ظاهر الصراع الدائر على الأراضي السورية اليوم (والذي لا يريد البغض تسميته بالثورة)، هو صراع بين مجموعات شباب وبين أجهزة سلطة رسمية وغير رسمية. تستخدم فيه السلطة كل أشكال القمع، ويستخدم الناشطون كل أنواع النضال والمقاومة.
لكن الرصيد الرمزي لكل طرف في هذا الصراع عميق جدا وبعيد أكثر كثيرا مما براه من لا يملكون بصيرة في قراءة التاريخ. فالنظام اليوم بشخوصه ليس هو من صنع ما نحن عليه ونريد تغييره، بل هم أشخاص اعتباطيون، ارتضوا لأنفسهم المكانة التي دفعتهم شروط حياتهم وظروفهم إليها، فوجدوا أنفسهم وهم يسعون نحو زيادة حصتهم من الثروة والسلطة، في أمكنة ( كانوا يحسدون غليها ولم يعودوا كذلك )، بينما ظروف حياة بقية أفراد الشعب دفعتهم نحو الثورة على أوضاعهم دونما اختيار لهم في ذلك أيضا، لكن من كان يحلل ويدرس، هو فقط من كان يستطيع اختيار موقعه بين هذه الاصطفافات.
إن نوع نظام الحكم في سوريا ليس نادرا، فهو نموذج عن الأنظمة الشمولية، التي سادت في أكثر من نصف العالم ونصف العالم العربي، وهو لا يختلف عنها ربما إلا في الدرجة، انه نظام الحكم العسكري الأمني الشمولي الستاليني، الذي تحتل فيه الدولة كل الحياة الاجتماعية، ولا تترك أي هامش حرية للفرد أو للمجموعات لا الأهلية ولا المدنية، والذي سوف يتجه طبيعيا نحو الفساد والاستبداد، ثم مركزة هذا الفساد، و مركزة ملكية السلطة، والذي سوف ينتهي بمحاولة توريثها، مستعيدا نظام السلطنة التقليدي، بعد أن كان ثورة عليه، وثورة من أجل التحديث والتمدن كما ادعى، فقام بإجبار قوى المجتمع، على عمليات تحديث حطمت أنظمة حياتهم التقليدية، وربطتهم بالسلطة العاجزة عن استيعابهم، فكانت النتيجة أن رمتهم إلى حضيض البؤس والبطالة وانعدام الأفق والكرامة والحرية، وعاشت هي فقط في نعيم الاستبداد والفساد والبطر الذي لم يدم، مما هيأ كل ظروف الحالة الثورية التي طالت وستطال كل الأنظمة العربية الشمولية الحديثة، بينما بقيت بقية الدول التي لم تخطو خطوات واسعة نحو التحديث والعسكرة، وحافظت على مكونات المجتمع الأهلية التقليدية واعترفت بها، بقيت في منأى عن هذه الثورات، رغم أنها أنظمة سلطانية في أساسها وتفتقر كثيرا للديمقراطية، لكنها قادرة مع ذلك على تصريف الأزمات الحاصلة بين السلطة والشعب عبر أقنية المجتمع الأهلي، وهي مع ذلك بحاجة ماسة للتطوير والتحديث بما يتناسب مع العصر ومع تطور مجتمعاتها المدنية، لكنها ليست في حالة ثورية كالتي حدثت في بقية الدول، إنما بحاجة للتحول وبسرعة نحو الملكيات الدستورية قبل أن تهددها أي أزمة طارئة، وأعتقد أن أنظمة دول الخليج التي اتخذت موقفا مشرفا من الثورات العربية فاجأنا جميعا، قادرة بهذه العقلية على فهم التاريخ، وعلى تلبية طموحات شعبها، لننضم متحدين نحو عالم الحداثة والحرية والعدالة، حاملين معنا هويتنا التي نعتز بها، وقيمنا التي نعتز أنها ناتجة عن ديننا الحنيف.
((نقصد بالمجتمع الأهلي القبيلة والعائلة والطائفة والقومية والمناطقية، وكل التقسيمات العمودية الثابتة في المجتمع، والتي لا خيار لنا فيها، ونقصد بالمجتمع المدني كل الانتماءات التي نختارها بحكم موقعنا ومهنتنا وآرائنا وهوايتنا أي الحزب والجمعية والنادي والنقابة.و و.))
فنظام الاستبداد والفساد الشمولي الحاكم يختصر أيضا سبعة قرون من التخلف والانحطاط والبلاهة، بكل ما تحمله من ثقافة الخسة والذل والجبن التي تفرض على الرعية.. والذي قامت الثورة عليه كله مستوردة قيم الحرية والديمقراطية من الغرب، ومستعيدة قيم الشهامة والكرامة والنزاهة من تراثها الإسلامي العريق، حتى شهدنا صورا للبطولة والتضحية تتكرر اليوم، تشابه إلى حد كبير ما كان يحدث. في بداية الدعوة مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن جذوة هذا الدين الأولى قد عادت. مبشرة بنهاية عصر الانحطاط وبداية عصر الحضارة من جديد، والتي هي ليست نقيضا أو عدوة للحضارة الغربية، بل رافدا إليها، هي (أي الحضارة العالمية) بأمس الحاجة لدور العرب والمسلمين فيها، ليضيفوا لها قيما وأخلاقا، بعد أن أمعنت في الاعتماد على القوة والتكنولوجيا، وأهملت إلى حد ما، الجانب الروحي والإنساني والفلسفي في غمرة سحرها بتطور قدراتها المادية الهائل.
