى الفتنة الكبرى التى ابتدأت منذ النصف الثانى من خلافة عثمان ابن عفان اتهمه خصومه بالكفر لأسباب تتصل بما رأوا أنه سوء إدارة منه، بمحاباة الفرع الأموى الذى ينتمى إليه، ولجئوا فى ذلك إلى آية فى القرآن ليبرروا بها قتله، فقالوا إنه كفر، وركنوا فى أتهامه بالكفر إلى الآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) سورة المائدة آية 44.
وعندما خرج الشراة (التى سماهم الغير بالخوارج) على علىّ ابن أبى طالب كانوا يصيحون فى وجهه كلما دخل المسجد قائلين (إن الحكم إلا لله) سورة يوسف آية 40، 67 ؛ يريدون الاعتراض على قبوله التحكيم على الخلافة بينه وبين معاوية ابن أبى سفيان، وكان علىّ يرد عليهم قائلاً (قولة حق يراد بها باطل).
ومن وقت الفتنة الكبرى صار تفسير آيات القرآن يجرى على عموم الألفاظ لا على أسباب التنزيل، وصارت تلك قاعدة يلتزمها علم أصول الفقه. ولأن هذه القاعدة تؤدى إلى تفسير آيات القرآن على خلاف ما أرداه التنزيل منها، فقد قدّم الكتاب نظرية أخرى، هى فى تقديره الأصح والأسلم، إذ أكد على أن تفسير آيات القرآن يتعين أن يكون وفقاً لأسباب تنزيلها، وهو يوجد عادة فى القرآن ذاته. فآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) تبين حقيقتها والقصد منها لو أنها فُسرت على أساس السياق التى نزلت فيه، وهو تحكيم يهود للنبى (صلعم) ليقضى فى واقعة زنا اقترفها يهوديان، ثم كتموا عنه حكم التوراة برجمهما وادعوا حكماً آخر. لكن عبدالله ابن سلام اليهودى الذى كان قد أسلم حديثاً قال للنبى إن الحكم فى التوراة هو الرجم، ومن ثم نزلت الآية (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). فتفسير الآية على أسباب التنزيل يؤدى إلى معنى مخالف تماماً، لإستعمالها وفقاً لعموم الألفاظ. وكذلك الحال فى الآية (إن الحكم إلا لله) فالسياق الذى نزلت فيه الآية هو حديث يوسف ابن يعقوب إلى صاحبيه فى السجن، وحديث يعقوب إلى بنيه. وإلتزام التفسير وفقاً لأسباب التنزيل بقصر الآية على الوضع الذى نزلت بشأنه هو التفسير الصحيح، أما إقتطاع الآية من السياق وتفسيرها على عموم التنزيل فهو أمر يؤدى إلى إستعمالها فى غير ما نزلت من اجله، بما يؤدى إلى المفهوم الخاص بحاكمية الله، وهو ما دحضناه فى مجال آخر.
رابعاً: إن آيات القرآن التى تتضمن أحكاماً تشريعية (قانونية) مطبقة جميعاً فى مصر.
فهذه الآيات تتصل بالزواج والطلاق والوصية والميراث، وهى كلها مُفرغة فى تشريعات منذ عام 1928 وما بعده، ثم أعيدت صياغتها التشريعية فى قانون الأسرة رقم 1 لسنة 2000.
أما فى النواحى المدنية فلا يوجد فى القرآن إلا النص بإثبات الديون كتابة، وهو ذات ما يأخذ به القانون المصرى. وعن الآية (وأحل الله البيع وحرم الربا) فإنها لم تحدد ما هى البيوع المحللة وما هو الربا المحرم، فلجأ الفقهاء فى ذلك إلى آرائهم، فحرموا من البيوع بيوع الغَرر. وهى البيوع التى لا يتحدد فيها المبيع، كالمضاربة والمزارعة وغيرها. وفى الربا فقد أحلوا ربا الفضل، وهى الزيادة على المال المقترض حين لا يفرضها الدائن وانما يقدمها المدين عند السداد طواعية وإختيارا. لكن للخلط بين أحكام الشريعة وآراء الفقه فقد جرى الظن أن آراء الفقهاء هى جزء من الشريعة أو بيان منها.
وبالنسبة للعقوبات الحدية (أى الحدود) فهى أربعة: حد السرقة، وحد قذف المحصنات، وحد الزنا، وحد الحرابة. وهى عقوبات لا تنفذ إلا بعد تطبيق العدالة القضائية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، حتى لا تُستغل الأحكام الشرعية فى غير أهدافها، ولكى تتحقق بالعقوبات غايات المشرع وعلل التنزيل، وبعد ذلك، فإن الفقهاء يقررون أنه (لا حد على تائب، أى إنه لا يمكن تطبيق العقوبة الحدية على من يتوب من الفعل، قبل توقيع العقوبة).
هذه هى مسألة تطبيق الشريعة. فأحكام الشريعة التى تتعلق أساساً بالأحوال الشخصية، مطبقة ومقننة منذ أواخر عشرينيات القرن الماضى. أما فى المسائل المدنية فإغلبها خلْط بين ما جاء فى القرآن (وهو نص واحد) وما صدر عن الفقه. أما الحدود فهى لا تطبق إلا إذا توفرت فى المجتمع عدالة كاملة متكاملة، ذلك بأن تحقيق العدالة أوجب من تطبيق الحدود.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة