في مقابل أي مشروع “شمولي”، يجب البحث عن الراعي الأيديولوجي، الذي يرى في المشروع أنه الخلاص، والذي يستند خلاله إلى الرؤى التكاملية النهائية. الأيديولوجيا الشمولية تخلق واقعا نافيا للجزء ومضحيّا فيه في سبيل بقاء الكل، بدءا من الجزء حينما يكون فردا، أو قضية من القضايا، وصولا إلى كونه بلدا بأكمله، مثلما حصل مع “بلع” الكويت عام 1990.
الكثير من المساعى الإصلاحية والحقوقية والوطنية المدعومة من الغرب، وبالذات من قبل الولايات المتحدة، مرفوضة جملة وتفصيلا من قبل الشموليين، لماذا؟ لأنها تصب في إطار تقوية الجزء على حساب الكل، وتدفع بتقدّم المشروع الوطني على حساب تراجع المشروع الأممي. فالأفكار الإصلاحية الوطنية تصبح عدواً للأيديولوجيا الشمولية حينما تمثل تهديدا لمشروع “الأمة” الشمولي الساعي لتهميش قضايا الوطن المصيرية وإضاعتها في بحر الهدف الأيديولوجي الكبير. وحينما ندقق في المواقف المناهضة للعديد من الثورات العربية، ومنها المواقف الواضحة والجلية لنواب في مجلس الأمة الكويتي، نجدها نابعة من تلك الأيديولوجيا.
فرفض الموقف الغربي، والأمريكي، من الثورات العربية لم يأت من موقف عدائي فارغ، بل أتى من أسس يستند إليها الخطاب الشمولي، قائمة على استراتيجية تعتقد بأن المشروع التغييري الوطني، الديموقراطي، العلماني، الليبرالي، من شأنه أن يمثّل تهديدا للغاية العربية والإسلامية الكبرى. وعليه، كلّما ظهر مسعى إصلاحي حقوقي وطني في مجتمعاتنا، ولحقه دعم أمريكي، استشاط الخطاب الشمولي غضبا وسعى بكل ما يملك من قوة لعرقلة هذا المسعى.
يشترك طرفا الخطاب الأممي، الديني والعروبي، في نظرتهما الشمولية للقضايا. فلو تتبعنا مواقفهما من مختلف أحداث الربيع العربي لوجدنا أنهما متفقان على قضايا كثيرة ومختلفان على أخرى قليلة، والأبرز في هذا الاتفاق والاختلاف هو الرفض المطلق لكل المشاريع الإصلاحية التي للأمريكان يد طولى فيها. فرفض الدعم الأمريكي لتلك القضايا ينبع من طبيعة المشروع الغربي بوصفه يهدّد الوجود الفكري والحركي للتيار الشمولي الأممي.
حينما استطاع صدام حسين أن يبرز قضية التحالف الديني العروبي ويستغلها شر استغلال لصالح سياساته ومشاريعه الظلامية، لم يشعر المنضوون في هذا التحالف بأي ذنب تجاه جرائم هذا الطاغية وتاريخه الفاشي الطويل، لقناعتهم بأن الجزء لابد أن يضحى به من أجل الكل، وبأنه لا يمكن الوصول إلى هذا الهدف المقدس إلا من خلال انتهاك واسع لمبادئ حقوق الإنسان الفرد. فبرز هذا التحالف بقوة على السطح دون أن يتفق على أسس فكرية مشتركة، باستثناء الأساس الشمولي وتحقيق الهدف الأسمى المتمثّل في الدفاع عن قضايا الأمة.
برزت صور هذا التحالف مجددا خلال الثورات العربية الراهنة، وسيطرت إحداها على المشهد السوري، وبات العالم يسمع دعوات تعتقد بأن سقوط نظام بشار الأسد هو بمثابة سقوط لآخر قلاع مشروع “الممانعة” الأممي، العروبي والديني، المناهض لإسرائيل، وأن بقاء النظام هو أولوية أممية شمولية حتى لو كانت النتيجة هي تنفيذ “المجازر” وسقوط آلاف الضحايا وتشريد مئات العوائل.
في عام 2005 حينما تحررت لبنان من الاحتلال السوري، كان ذلك بالنسبة للعروبيين والدينيين عملا مناهضا للمصلحة العليا للأمة، إذ مثّل ذلك شرخا في الجبهة العربية والإسلامية “الممانعة” ضد إسرائيل. لذلك، فإن سقوط النظام السوري راهنا سيعتبر ضربة موجعة لهذه المصلحة، وسقوطا مدويا لاحدى قلاع الفكر الشمولي بشكل عام.
فهناك من يعتقد أن مصير القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والقدس وغيرها من القضايا “المصيرية” العربية والإسلامية، هو أهم من حقوق وحريات ومصالح ومستقبل الفرد العربي والمسلم، الذي يعيش وسط شعوب تعاني معظمها من الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن انتهاك حقوقها وحرياتها، نظرا لسيطرة أنظمة منطلقة في استبدادها وظلمها من أيديولوجيا “الأمة”. فـ”قضايا الأمة” وفق هذا الاعتقاد هي الأساس والأصل الذي يجب الاهتمام به قبل أي شيء آخر، وأن مصير الإنسان الفرد وحقوقه ومصالحه هي قضايا ثانوية. هذا الاعتقاد أنتج ما يسمى بمثقفي الأدلجة ، الذين يدافعون بشراسة عن المواقف الشمولية، كدفاعهم – مثلا – عن مواقف النظام الإسلامي في إيران تجاه القضية الفلسطينية وتجاه معاداة دولة إسرائيل وتجاه نصرة حزب الله وحماس، في حين يتجاهلون عن عمد ودون أي إحساس بتأنيب الضمير سلوك النظام في طهران تجاه الإنسان الإيراني، الذي يعاني قهر واستبداد السلطة الدينية.
إن الهدف الرئيسي للنظام الديني المؤدلج متشابه إلى حد كبير عند الأنظمة العروبية المؤدلجة، لكن الأخيرة تختلف عن الدينية في منطلقاتها، التي تُعتبر غير دينية ومصلحية، إذ سعيها ينصب على تفعيل الرؤى العروبية الشمولية ولو أدى ذلك إلى نتيجة متشابهة بين الطرفين، وهي سحق الإنسان. لذلك نجد أن موقفي النظام الإسلامي في إيران والبعثي في سورية، متشابهان في المبدأ وفي بعض النتائج، لكنهما مختلفان في بعض تفاصيل القضايا المتبناة من قبل كل طرف. فالإثنان يتبنيان “قضايا الأمة”، ويتجاهلان مصير الإنسان ومصالحه وحقوقه. ومخطئ من يظن ان اهتمام هذا النوع من الأنطمة بالقضية الفلسطينية يعكس اهتماما بالإنسان الفلسطيني، إذ لوكان ذلك صحيحا لكان أولى بهما الاهتمام بالإنسان في إيران أو في سورية.
إن المثال الإيراني والسوري لا يعني أن بقية مجتمعات دول منطقة الشرق الأوسط تعيش في إطار سياسي غير مؤدلج وغير مستبد، أو أنها لا تعاني من استغلال المؤدلجين لأنظمة الحكم لتحقيق مآرب سلطوية، فكثير من تلك الأنظمة تعبّر عن سلوك استبدادي، ساهم من جهة في انتهاك حقوق الإنسان، وأدى من جهة أخرى إلى إبراز الاهتمام بـ”قضايا الأمة”، حيث أصبحت تلك القضايا الشماعة التي علق عليها المؤدلجون والمستبدون تمسكهم بكرسي الحكم.
إن الفكر المؤدلج، الديني والعروبي، يعكس أزمة أخلاقية. بمعنى أن ثقافة الأنظمة السياسية المؤدلجة ومواقف أنصارها لا تعير أي اهتمام بحقوق الإنسان ومصالحه، التي أصبحت العنوان الرئيسي لموضوع الأخلاق في العصر الحديث، بل تهتم بمصيرها وبقائها في السلطة ولو أدى ذلك إلى سحق الإنسان ومحاصرته بالحديد والنار والسيطرة عليه بمختلف صنوف الاستبداد والظلم. لكن، لماذا لم يهتم المؤدلجون بحقوق الإنسان؟ فإن ذلك يعود إلى أسباب عديدة، لعل أهمها هو عدم وجود ثقافة في منظومتها الأخلاقية تعير اهتماما بحقوق الإنسان الفرد، بل همها هو “الأمة وقضاياها” ولو أدى ذلك إلى سحق الإنسان.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com