كان بدء الثورة السورية إكليل من العار على جبين لبنان: صحافيون و»خبراء» وسياسيون لبنانيون من الصف الثاني، والأول أحياناً، يدلون عبر الأثير بالمواقف المعروفة تلو الأخرى، من إن النظام السوري إنما يواجه مؤامرة صهيونية امبريالية، وان النظام خطى خطواته الأولى نحو الإصلاح، وان ما يحول دون تحقيق الإصلاحات «المنشودة» هم هؤلاء المتظاهرين المطالبين بها، (ما زلنا في البداية) والذين يخبئون في صفوفهم «مسلحين سلفيين طائفيين» يعتدون على الأمن… إلى ما هنالك من آراء أُشبعت ترويجا وتكراراً اينما وليت وجهك داخل هذا العالم الذهني الافتراضي الذي إسمه «ممانعة».
عار فكري، التحق به العار العملي، إذ لا مجال، هنا بالتحديد، إلا لإقتران القول بالفعل: فكان هجوم «مدني» لبناني على متظاهرين، سوريين ولبنانيين، مؤيدين للثورة السورية، ثم ضغوط على الفنادق الكبرى، أو المتوسطة، لردعها عن استقبال فعاليات اللبنانيين المتضامين معها؛ أو ضغوط أقل شفافية، أو قلْ رقابة ذاتية أحيانا، قوامها حسابات الربح والخسارة، على كتّاب آخرين لكي لا يذهبوا أبعد مما يحفظ مكانهم ومكانتهم… يتوّج كل هذه المواقف المشرّفة خطف وتضييق وتوقيف معارضين ولاجئين السوريين في لبنان، يُردّ على إدانتها بالتسخيف والاستخفاف. فلا ننسى ان «مقاومينا» متعجرفين، أي قليلي البصيرة، لا يرون غير أولوية شجاعتهم بوجه اميركا واسرائيل، فيما العالم الباقي ملغى، وبجرّة كلمة فصيحة واحدة: مثلما أُلغيت أوروبا كلها عن خريطة الكوكب، بلسان وزير الخارجية السورية وليد المعلم، بعد ان أصدرت موقفاً لم يعجب النظام.
ثم عار حكومي أشدّ إيلاما، تلك الشيزوفرينيا التي لا تكفّ عن التأكيد على «حيادية» و»وسطية» تجاه الثورة السورية، بداعي «عدم تعريض لبنان لخضّات»؛ بعدما حمّل أقطابها «المقاومين» لبنان أكثر ما تحتمله الجبال من حروب، أين منها «الخضّات»… وليته كان حياديا، ذلك الموقف؛ بل انحياز واضح للنظام السوري، وجهر بتأييد لـ»سوريا الأسد… الى الأبد»، وتصويت، في الجامعة العربية، ضد قرار مؤيد للشعب السوري، وبالحجة نفسها من ان كل هذا إنما هو من أعمال الامبريالية والصهيونية…
وبهذا الخروج عن إجماع عربي، هو لأول مرة في صالح إحدى شعوبه، يكون لبنان قد تجاوز العار بذاته، وسجل لنفسه نقطة سوداء في تاريخه: الحكومات التي صوتت لتجميد عضوية سوريا الأسبوع الماضي ليست كلها محبة لشعوبها، بل منها من ارتكب مثل السودان مجازر ضد شعبه ورئيسه مطلوب من محكمة الجنايات الدولية. ومنها من هو، مثل العراق، الممتنع، متحالف مع النظام السوري، ويقف ضد الشعب السوري. فيما لم يصوت مع مندوب لبنان إلا مندوب اليمن، المرشح نظامه للسقوط بين لحظة وأخرى. ودعم الجامعة العربية هذا تتفوق حيثياته الأخلاقية الإنسانية على حيثياته السياسية؛ أو بالأحرى حيثياته الأخلاقية الإنسانية كان لها الدور الأعظم في صياغة حيثياته السياسية. والاثنتان هما من صنع وحشية النظام المنفلت من عقاله.
إذن، هناك استثناء لبناني ساطع. استثناء بالمعنى النقيض الذي كان عليه في سنواته السابقة من «عصره الذهبي». كان لبنان، في المحيط العربي الواسع، واحة حرية وتعدد وتناوب على السلطة؛ طبعا ودائماً بالمقاييس النسبية، أي الإقليمية، لا العالمية. وبقية الوصف الايجابي جميعنا يعرفه. ولكن هذا الاستثناء أصبح الآن سلبياً، بقدرة التاريخ، الفاضح دائما. صار لبنان بموجبه موطىء قدم لسياسات قمعية لم تعد تخجل من اصطدامها بالشعب السوري، وبوكالة حصرية.