لذلك أرى أنها ثورة.. بل ثورة نادرة في التاريخ، بل حدث سيغير العالم إنشاء الله، وشرف أراد لنا الله أن نشهده ونشارك فيه، وقد الهم الله دول العالم الغربي الحر، على التقاط هذه اللحظة التاريخية. ومد يد العون لهذه التحركات الشعبية، في حين أن بقية دول الاستبداد والفساد والمافيات والتشبيح، وقفت تستميت في الدفاع عن الخطر القادم إليها من الشرق الأوسط. وهذا ليس مستغربا لمن يعقل ويرى. انه ربيع عربي وإسلامي، بل ربيع عالمي جديد يخطو بهذا العالم نحو سوية أعلى من الحضارة.. وأنا مؤمن تماما بذلك بل أكاد أراه بأم عيني، يحدث على شكل تغيرات دراماتيكية في السياسة، وفي نمط العيش، ليس أقله انهيار الحدود التي تفصل بين الدول، وتطور وسائل الحصول على الطاقة واستعمال الآلة، مدشنة عصرا جديدا من الحضارة لا يحتاج فيها الإنسان إلا إلى الإبداع والابتكار، يطغى فيها الجانب الذهني الروحي الافتراضي على الجانب المادي الفيزيائي.
ولذلك أدعو كل دول العالم العربي والإسلامي لالتقاط هذه اللحظة، وبشكل خاص الشعب الإيراني الشقيق، لكي نتجاوز مرحلة الانقسام التي طالت، والتخلف الذي لا يجب أن يستمر بعد الآن، وأشكر بشكل خاص الدور الرائد الذي تلعبه فطر وتركيا وفرنسا، دون أن ينتقص ذلك من دور بقية الدول وكل أصدقاء الحرية في العالم، وأدعو كل فرد للتفكير بعيدا عن يومياته الخاصة، في مشروع نهضة فتح الله لنا أبوابه، بعد أن غيرنا ما بأنفسنا، وهزمنا ما فيها من غش وخوف، وعلت حناجرنا بصوت الله أكبر (وهي جريمة تتسبب في الاعتقال، و يعاقب عليها القانون السوري حاليا) فلا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه الدعوة الثورية الجامعة، التي يشترك فيها كل أطياف الفكر والفلسفات، والتي هي ثورة مدنية حقوقية بامتياز، والتي ربما برز فيها الشكل التراثي الذي يستمد قيم البطولة من الرموز الإسلامية التاريخية، واستفادت من دور المساجد في إشعال شرارتها، هي ليست ثورة إسلامية. بل ثورة مدنية حديثة وثورة داخل الإسلام التقليدي أيضا، الذي أعاد إنتاج التخلف وخدم بقاء الاستبداد طويلا. و لا يجب أن تُفهم بأي شكل من الأشكال على أنها في مواجهة المسيحية أو الديانات والطوائف الأخرى، بل هي معها بما تحمله من قيم مشتركة مع الإسلام، بل هي دعوة من أجل إعادة الاعتبار لكل الأديان وللقيم الروحية والفلسفية جمعاء، والتي هي موحدة بوحدة الإنسانية وبوحدانية الله سبحانه ملهم الحق ومصدره. وهذه ليست دعوة للدولة الدينية، بل دعوة للدولة المدنية، التي تفصل السياسة عن الدين ولا تلغيه، والذي يحافظ على دوره الحقيقي في مكانه الأصلي، أقصد القلوب والضمائر، التي تحرك البشر الأحرار المسئولين عن اختياراتهم، غير المجرين عليها كالأنعام. ولا هي دعوة للتخلف وللعودة للماضي، بل هي دعوة لتحديث قراءتنا للدين بما نحمله من عقل ومعارف حديثة، لنكتشف معا أن ديننا الحنيف يستطيع وبسهولة التلاؤم بشكل سلس ومنطقي مع كل نظم الحياة الحديثة، ومع التغيرات الاجتماعية المرتبطة بها حكما. وهو المشروع الذي عملت عليه في سنوات سجني الطويل والذي سوف أناقشه معكم لو أعطانا الله بعض العمر والقدرة، وتركنا النظام السوري خارج أسوار معتقلاته. لكن طرح مسائل فكرية معقدة يحتاج لمناخ سياسي هادئ، لذلك نأمل لو تساعدونا في حل الأزمة في سوريا، بأسرع وأسهل الطرق، بحيث يحدث التغيير الديمقراطي المنشود، ونتمكن من فتح ورشة العمل الحضاري الفكري معا.
بارك الله في أمتنا شرقها وغربها، شامها ويمنها ومصرها وخليجها، وأمدنا بما يقوينا على قول الحق وإعلاء كلمته.. والله الموفق (يتبع).