بعد إنتهاء الخلافة الفاطمية، عادت مصر إلى الخلافة العباسية، وعاصمتها بغداد، مجرد ولاية.
وكان الوضع فى بغداد، حاضرة الخلافة، قلقاً لا يستقر على حال. فمنذ سقطت الخلافة الأموية، بجند أغلبهم من الفرس، وقائدهم أبو مسلم الخرسانى (الفارسى)، صار الفرس القدح المعلّى فى شئون الخلافة . فكان الخليفة من العباسيين، أما الوزارة فقد كانت للفرس . وشيئاً فشيئاً ضعف وضع الخلفاء وهان شأنهم، بينما علا وضع الوزراء وقوى أمرهم، حتى كانوا يتلقبوا بلقب السلطان كناية عن تملك السلطة الفعلية . وكان أظهر الوزراء فى ذاك العهد أسرة البرامكة، كما كان أظهر من لُقب بالسلطان، جعفر البرمكى الصديق المقرب للخليفة هارون الرشيد، وزوج أخته العباسة .
نُكبت البرامكة إثر نزوة حادة للخليفة هارون الرشيد (عرضناً تحليلاً علمياً لها فى كتابنا عن “الخلافة الإسلامية”)، وكان الأثر العام لهذه النكبة أن وهن أمر الفرس . وفى عهد الخليفة المعتصم (823م) الإبن الثالث لهارون الرشيد، كانت أمه تركية، فمال إلى الترك (أخواله) وبدأ الإستغناء عن الفرس والإستكثار من الترك، الذين لم يكونوا أقل إستبداداً بالسلطة من الفرس، حتى إشتد أمرهم وزاد، مما جعل الخليفة المتوكل يشكو منه ويعبر عنه فى بيتى الشعر اللذين سلف إيرادهما، وهما :
أليس من العجائب أن مثلى .. يرى ما قلّ ممتنعاً عليه
وتُؤخذ بإسمه الدنيا جميعاً .. وما من ذاك شئ فى يديه
ولكى يبين حقيقة الوضع، وأن ما كان يشكو منه المتوكل مقصوراً على الشئون العامة، فقد كان للمتوكل 3000 من الجوارى، يتكلفن بخدمته والتسرية عنه .
الترك إصطلاح يُطلق فى معناه الواسع على الشعوب التى تتكلم اللغة التركية فى تركيا وفى الجمهوريات التركستانية التى إستقلت عن الإتحاد السوفييتى، وتشكل الآن ما يعرف بآسيا الوسطى، وفى تركستان الصينية وفى شرق إيران . وأصل هذه القبائل (أو الأمم) أنها من التتار والمغول (من منغوليا). وقد تسموا بالأتراك – وهى لغة لهم وليست إسماً للجنس – حتى يتخلصوا من وصفى التتار والمغول، والدال على أصولهم، نظراً لما أصبح للفظى التتار والمغول من أثر سيئ لدى من عداهم، يدل على الحرب والضرب والعدوان والتخريب والتمزيق، كأنما هم جراد ما إن يحطّ على زرع حتى يجعله أعوادا جافة من الخضار والزهو والبهاء .
ولأن الترك (التتار) كانوا أهل حرب يحسنون القتال الوحشى والإبادة الجماعية، ولا يقدرون على أعمال الإدارة، وخاصة فى الوزارة التى كانت تدير كل هذه الأعمال (الإدارة)، فقد خفّت يدهم عن الوزارة، وعاد إليها الفرس كما كانوا .
وفى عصر الخليفة المستكفى (944 – 1450م ، 427هـ) كانت السلطنة (الوزارة) فى إمرة بنى بويه (البويهيون) وهم من الشيعة الإمامية العلوية، ولما إستبدوا استنجد عليهم الخليفة بالسلاجقة، الذين دخلوا بغداد، وأسسوا سلطنة السلاجقة .
والسلاجقة قبيلة (أمة) من الترك (التتار) ينتسبون إلى قائد لهم هو سلجوق إبن بكتاك، مقدم عشيرة الغُزّ التركية . وفى بداية حكمهم كان وزيرهم هو نَظّام الملك (الذى كان هو وعمر الخيام وحسن الصباح أصدقاء، لكنه أغتيل فيما بعد على يد أعوان حسن الصباح الذى كوّن طائفة الحشاشين، التى شُهرت بقتل الملوك والوزراء ونشرت الرعب فى الشرق الأوسط مدة قرن من الزمان، ومن إسم الحشاشين جاء لفظ (Assassin) بمعنى قاتل فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية .
نظّام الملك (أبو الحسن الطوسى 1018 – 1092م) كان وصياً على ملكشاه ابن الب أسلان، فقويت يده فى الوزارة . وإذ كان رجلاً قديراً، وعلى وعى بأصول المسائل والأحوال، فقد هاله أن النخب فى بغداد وغيرها من البلاد قد تأثرت بآراء وأفكار ابن سينا (أبو على الحسين ابن عبد الله (98 – 1036م) والفارابى (أبو نصر محمد 870 – 950م)؛ وأن العامة فى كل أماكن الخلافة قد تأثروا بمفهوم “التَقيّة” الذى يعتنقه الشيعة، فلا يكون ظاهرهم مثل باطنهم، وربما كان الباطن معقوداً على عداوة وخصومة، لكن التَقيّة تمنع أن تبين هذه الحقيقة، فيظهر ما هو ضدها وكأنما العدو فى الباطن هو فى الظاهر ولىّ حميم (والتقية عند الإسلام السياسى فى مصر وغيرها هى الإيهام) .
أراد نظّام الملك أن يقضى على الركون إلى الفلسفة والعقل، وأن يقضى – من جانب آخر – على التقيّة التى كانت نتيجة لسيطرة الشيعة (أسرة بنى بويه) قد صارت عقيدة غير العقيدة، وأستعان فى عمله هذا بأبى حامد الغزّالى .
أبو حامد الغزّالى (1059 – 1111م) هو من غزّالة بطوس، من أعمال خرسان فى فارس، وُصف من جانب أغلب المسلمين بأنه حجة الإسلام وزين الدين وعالم العلماء ووارث الأنبياء؛ لكن مسلمين آخرين قيّموا أعماله تقييماً (تقويماً) صحيحاً فقالوا إنها أحدثت تأثيراً عميقاً فى المسلمين فأنصرفوا عن العلوم الطبيعية والعقلية حتى أندثرت، وإنتهى الأمر إلى جمود الحركة الفكرية . أما العلوم الدينية فقد تأخرت كذلك .
وفى عمله لتحقيق أهداف نظّام الملك (وزير السلاجقة بعد أن فرغ الخليفة لشئون الحكم)، وضع الغزّالى كتابة (فضائح الباطنية) ليقضى على الإتجاه الشيعى بإعتناق التقية، وكتمان الحقيقة فى الباطن . كما وضع كتابة (تهافت الفلاسفة) ليرد على أفكار ابن سينا والفارابى . وعن هذا الكتاب الذى رد عليه ابن رشد (1126 – 1198م) بكتاب آخر عنوانه “تهافت التهافت” قال أبو بكر ابن العربى قاضى اشبيلية (المتوفى سنة 1151م) : إن شيخنا أبا حامد الغزّالى دخل فى بطن الفلسفة ثم أراد أن يخرج منها فما قدر .
استمر الغزّالى فى عمله بتشجيع من نظّام الملك فوطّد أفكار الجبرية وطاعة الحكام والتسليم دون إعمال العقل، فى كتابه “إحياء علوم الدين”، الذى ظل دستورا للمسلمين مدة تنوف على ألف عام، وقد جاء فيه :
أ.. إن كل حادث فى العالم هو من فعل الله (وهو ما يقطع بأن الإنسان لا يفعل شيئاً ولا يقول قولاً ولا يحدث أمراً) فلا يجرى فى الملك والملكوت شيئ إلا بفعل الله وقدرته . ذلك أن الله سبب لوجود العالم . وأنه لا توجد إلا علّية واحدة هى علّية المُريد (أى الله)، (أما ماعدا ذلك) فإنه أمر منكور ومردود إلى علاقة زمنية بين الشيئين، أى حدوث أمر متتابع بينها . فليست النار هى التى أشعلت الأشياء، ولا الإصابة أحدثت الموت، ولا الماء أنشأ البلل، إنما ذلك كله تهيؤ فى ذهن الناس لحدوث هذه بعد تلك . والفاعل فى الحقيقة، والسبب هو وحدة الله سبحانه .
ب.. إن المعاصى والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها، فإنما هى جارية على وفق إرادة العدو إبليس لعنة الله، مع أنه عدو لله سبحانه . والجارى على وفق إرادة العدو (أبليس) أكثر من الجارى وفق إرادة الله .
ج.. إنه من حق الله المطلق إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق، ومن غير ثواب لاحق . لأنه يتصرف فى ملكه . ثم يقدم مثلاً على ذلك هو ذبح المالك لبهيمته مع أنها لم ترتكب جريمة قط .
د.. وينتهى من كل ذلك إلى أن الإنسان لا يصنع شيئاً قط وإنما الملائكة هم الصنّاع فى الحقيقة، لكل ما فى جسمه، وفى أى شيئ آخر، والذى يرى رأيا آخر فهو جاهل .
