قضى التيار بقيادة جنكيز خان على بغداد عندما غزوها (صفر 656هـ – 1258م)، إذ أباحوا المدينة للجنود ثلاثة أيام، فقتلوا الرجال واغتصبوا النساء وحرقوا المكتبات؛ وبعد هذا الغزو الوحشي خرجت بغداد من نور التاريخ والعمار إلى ظلام الجهالة والخراب، ولم تعد إلى حالها الأول أبداً، لكن في العصر الحديث شرعت في العودة إلى ضياء الحضارة وبهائها. وظلت ديار الإسلام بلا خلافة مدة ثلاث سنوات ونصف حتى عام 659هـ – 1260م حين عادت في مصر.
فبعد سقوط الخلافة الفاطمية، دانت السلطة في مصر إلى السلطة الأيوبية وغيرها، غير أن مفاتيح السلطة ظلت في أيدي المماليك، الذين ظلوا يتكاثرون، بشراء المماليك المستمر من جنوب الروسيا (بلاد القوقاز : الشيشان والداغستان وغيرها)، ومن جركسيا (شركسيا) ليزيدوا في عُزوتهم وعُدتهم؛ حتى صارت لهم سلطنة في مصر. وإذ كان المماليك رقيقاً (أي عبيداً) فقد كانوا في حاجة إلى خلافة – ولو صورية – لإضفاء الشرعية على حكمهم، على الأقل، أمام الشعب. وفى حكم السلطان الظاهر بيبرس (من المماليك الجراكسة أو المماليك البحرية) أحضر له بعض العربان شخصاً أسود اسمه أحمد أبو القاسم وادعوا أنه من سلالة العباسيين فنصبه السلطان الظاهر بيبرس خليفة باسم المستنصر، ونصب هذا بدوره الظاهر بيبرس سلطاناً، ومن ثم أصبحت القاهرة – بدلاً من بغداد – مقر الخلافة العباسية (الثانية).
وعندما وُلى بعد المستنصر الخليفة الحاكم بالله (العباسي) قال في أول خطبة له (…. أيها الناس إعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام… والسلطان ركن الدنيا والدين….) وبهذا التقرير يكون الخليفة قد أشار إلى منصبه بلقب الإمامة لا الخلافة، وهو تعبير شيعي، كما أنه اعتبر الإمامة فرض من فروض الإسلام، دون أن يذكر – أو يسأله أحد أو يناقشه فقيه – أي فرض هي؟ وهل هي فرض أضيف إلى فروض الإسلام (أو أركانه) الخمسة لدى السنة فأصبحت الفروض ستة كما هي لدى الشيعة؟ أم أنه كان يستعمل التعبير على سبيل المجاز لشد أزر الخليفة والسلطان في حروبهم ضد التتار وضدا الفرنجة؟ أم أنه كان متأثراً في استعمال اللفظ بحكم الشيعة الفاطميين لمصر فترة طويلة؟
ومهما يكن الأمر، فإن هذا الاستعمال المجازى – الذي قد لا يفهمه العامة فيضربون الحقيقة على المجاز – صار قاعدة فيما بعد، إذ أصبح يُشار إلى كل أمر مُستجد على أنه فريضة، سواء كان في السياسة أم كان في الحياة الاجتماعية، مثل الحجاب، فتكاثرت بذلك الفروض وحاكى الفكر الإسلامي في ذلك اليهودية وسار في خطاها في اعتبار أي أمر فريضة.
ومع أن الخليفة أعلن أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، وأن السلطان ركن الدنيا والدين، فإن السلطان انقلب عليه وخشي منه فأسكنه قلعة الجبل ومنعه من الاجتماع بأحد من أهل السلطنة، ثم أسقط اسمه من سَكة النقود وأبقاه على المنابر فقط.
وظلت الخلافة العباسية الثانية في مصر حتى الغزو العثماني لمصر عام 1517م – 913هـ ؛ إذ أجبر السلطان سليم العثماني آخر الخلفاء على التنازل عن الخلافة له، لكن الحكام العثمانيين ظلوا يتلقبون بلقب السلطان – ولم يلجأ إلى لقب الخليفة إلا السلطان عبد الحميد الثاني ليشد به أزره في العراك مع المتحررين في بلده، والمسلمين في شتى أنحاء الخلافة.
وظل المماليك في حكم مصر، وكانت كُلّ صلة السلطنة بمصر أن ترسل والياً من عندها لينوب عنها في الحكم الرسمي، مدة عامين، حتى لا يقوى أمره ويستقل بحكم مصر. وكان حكم المماليك يتميز بالانقلابات المستمرة، واغتيال الأقوى ممن يريد أن يحتل مكانه، والانحطاط الكامل في كل مرافق مصر حتى وصلوا بها إلى الحضيض، والاستبداد والمظالم التي لم تكن تنتهي أبداً ولا تكون لها أسباب.
ويظهر ذلك جلياً من المنشور الأول الذي أصدره نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية إلى المصريين، فقد جاء فيه:
من طرف الفرنسية المبنى على أساس الحرية والتسوية (المساواة) السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية، بونابرته، يُعرّف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد (بعيد) الصناجق المماليك، الذين يتسلطون في البلاد المصرية……. هذه الزمرة من المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها. إن جميع الناس متساوون عند الله، وأن الشئ الذي يفرّقهم (يميزهم) عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط. وبين المماليك والعقل تضارب. فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا (يستحبوا) أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصون بكل شئ أحسن فيها، من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المُفرحة. فإن كانت الأرض المصرية التزاما (أي حقا) للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم. (يراجع في ذلك كتابنا مصر والحملة الفرنسية).
