يساريون ويساريون سابقون

1

مسرح السياسة اللبناني يزدحم بأدوار ليساريين، ويساريين سابقين. وكل يساري على منوال خاص. في الانقسام الوطني الذي يسم لبنان اليوم، تقع على اليساريين موزعين بين التكتلات الطائفية. تجد بين القيادات السياسية اليوم من كان يساريا في شبابه الطائش، من كل الطوائف… مع أرجحية للطائفة الشيعية التي يمثلها الآن، «أمل» و»حزب الله». والسبب واضح: ان البيئة الشيعية كانت، قبل ان تهتدي الى حكمة الطوائف ودهائها، هي اكثر البيئات احتضانا لليسار، أيام عزّه.

ولكن، ايضا خارج الطوائف، يندرج اليساريون ضمن الانقسام نفسه: مع حزب الله والمقاومة، وضد حزب الله ومع بناء الدولة، بين فريقي 14 و 8 آذار. اليساريون «المقاومون» يرتكزون على ثابتة نظرية لا محيد عنها: أولوية محاربة الامبريالية والصهيونية. اما يساريو الضفة النقيض فيراجعون هذه الاولوية، مطالبين، أولا بإقامة دولة قانون ومؤسسات وديموقراطية الخ. يمكن ان يكون الاثنان، المقاومون ودعاة بناء الدولة ذوي قناعات يسارية وفلسفات علمانية. لكن هذا لا يحول دون تعاونهم مع اقطاب الطوائف، عبر التوزير او الاستشارة او القلم او الصوت. هم ما زالوا يساريين، مناضلين، يحملون هموم الفئات…. وبقية المعزوفة المتكبّرة اخلاقيا.

في مجلس الوزراء الحالي، يساريون كُثُر ويساري واحد. وزراء من حزب يساري طائفي، يقفون ضد وزير يساري من تكتل طائفي يطغى على دهاليزه صراع غير خاف بين مستثمرين كبار وموظفين بسطاء. الوزراء اليساريون من الحزب الاول وقفوا ضد الثاني، الذي اعتقد لوهلة، أو جعلوه يعتقد، بأن مشاريع «محقة» و»مدروسة» تكفي لوضع لبنة من لبنات العدل الاجتماعي على ارض لبنان، والعدل الاجتماعي من «اختصاص» اليسار… والبقية يعرفها الجميع: الوزير اليساري يهزمه وزراء كتلته ويساريو الحزب اليساري، فضلا عن الباقين. فيصعد الى الخشبة بدرجة بطل تراجيدي مهزوم، أي منتصر. ما هي حصيلة انتصار وزيرنا؟ لقد خرج بدور. والدور ليس بالأمر الهيّن، انه إنجاز، له الاولوية على كل النتائج الاخرى لمعركته، ومنها عدم استفادة الطبقات المفقرة بشيء من نضاله المرير من اجلها. فيما زملاؤه من الوزراء اليساريين الآخرين الأكثر حنكة وتمرسا بالبهلوانيات اللبنانية ينظرون اليه بعين من مرت عليه هذه الادوار المؤقتة. ذاك يساري واولئك يساريون ايضا.

في الكثير من الوزارات والنيابات اللبنانية هناك يساري يقوم بدور من يستغبي نفسه: دور الذي لا يفهم، من شدة براءته و»آدميته» ان التركيبة الطائفية تستعمله، تستعمل هالته اليسارية، كواجهة لصراع المحاصصة. وان هذا الدور يحترق باستقالة الوزير، او النائب الشريف، وفيها بطولة لا تُنسى، ترافقه الى بقية عمره. بل يمكن، في حالات عرفناها مرات، ان تكون هذه البطولة هي السلعة التي سوف يبيعها لاحقا، اذا كان شاطرا بما فيه الكفاية واستطاع ان يعيد تأهيل نفسه، فيتقدم مع التكتلات الطائفية بصفته الماسة المتلألئة التي لم يمسّها موت الضمير. ينتهي الامر باليساري باشا مناضل يدخن السيجار، يركب السيارة الرباعية الدفع، تألفه الشاشة، يقيم الصفقات ويفتتح دورات انتخابية بقوانين مطرزة على قياس رفاقه الجدد. وهكذا…. تختتم قصة نموذج انساني من نماذج يساريينا.

تنويعة اخرى من اليساريين، لم تتورط بهكذا مسار. بقيت مثل اصحابها على يساريتها، ولكنها اقامت بينها وبين «الاستبلشمنت» السياسي مسافة ذكية، نسجت بفضلها خيوطا من العلاقات العامة في مواقع اخرى، على قدّها… بما يسنح لها ايضا بالاحتفاط بمكان على الخشبة، بصفتها «شخصية يسارية مستقلة». هكذا يصف افرادها انفسهم. غيرتهم على «استقلاليتهم» لا تضمر سوءاً تجاه الاقوياء، انما تمسكا بالموقع «القيادي» الذي احتلوه في شبابهم، لا احد يعرف كيف، ايام مجد اليسار… هويتهم تكمن بما كانوا عليه. يسمونهم بالانكليزية «has been»، أي حرفيا «من كانوا». مرّ عمرهم، ولكن وقتهم لم يمرّ عليهم، ولا التغيرات. هم على ما كانوه. على «أفكارهم»، ولهجتهم، ولغة جسدهم، والأهم من كل ذلك، موقعهم. هم كانوا زعماء او مسؤولين او قياديين في احزاب اليسار في «عصره الذهبي»، عندما كان مهيمنا… وما زالوا الى اليوم زعماء، بعدما انفرط عقد هذه الاحزاب وتحوّلت الى شراذم متناقضة ومتصارعة… هناك شيء من البؤس في هذه الحالة من اليساريين تحديدا: المشهد يزدحم بأشباههم، الحلبة ضيقة والمنافسة شديدة. لذلك تجدهم، من اجل الحفاظ على موقعهم و»استقلاليتهم»، يلونون مواقفهم، ويلوون الكلمات، يعلكونها، يفخمون العبارات، يضحكون على نكاتهم…. باختصار يحافظون على امجادهم بنوع من التذاكي المكرر. ولا تفهم من اين يجدون كل هذا الصبر على أحوالهم الماضية، كل هذا الاصرار، كل هذا الغرام بذواتهم… هم المناضلون، المحللون، الشرفاء، النبهاء، قليلو الحظ مع التاريخ… ولكنهم مصرون. وهم الآن وجهاء، يتصدرون المجالس. لا يستطيعون غير ذلك. إما يتزعمون او يخرجون. تلك هي تكوينة الـ«has been». يتنفس زعامة، أية زعامة، ولو على من لا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة.

في الأقدار الاخرى، الفردية، لك مروحة أوسع من اليساريين: مستثمر كبير، مقاول، مضارب، ناشط في حقوق الانسان، سائق سرفيس، استاذ جامعي او ابتدائي، موظف فاسد أو نظيف، صحافي… كل من هؤلاء صاغ يساريته على قياسه، سواء من ارتدّ الى الطائفة، أومن بقي على هوامشها. بينهم اليساري التقليدي، الذي علق في الزمن اليساري الذهبي، ومنهم من «طوّر» يساريته وطعمها بروافد جديدة او قديمة… المهم انك لو جمعتَ كل هؤلاء في مشهد واحد فلن تهتدي الى اصولهم «الفكرية» الواحدة، ولا الى أصول القيم المشتركة الواحدة. اكثر من ذلك: لكل تعريفه لليسارية التي يتباهى بها. وتبلغ الحرية مع «اليسار»، انه تحول الى بهرجة تنطوي على كل ما لذّ وطاب من فرقعات «فكرية» أو «بوزات» اخلاقية. أي شيء يعجب المتفاخر بيساريته يوضع في خانة اليساري. حتى صفات بسيكولوجية بعينها تصبح ذات منبتْ يساري. ان يكون المرء مرتبا لفراشه، يطعم قططه، يعيد اشياء بيته الى مكانها… يعني انه يساري! صدق او لا تصدق! هكذا كُتب حرفيا. أي شيء صار يمكن ان يقال عن اليساري واليسارية. من يسأل؟ من يدقّق؟ من يتذكر؟

من هو اليساري اليوم؟ ماذا يعني ان تكون يساريا اليوم؟ هم «ربرتوار» انساني طويل عريض، لا يجمع بين افراده اكثر من النفور الشخصي. هم جماعة بلا ادنى عصبية تضامنية او أي صنف من اصناف التآخي او التشابه. اما عقيدتهم، ففضلا عن تضاربها وتفرع تأويلهم لها الى ما لا يحصى من اجتهادات…. فهي عقيدة فاشلة، خصوصا في تحقّقها. سواء ارتدت ثوب البوتينية او الرأسمالية المتوحشة بقيادة الحزب الواحد، او انعدام اجابات الاوروبية منها على تحدّيات الرأسمالية المالية. فيما الغنيمة، أي الهيمنة على عقول الناس، تقارب درجة الصفر، مع العهد الاسلامي القادم بحماسة الجماهير. لا عصبية اذن ولا عقيدة وغنيمة. ماذا يبقى؟ شيء من الحنين الى ايام الشباب… ولكن ايضا تراث، مخزون ثقافي حداثي، خيضت تحت رايته تجارب شخصية وعامة، هي التي تحتاج الى مراجعتها الآن العقول المنشغلة بما يحصل الآن. انها الثورة. والثورة تكون ايضا على ما كان ثورة في زمن ما، وصار الآن ترهلا وشيخوخة غير مبكرة.

مناسبة هذا المقال؟ احد الزعماء الاقطاعيين لطائفة لبنانية، وزعيم حزب يساري وقف وزراؤه ضد الوزير اليساري، يقترح مؤخرا إعادة إحياء اليسار اللبناني، بمناسبة الثورات العربية، والسورية منها على وجه الخصوص. فتحمست اقلام «يسارية» تكتب يمينا وشمالا…. اعتقادا منها بأنها، بهذه الوثبة المفاجئة، انما تقتل الناطور وتأكل العنب.

dalal.elbizri@gmail.com

كاتبة لبنانية

“نوافذ” المستقبل

1 تعليق
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
ضيف
ضيف
12 سنوات

يساريون ويساريون سابقون
هل نسيتي يا دلال انك انت ايضاً يسارية سابقة ذهبت بك الايام والسنين ما ببين يسار ويمين وبرجزة وعصرنة ومصرنة..الخ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading