من يفقد القدرة على المقاومة الفكرية والتصدي الذهني أمام بشر باتوا يمثلون أصناما في حياته الثقافية والاجتماعية، ومن لا يستطيع رفض العبودية في داخله بعدما أصبح رهينة لهؤلاء البشر، كيف له أن يفكر بحرية وأن ينظّر بسلاسة وأن ينطلق في رؤاه دون أن يركع لتلك الأصنام؟ سيكون تفكيره بلا شك تحت وصاية الأصنام وفي إطار العبودية. وعلى الرغم من وجود صنف من البشر يسعى جاهدا للتحرر من العبودية، فإن هناك صنفا آخر يتجه حُكما نحو أصنامه، بعدما سُرقت إرادته ليزيد بأس العبودية في داخله على الرغم من شعارات التحرر المزيفة التي يرفعها. فهو يعوّل في ذلك على الأحكام التي تطرحها المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها، وهي المدرسة الدينية الفقهية أو مدرسة الحلال والحرام. إن سير هذا الصنف خلف الأصنام بصورة إجبارية أو لا إرادية، يسهم في رسم خريطة مُحكمة من الحلال والحرام في حياة أفراد ذلك الصنف. وهذا التوجه يحمل مخاطر جمّة على صعيد فقدان الإنسان إنسانيته وإرادته وتفكيره الحر. فمدرسة الحلال والحرام بصورتها الصنمية العبودية هي سجن كبير، يستند الخروج منه التحرر من العبودية الداخلية والأيديولوجيا الخارجية.
ولأجل أن تهيمن مدرسة الحلال والحرام على الثقافة الهادفة إلى السيطرة، ولأجل أن تسجن ذهنية التفكير، وأن تبرّر تمسكها بنهجها الوصائي، فإنها تنزع الإرادة عن الإنسان. فهي تزعم من دون أي دليل مادي سيطرة الوصاية عند جميع المدارس الفكرية، بهدف الدفاع عن منظومتها الفكرية المؤدلجة وتبرير شرعنة سجنها ووجود أصنامها. هي تدّعي بأن الإنسان لا يستطيع إلا أن يكون أسيرا لمدرسة فكرية، لشرعنة نهج التفكير في مدرستها، والذي هو على النحو التالي: إما أنت منّا، وإما أنت عدونا.. إما أنت حرام وإما أنت حلال.. لتغدو الثنائيات نورا يسطع على سورها.
لذلك، من السخرية بمكان أن تزعم مدرسة الحلال والحرام أنها حاضنة للتفكير الحر، في حين هي ليست إلا حاضنة للتفكير الأحادي التلقيني الخاضع للإرهاب الفكري. فكل مفكّر أو باحث يسعى إلى التفكير الحر، وإلى التحرر من سجن تفكيرها وتبعيتها، عادة ما ينتهي إلى الإقصاء الملازم للتكفير. فسلاح الإقصاء والتكفير الذي في حوزة الفقهاء مشروع بفاعلية بحيث لا تهز ضمير مفكري المدرسة، وهو مُستخدم ضد كل من يتمرد فكريا أو بحثيا في داخلها. فالتمرد، على سبيل المثال، على اعتقاد وتاريخية وأنسنة “المهدي المنتظر” في داخل مدرسة الحلال والحرام، عادة ما ينتهي إلى تكفير المتمرد وإقصائه ثم السعي لطرده من المجتمع. والطرد هنا يستند إلى قاعدة “الحلال بيّن والحرام بيّن”. فالوصاية هنا لا تشمل الفكر فحسب، بل تشمل شؤون المجتمع أيضا. فحينما تدخل الفكرة والتفكير في سجن مدرسة الحلال والحرام، لا يستطيع المرء إلا أن يلبس اللباس الموحّد للسجن، وهذا السجن الخاص يمتد ليشمل المكونات الثقافية والاجتماعية في المجتمع. ولا فكاك من هكذا سجن ولباس إلا بالتمرد الفكري. ثم قد نتساءل: كيف يمكن للأصولية الدينية المستندة في نهجها إلى قاعدة الحلال والحرام أن تزعم بأنها ساحة لإشغال العقل الحر؟ الإجابة في هذا الإطار سهلة، أنها مجرد ساحة لقتل العقل الحر بسكين الإرادة الكاذبة والبحث المحدود في ظل أسوارها الثقافية والاجتماعية الحديدية، ليصبح البحث في المحصلة مزيفا ومخادعا وإقصائيا.
فالإنسان، الباحث والقارئ والمتسائل والمنتقد والمعترض، يستحيل أن يتعايش في مدرسة الحلال والحرام. وإذا ما دخلها وسعى لإعمال إرادته وطرح أسئلته والاحتجاج ناقدا ومعترضا، فإنه سيناله العقاب الديني والدنيوي/ الاجتماعي. أو أن يقبل صفة السجين المجرّد من حريته، المعتقل، المتألم، المسلوب من إرادته، المنزوع من الكثير من الصفات الإنسانية الطبيعية. فعلى قدر ألم الاعتقال، تُرسم خريطة التحرر. فمفكرو مدرسة الحلال والحرام هم سوطها لجلد الحرية وضرب الإرادة، لتصبح مفردة “الحلال والحرام” سجن التفكير، وهنا يستسهل السجانون تعذيب الفكر والتفكير والمفكَّر فيه وصولا إلى وأد الحرية.
قد نتساءل مجددا: كيف يمكن نقد فكرة أَسَرَها سجانوها الأصوليون في معتقل مدرسة الحلال والحرام؟ ثم، هل هذا الحلال والحرام سيناهض الإبداع؟
حينما تتصادم مفاتيح التفكير الواقعي بسور الاجتهاد الأصولي، تظهر الوصاية على الفكر والتفكير بصورة جلية. وحينما أريد أن أُصبح يساريا أو يمينيا في ظل رؤية دينية، لا في ظل الرؤى غير الدينية، فإن القبول بذلك يخضع لشروط الحلال والحرام مما يجعل المسألة غير خاضعة للواقع وحرياته ومصالحه الواسعة، بل يجعلها خاضعة للرؤية الأصولية الاجتهادية التاريخية الضيقة التي يهيمن على تفسيرها والتحكم بحدودها نفر من البشر نصّبوا أنفسهم أوصياء وممثلين عن السماء. إن كل ما يوافق رؤية هؤلاء للنص الديني السماوي سيخرج إلى فضاء الحرية، وكل ما يخالفها يبقى أسيرا ورهينة، بل ومعرضا للإعدام. لكن، إنْ أردت أن أصبح يساريا أو يمينيا في ظل الرؤى غير الدينية، سيصبح ذلك شأنا غير خاضع لمعيار الحلال والحرام، بل سيكون خاضعا لمعيار الصح والخطأ في إطار اختبار الواقع البشري وحرياته الواسعة ومصالحه الشاملة وتفسيراته المتعددة، ليُرَدّ الأمر إلى ما يريده البشر، وإلى ما يتوافق مع مصالحهم، لا إلى ما تريده ممثلية الرؤية السماوية.
وهذا يقودنا إلى النتيجة التالية: أن الحلال والحرام ليس هو الصح والخطأ، لأن الأول يردّ المسألة إلى ما يريده الله، بينما الثاني يّرده إلى ما يريده البشر. والتجربة الدينية، أو تجربة مدرسة الحلال والحرام، تستعين بالمعيار فوق البشري، فلا تعترف بتنوع الحلول وتعددها إلا وفق محدداتها السماوية والتاريخية الضيقة، وبالتالي لا تستعين بمعيار الصح والخطأ مما ينفي قبولها الخضوع لأي تقييم بشري.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
الحلال والحرام ـ التعليق : وللعلم حلاله وحرامهكما أن للاصوليه حلالها وحرامها ,بجعل الأصول هي المقياس لمن هو داخل الحظيرة الأصولية أو خارجها فان للعلم حلاله وحرامه , أي يؤمن بأن الواقع والمعقولية والتجربة هي المقياس للحقيقة . وهذا المقياس هو المعيار الذي يفرز الحقائق عن الأساطير والخياليات . ولكي نخرج من عباءة الأساطير يجب فلسفة التراث , أي اخضاع كل شيء وماهيته للتساؤل لاكتشاف مدى المعقولية , أي البدأ من أن لكل شيء سبب معقول , وأي حدث ليس له سبب معقول , يُنقل الى خانة الأساطير حتى لو ارتدى ثوب القداسة . فمثلا كم آدم وكم حواء في… قراءة المزيد ..