أما عن السلطنة العثمانية ذاتها، فلأنها كانت من أرومة تتارية، فقد كانت بطبيعتها عدوانية، تحسن الضرب والقتال والاستبداد والتخريب، ومن ثم فقد كانت عدوانية المسالك حربية الاتجاهات. فقد استولت على القسطنطينية (1453) وهى عاصمة الإمبراطورية المسيحية الشرقية (وغيرت اسمها إلى إسلام بول أو إستانبول أو الأستانة) وما زالت تُعد من أراضى تركيا إلى اليوم، فلم يطالبها بها أحد، حتى بعد أن قوى الغرب، لأنهم يقدّرون أن للغزو العسكري أحكاماً قد تطال الأرض، زمناً أو أبداً. وبسقوط الإمبراطورية الرومانية الشرقية ورث العثمانيون أملاكها وهى معظم بلاد اليونان والجزائر والمجر، وكثيراً من أنحاء فارس وبلاد العرب، وصارت ولايات ترتسلفانيا والأفلاق والبغدان إيالات خاضعة لها، واستولت على كثير من أملاك الخلافة العباسية وعلى بعض أملاك السلطنة الغزنوية، والسلطنة السلجوقية في الروم وفى كرمان والشام، وسلطنة المماليك في مصر والشام، ودولة الأتابكة في الموصل، وكثير من دول أوروبا وأجزاء من الغرب، وجزء كبير من قارة أفريقيا وجزائر بعض الروم وغيرها.
ومع الانتصارات بدأت الهزائم، وبعد النجاح دخل الأفول، وإثْر الفتوحات توالت الانكسارات. فلقد هُزم الأسطول العثماني عام 1571م بواسطة الأسطولين الأسباني والبندقي. واضطر العثمانيون إلى رفع الحصار الثاني عن فيينا (1683) التي كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية المقدسة، وأُكرهت على عقد معاهدة كارلورينزو (1699) حيث نزلوا عن بلاد المجر وممتلكات أخرى. ودخلت السلطنة العثمانية حروب مع الروسيا في القرن الثامن عشر، فضاعف ذلك من انهيارها إذ مُنيت بهزائم كثيرة. وضاعت منها طرابلس (1911م – 1912م) وأعلنت صربيا وبلغاريا ورومانيا استقلالها وكونت مع اليونان حلفاً بلقانياً شنّ على السلطنة العثمانية حرباً حامية خسرت فيها معظم ما تبقى لها من أراض في أوروبا. ثم بدأ الانهيار الأخير في الحرب العالمية الأولى أمام ضربات البريطانيين والجيوش العربية في العراق وفلسطين وسوريا. وبمقتضى معاهدة سيڤر انتزعت منها كل أملاكها.
وإزاء هذه الهزائم في الخارج والفشل الذي ظهر في الداخل، عمل الإصلاحيون الأتراك على الشروع في نهضة تركيا، وقد أدى ذلك إلى فصل الخلافة عن السلطنة (1922) وفى 3 مارس 1924 ألغيت الخلافة الإسلامية (يراجع كتابنا الخلافة الإسلامية).
ونظراً لما كان قد حدث طوال التاريخ – منذ مقتل عثمان ابن عفان – من اعتبار الخليفة هو خليفة الله، وهو أمر أكد عليه ورمى إليه بعض الخلفاء وآخرهم الحاكم بالله العباسي – الخليفة الثاني في الخلافة العباسية الثانية بمصر – من أن الخلافة فرض من فروض الإسلام، فقد تدامجت الخلافة بالإسلام وتواشجت بالشريعة وتمازجت بالدين، فكان لإلغائها وقع سيئ على كثير من المسلمين الذين كان قد وقَر في إيمانهم هذا المفهوم الخاطئ وسكن في تقديرهم هذا التقدير الزائف، فعمل بعض الملوك على محاولة إعادتها، كما قام الإسلام السياسي بوضع إعادة الخلافة في برنامجه – الذي كان خفياً ثم أُعلن أخيراً – على تقدير أن الخلافة فرض من فروض الدين وجزء من أجزاء الشريعة وبعض من الإيمان الصحيح.
لكن الشاعر فهم الأمر على حقيقته، بأن الخلافة نظام من أنظمة الحكم، كانت وضعاً صورياً حكم باسمه السلاطين والملوك والوزراء فارتكبوا أبشع المظالم واستبدوا بالمال والأعراض والناس؛ أما جموع المسلمين فقد ظلت – بغير الخلافة – تؤدى فروض الدين وتقيم أحكام الشرع، إذ قال في قصيدة له:
مضت الخلافة والإمام فهل مضى.. ما كان بين الله والعبّاد
والله ما نَسِىَ الشهادة حاضر.. في المسلمين ولا تردد شادي
والصوم باقٍ والصلاة مقامة.. والحج ينشط في عناق الحادي
إلغاء الخلافة الإسلامية مثله مثل وفاة النبي (صلعم)، فلقد ظن الكثيرون أن الدين قد انتهى وزال بوفاته، لكن أبو بكر الصديق قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن يعبد الله، فإن الله حي لا يموت. كذلك يمكن القول بأن من كان يتعبد للخلافة فإن الخلافة قد انتهت وزالت، ومن كان يتعبد لله فإن الله حي لا يموت.
• القاهرة
ماذا يجرى في مصر (11)
حين غزا المغول بغداد عام 1258م كانوا بقيادة هولاكو و ليس جنكيزخان. شكرًا للمستشار العشماوي لهذه السلسلة القيّمة.