هذا الاستثناء السلبي للبنان يضعه في آخر لائحة الدول العربية التي سينال منها التغيير شيئا، وقد لا ينال… والعطب الأساسي فيه، ليست فقط طبقته السياسية، الموزعة زعماء طائفيين أبديين على أبناء طوائفهم، والتي يقوم كل نشاطها على البقاء في السلطة، أو العودة إليها في «الانتخابات» المقبلة. لا ليست الطبقة السياسية هي وحدها العطب، مع انها تتعرض يومياً لسخط المواطنين ولعناتهم. إنما قواعد تلك الطبقة، جماهيرها الموالية لها على طول الخط. طبعاً، يدرك المرء طبيعة «التركيبة اللبنانية»، الطائفية، المعقدة التي تملي على هذه الجماهير التصفيق والتصويت لقيادات لم تقدها إلا نحو المزيد من إضعاف دولته وتطييف مجتمعه. جماهير تذهب أبعد من مغالاة قادتها، وتزايد عليها في نكايتها للطوائف الأخرى.
وهي الآن، في الحدث السوري الأعظم لم تغير نهجها: تقف مع الشعب السوري، أو تناهضه، بناء على ما تراه من خسارة، أو ربح للطائفة الأخرى: انتصر الشعب السوري، فكان بنظرها انتصار لعزوتها الطائفية على بقية لبنان، وثأرها من هيمنة ميدانية. انهزم الشعب السوري فكان نصرة لطائفة أخرى…. وهكذا، لا معايير مواطنة أو ديموقراطية، ولا من يحزنون؛ بل طوائف تكره الأخرى أكثر مما تحب الحرية. كأن هذه الجماهير هي على درجة غرور قياداتها نفسها، من انها مهما بلغت من إستلحاق، لن ينال منها عار الاستبداد…. لبنان بلد ديموقراطي…. ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ جماهيره هي التي صنعت طبقته السياسية….
هل من يتذكر تجربة التظاهرات المعادية للنظام الطائفي؟ هل من يرغب بتحليل إخفاقها في المهد؟ يمكن طبعا نقد ارتجاليتها، (من لم يكن مرتجلا في هذه الثورات؟) وقلة خبرتها التنظيمية الخ. ثم صعوبة إسقاط «نظام طائفي» المتعدد الرؤوس والأقنية، أو عبر شعارات تلح على عدم تسمية قادة هذا النظام، أو مع تسمية البعض دون الآخرين، المصابين بالقدسية السياسية. وهذه شوائب ليست بشيء يذكر أمام الاختراق الطائفي- المذهبي الذي صبّ جام عبقريته التقسيمية على شباب غير مطيف وبواسطة شباب آخرين يعملون بتوجيهات من قياداتهم الطائفية. الاجتماع الذي ختمت به تحركات إسقاط النظام الطائفي والذي جرى في مسرح بيروت هو الشاهد، وما ساده من توتر فائق، ومن تشابك بالأيدي، فضلا عن العبارات النابية التي خرجت من أفواه هؤلاء الشباب «المحزّبين»، كله يشهد على انعدام الحصانة الشعبية من العبث الطائفي؛ وهذه ليست مسؤولية المسؤولين. انها مسؤولية الشعب اللبناني بأسره.
لكن الأدهى من كل ذلك، هو كيفية تحول الشعوبية التي تشحن بها النفوس المقاومة، وبالعين المجردة، ضد مصلحة الشعب الأقرب الى اللبنانيين، شركاؤهم في النظام الاستبدادي الواحد، بل وضحاياه الأولين. كيف ان قطاعات سياسية بأكملها تنادي بالحرية الوطنية وتنبذ أصحاب الثراء المرتزقة، القابضين على اموال الشعب، العاملين ضد مصلحته، الرأسماليين والفاسدين… كيف ان هذه القطاعات نفسها، خصوصا شرائحها المتعلمة، او الصانعة للمعنى، ترى بأم عينها وتتنكر، لا تريد ان ترى… باسم مقاومة الامبريالية والصهيونية، ومشاريع تقسيم، وسايكس- بيكو جديد، تنبىء عنه، برأيها، تلك الثورة السورية العاتية. كيف حصل ذلك؟ كيف تحول أنصار الشعب الى أعداء له؟ أو على اقل تقدير، كيف انزلق القومي أو اليساري أو التقدمي من موقع المتفاخر بدعم حرية الشعب اللبناني ضد العدو الإسرائيلي الى موقع الرافض لحرية الشعب السوري؟ الجواب الجاهز، الذي لا يصاغ الا مبطّنا، ان القاتل الإسرائيلي ليس مثل القاتل السوري. هذه الذهنية عمّمتها أولوية عدائها للصهيونية والامبريالية، فحجبت عن نظرها نقاط التشابه الصريحة بين القتلة جميعهم.
لبنان، بهذه الشروط، سوف يتأخر عن الركب العربي المحيط به، وسوف يكون التلميذ الكسول أو المعاق في مدرسة الديموقراطية العربية الجديدة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل
الشعوبية اللبنانية تصادم مصلحة الشعب السوري وحرّيته
ان ماقلتيه ياسيدتي هو دليل على ان الديمقراطية التي في لبنان هي ديمقراطية في الاصل كانت مزيفة وما بني على باطل فهو ونتائجه باطلة.