(يراجع بتفصيل أوفى كتابنا العقل فى الإسلام)
وهكذا، ما إن يتصل الدين بالسياسة أو تدخل السياسة حلبة الدين إلا وغلبت السياسة، وإستغلت الفكر الدينى الذى يصبح أجيراً لها وعاملاً على تبرير مظالمها (وفقاً للآلية التى رسمها الفليسوف اليونانى أرسطو فى كتابه عن “السياسة”) فلقد أراد نظّام الملك أن يقوى شوكته ويقوض أركان خصومه وأعدائه بما يمكّن لسلطنة السلاجقة من الدوام والإستقرار ، فإستعان فى ذلك بأبى حامد الغزّالى الذى صار أشهر علماء السلطة؛ إذ نفى السببية بأوهام غيبية فضيّع العقل الإسلامى وغيبه فى متاهات وترّهات، لأن السببية هى أساس العقل ومنهاج الفكر .
ثم أنكر الوظائف الجسدية بما فيها من حواس وأستبدل بها ملائكة أو غيبيات، فحرم بذلك على أى مسلم أن يبحث عن الحقيقة ويصل إلى مفهوم الوظائف؛ إذ من ذا الذى يقدر على أن يدخل مجالا تتملكه وتشرف عليه الملائكة (وهى من الغيبيات) إلا أن يكون جسوراً يسير ضد التيار، وقليل ما هم، واتهم الغزّالى بالجهل من يقول بغير قوله دون أن يخطر على باله ولو خاطر بأنه هو الجاهل الذى عطّل العقل الإسلامى زمناً طويلاً بجهله وعناده . كذلك فإنه بإستطرادته التى تبدأ من مسلّمة خاطئة، جعل من أبليس قوة الشر أقوى من الله، ولم يدرك فى ذلك أنه كان فيما جعل من إبليس قدرة أقوى من الله، ولم يدرك فى ذلك أنه كان فيما قال وكتب قد تأثر بالفكر الزرادشتى الفارسى، الذى يرى أن الحياة معركة بين الله الذى هو الخير، وإبليس الذى هو الشر، وأن إبليس يتفوق على الله فى الدنيا، ولا فلاح فى الحقيقة للخير إلا فى الآخرة . وهو بهذا الهذر والخرافة يمهد ويوطئ لعبادة الشيطان، لمن يرى أن يوجه عبادته إلى الأقوى حتى يتحاشى شره، وفى الآخرة فإن الله سينزله الجنة أو النار، لا لعمله أو فقهه أو علمه، ولكن لأنه حر يفعل فى عباده ما يفعل الجزار فى البهيمة، وحاشا لله .
بهذا الفكر الخاطئ والجانح فى كل مفاهيمه ومضامينه، والذى شجعه الحكام وأيدته الخلافة الإسلامية ووزراؤها، تم قمع العقل الإسلامى، وتجميد روح التحقيق والإبتكار، وإيجاد عالم من الملائكة والشياطين حول الإنسان لا يستطيع أن يهرب منه، إلى حيث توجد قوانين الحياة الصحيحة، وقواعد الوظائف المؤسسة على العلم وعلى الحق .
وفى ذلك قال الشاعر :
من قال بالطبع أو بالعلّة .. فهو كفر عند أهل الملّة
وسارت الأيام فى عهد الخلافة العباسية بطيئة ثقيلة، مليئة بالفتن والمظالم، فى جمود وركود .
وتركزت الملاهى والمقاصف والمشارب فى قصور الخلفاء والوزراء والمياسير، يدور فيها اللهو والخلاعة والشرب والحب، ويكتنزون مال المسلمين فينفقونه فى اللهو أو العبث، أو فى العطايا التى كانت توهب بكثرة للشعراء والمغنين والمداحين والمتملقين، بينما ظل أكثر الناس فى سغب ومجاعة، تقدم إليهم فضول المال حسنة أو يُعطون الصدقات رياء ورءاء، فلم تُفرض من بيت المال أسهم ونفقات ومرتبات للشيوخ والأرامل والأيتام والعجزة والمُعْوزين والمرضى والمحتاجين .
وقامت قبيلة أخرى من الترك (التتار) هم العثمانيون (نسبة إلى أمير لهم يدعى عثمان ابن أرطغرل ابن سليمان شاه 1281 – 1325 م ) .
فنشبت بينهم وبين السلاجقة حروب إنتهت بسيطرة العثمانيين فبدأوا يأخذون مواقع السلاجقة فى الشرق الأوسط، وغزو بقيادة جنكيزخان بغداد وأستولوا عليها عام 1242م . ولما وجد جنكيزخان لدى الخليفة المستعصم أموالاً كثيرة من الذهب والجواهر، عجب من أن يكون لدى الخليفة كل هذا المال، ولا ينفقه على رعاياه أو على جيش يحميه ويُبعد الغزاة عن بلاده، ثم أمر به فقُتل .
(للدراسة بقية)
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة