الثورة السورية التي فجرها وقادها الشباب السوري لم تكن متوقعة لكل المراقبين في المنطقة والعالم ولها آثارها العديدة محليا وإقليميا، كما سوف يكون لها تأثيراتها الدولية. لكن الأكثر تفاجئا القوى السياسية السورية التقليدية التي كان محللوها يستبعدون أية امكانية لقيام أي تحرك شعبي محدود بأية منطقة معزولة، فكيف بثورة تمتد بطول البلاد وعرضها لشهور طويلة وبزخم متزايد، لتصنع مع الوقت إعلامها ووسائل اتصالاتها وتبدي درجة عالية من النضوج السياسي من خلال لافتاتها وهتافاتها واهازيجها. فماذا كان موقف هذه القوى؟
نعلم أن الحياة السياسية في سوريا خلال العقود الماضية كانت مهمشة تحت مظلة القمع والاعتقال حتى العام 2000 حين بدأت بوادر لتشكيل هياكل للمعارضة بدءاً بالمنتديات، وأعقبها إعلان دمشق الذي انسحب منه “الإيديولوجيون” ليشكلوا عند قيام الثورة هيئة التنسيق. ضمت هذه التشكيلات عشرات الشخصيات السياسية السورية من خلفيات مختلفة شيوعيون من خارج احزاب جبهة النظام وما حولها، ناصريون، قوميون عرب، بعث ديمقراطي، حزب العمل الشيوعي، شخصيات دينية مستقلة، شخصيات ليبرالية وأحزاب كردية. ورغم أن عدد هذه الشخصيات محدود فإن هذا لم يقلل من قيمتها الاعتبارية في زمن لم يوجد فيه من يجرؤ على الكلام وخصوصا أن الكثيرين منهم أمضى سنوات طوال في سجون النظام، وبسبب قلة عددهم قيل أنه في سوريا لا توجد معارضة انما يوجد معارضون. وبعدما انطلقت الثورة السورية انضم اليها أغلب أعضاء إعلان دمشق ومنهم من اصبح من رموزها وقادتها. أما من يطلق عليهم اسم “هيئة التنسيق” فهم بضعة عشرات ولا تمثيل لهم في الشارع السوري فهم لا يمثلون إلا أنفسهم كما أن كل فرد فيهم يرأس شيئا ما في الهيئة.
إخوتنا في هيئة التنسيق وجدوا أنفسهم في مأزق سياسي فهم من ناحية معارضين للنظام وبنفس الوقت حلفاء مع كل من يدافع عنه وأعداء لكل من ينتقده، فعندما تسحب دول الخليج سفراءها من دمشق وبعد أشهر طوال من بدء الثورة يقول احد أعضاء الهيئة في إحدى الفضائيات : هل أصبح حلفائنا الآن الغرب ودول الخليج؟! وعندما يحدث تصويت للجان حقوق الانسان والأمم المتحدة لإدانة جرائم النظام السوري وتعترض روسيا وكوبا وكوريا الشمالية وإيران ولبنان حزب الله، يجد أعضاء هيئة التنسيق في النظام الإيراني الذي يقمع شعبه، وتابعه حزب الله الذي تبنى على رؤوس الأشهاد نظام ولاية الفقيه، مشروعا مقاوماً، لكنهم في الوقت نفسه يتخوفون من احتمال وجود “صبغة دينية” للثورة السورية بسبب خروج المظاهرات من المساجد وهي المكان الوحيد المتاح للتجمع، رغم محاولات شباب الثورة طمأنتهم بتصريحاتهم ولافتاتهم. افراد الهيئة مثلاً يتجاهلون أن في كوريا الشمالية نظام ديكتاتوري وراثي فاسد، تدفع العائلة المالكة لكلابها مئات آلاف الدولارات، فيما الشعب يموت جوعا كحقيقة وليس مبالغة، فيرون هكذا نظام شوكة في حلق الإمبريالية، لينعكس ذلك على جذرية موقفهم من النظام.
منذ أكثر من أربعين عاما انقسمت الحركة السياسية السورية حسب تقييمها لطبيعة السلطة. فمنهم من رأى نظاماً تقدمياً يشوبه بعض الفساد، ومنهم من رأى فيه سلطة فاسدة تتاجر بالقضايا الوطنية والاجتماعية دون ان تعنيها بشيء، فبإسم فلسطين والعمال والفلاحين تقوم السلطة بسرقة ثروات البلاد بجشع لا حدود له وبدون مواربة أو خجل وبشكل لا نظير له في العالم (هذا بحد ذاته موضوع لبحث خاص للاستفاضة به لاحقا). حسب هذا التقييم تتحدد جذرية المعارضة للسلطة السورية. وقد استغل النظام هذه الفرصة وروج لمقولة تشير لوجود معارضة الداخل “تحت سقف الوطن” ومعارضة الخارج “ذات الأجندات الخارجية” وقد لاقى هذا الطرح ترحيبا ضمنيا من هيئة التنسيق فهو يعطيها دوراً أكبر من حجمها و يجعل لها وفوداً تفاوض وتضع شروطاً…علما بأن هذه الوفود هي الهيئة بما فيها.
والحقيقة هي أن هناك معارضة الداخل ومعارضة الخارج ولكن معارضة الداخل هي الثورة السورية بكل شبابها وتنسيقياتها واشكالها التنظيمية المختلفة وقد حددت اهدافها ومطالبها، وعندما تبنى المجلس الوطني هذه الأهداف قال الثوار في الداخل: “المجلس الوطني يمثلني” ولكنهم في نفس الوقت إذا خرج هذا المجلس عن توجهاتهم فإنهم لن يتوانوا عن سحب التمثيل والشرعية منه.
من واجبنا ان نوضح لإخوتنا في هيئة التنسيق أن مشكلتهم ليست مع المجلس الوطني بل مع الثورة السورية، إن من يحرق أعلام حزب الله وإيران وروسيا هم المتظاهرون السوريون من درعا حتى ادلب ومن البوكمال حتى جبلة وليس المجلس الوطني. كل إنسان في العالم يعلم أن أجهزة النظام السوري قتلت آلاف الشباب السوريين العزل ومئات الأطفال، وقتلت واعتدت على مئات النساء السوريات، وروسيا وايران وحزب الله يعلمون ذلك أيضاً، ومع هذا فهم يقفون مع النظام المجرم.
فعلى هؤلاء الأيديولوجيين ان يحاولوا اقناع شباب الثورة بأنهم أمام أولوية مواجهة “الأطماع الإمبريالية” بالثروات السورية!؟ كما تواجههم المشاريع الاستعمارية المبيتة لهذا البلد “الممانع، الصامد” !!؟ فلا بأس أن يتحملوا بعض التضحيات التي تهون أمام الأهداف العظيمة!! وربما عليهم إقناع الثوار بأن حقوق الإنسان والديمقراطية ما هي إلا بدع تحاول من خلالها الدول الإمبريالية السيطرة على الشعوب الجاهلة لسرقة ثرواتها!!
أعتقد أن الأمنية الكبرى “للإيديولوجيين” في هيئة التنسيق وخارجها: أنه لو كان النظام السوري أقل سوءاً وإجراماً وفساداً لأعلنوا بوضوح وقوفهم معه. حتى وصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار صعوبة التحرك الشعبي في دمشق أو حلب نتيجة الضغط الأمني الشديد، هو نتيجة وجود أغلبية صامتة حسب زعمهم، وبعضهم الآخر استكثر ان يطلق عليها اسم ثورة رغم أنها اثارت دهشة وإعجاب العالم!
و في النهاية يجب أن يعلم كل من المجلس الوطني وهيئة التنسيق كما الجامعة العربية والأمم المتحدة أن القرار الأول والأخير هو لشباب الثورة السورية الذين قدموا أرواحهم رخيصة حتى ينالوا الحرية، فهم الشرعية الوحيدة حتى النصر القريب.
emadbouzo@gmail.com
* كاتب سوري