كانت أمة العرب، في العصر السابق على الإسلام، وفى صدر الإسلام، أمّةً أمّية، لا تكتب ولا تحسب. وقد أثّرت هذه الأمية على مفاهيم العرب العامة، سواء كانت هذه المفاهيم كونية أو غيبية أو إجتماعية أو علمية أو سياسية، فكانت (المفاهيم) من ثم غامضة، غائمة، غابشة. وفى هذا الغموض والغيام والغبَش، نشأت واستقرت مفاهيم ومعتقدات وتصورات وتعبيرات الأجيال الأولى من المسلمين، ثم صارت هذه، بكل ما فيها من قصور وكل ما بها من عِوار، هي السوابق المقدسة أو شبه المقدسة – بالفعل والواقع – لكل المسلمين، فيما بعد، حتى وقتنا المعاصر؛ بحيث يصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، على جموع المسلمين، بل وعلى المتميزين منهم، أن ينفلتوا من هذا البناء المُصْمت، أو يتحرروا من قوة الجاذبية الشديدة لقواعده، إلا بجهد جهيد، وعلم بعيد، وإلهام من الله.
ونتيجة لذلك فقد أصبح الفكر الإسلامي المعاصر – في غالبه – فكراً مختلطاً مضطرباً، لكونه أسير الأبنية السَلَفية القلقة، نسيج الغموض والغيام والغبش. فهو – على الأكثر – لا يضع تعريفات محددة، ولا يفاصل بين النظم المختلفة، ولا يلتزم موضوعات البحث، ولا يتخذ مناهج واضحة، ولا يسير في سياقات منتظمة، ولا يعمل في اتجاهات متجانسة. وزاد من ذلك، بل وضاعف منه، أن بعض من عمدوا، ويعمدون، إلى احتكار الفكر الإسلامي مجرد متخصصين في اللغة العربية وحدها، يداعبون العامة ببريق الألفاظ، ويلاعبون الجُهّال برنين القوافي، ويستثيرون الجماهير بزائف الشعارات؛ أو أنهم محضُ دارسين لعلمٍ واحد من العلوم الإسلامية المختلفة كالفقه أو الحديث أو التاريخ أو المواريث أو التفسير أو الأحوال الشخصية أو الوعظ أو ما شابه؛ وهم – مع ذلك – يعملون فرادى فيفتقدون روح الفريق، وأسلوب العمل الجماعي الذي يمكن أن يضم تخصّصاتهم المختلفة في أداء متكامل يداخل ويمازج ويخارج بين أفكارهم للوصول إلى مناهج أقوم ونتائج أفضل، حتى وإن كانوا محجوبين عن العلوم الحديثة والابتكارات المعاصرة، مقطوعين عن ثورة المعلومات وفورة الاتصالات.
ولا شك أن هذه الضبابية العقلية أثرت، وما زالت تؤثر، على حسن استيعاب المفاهيم، وسلامة إدراك المسائل، وصحة وعي الأمور، مما أحدث نتائج بالغة السوء في المجالات الفكرية والمعتقدية والاجتماعية والسياسية.
ويظهر ذلك أكثر ما يكون الظهور عند استجلاء وتتبع معاني لفظي “الأمة” و”الدولة” في المفهوم الإسلامي.
فلفظ “الأمة” ورد في القرآن الكريم 49 مرة، بمعاني متعددة أهمها – بصدد البحث – معنى المجموعة الصغيرة Group أو الجماعة Community، لكنه لم يرد في القرآن أبداً بمعنى الأمّة السياسية Nation، كما هو المفهوم الدارج حالاً (حالياً).
ومن الأمثلة على الإستعمال القرآني للفظ “الأمّة” بمعنى “الجماعة” (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله) (سورة النحل 16 : 36)، (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) (سورة فاطر 35 : 24)، (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم) (سورة الرعد 13 : 30). أما الأمثلة على الإستعمال القرآني لذات اللفظ بمعنى المجموعة الصغيرة فمنها (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (سورة آل عمران 3 : 104)، (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (سورة الأعراف 7 : 181).
وفى لسان العرب أن الأمة هي الجماعة، وهى كل جيل من الناس (مادة أمة). وفيه أن أمة كل نبي هي من أُرسل إليهم من كافر ومؤمن.
وقد بدأ استعمال لفظ أمة على مجموعة المسلمين، ثم جماعة المسلمين أيام النبي (صلعم)، فكان يُقال عنهم “أمة محمد”.
ومع الوقت، وعندما انتشرت الأمة الإسلامية في أنحاء شتى من المعمورة، امتد اللفظُ ليعني الأمة بالمعنى السياسي، أي Nation ؛ ومن ثم أصبح يقال الأمة المصرية، والأمة العربية، والأمة الإسلامية، والأمة الفارسية، والأمة الفرنسية، وهكذا.
أما لفظ “الدّوْلة” بالمعنى المفهوم حالاً (حالياً) والذي يُطلق على وطن ما، كأن يقال الدولة المصرية أو الدولة التركية أو الدولة الإيطالية، وهكذا؛ هذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم ذاته، ولا في معاجم اللغة العربية التقليدية (الكلاسيكية) (يراجع – على سبيل المثال – لسان العرب)، وقد ورد اللفظ في تشكيل آخر هو دُولَة، بمعنى المداولة بين الناس أو بين الأشياء. (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دُولَة بين الأغنياء منكم) (سورة الحشر 59 : 7) أي إن الفيء الذي كان يحصل عليه الرسول، من أهل القرى غير المؤمنة، دون حرب لهم أو فتح لقراهم، يكون له وحده ولذوي قرباه، ومن يوزعه عليهم من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل (الغرباء الذين لا مورد لهم)، ولا يُتدَاول هذا المال بين الأغنياء من المؤمنين، فلا تكون لهم حصة فيه أو نصيب منه، يتداول بينهم. (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (سورة آل عمران 2 : 140)، أي إن الأيام تجرى بين الناس بأمر الله ما بين علو أو هبوط، ثراء أو فقر، سلطة أو تجريد منها، وهكذا دواليك.
وبدأ استعمال لفظ دُولة في اللغة العربية من هذا المعنى الذي يقصد تداول السلطة بين الناس في مكان أو إقليم معين، وربما أخذا عن عبارة “دولة المدينة” في الفكر السياسي الإغريقي، عندما اطّلع عليه فلاسفة العرب. ثم ذاع اللفظ وشاع ترجمة للفظ الإنجليزي State، ومن ثم فقد أقره مجمع اللغة العربية، وصار من مفردات اللغة، بعد أن خلت منه معاجم اللغة التقليدية؛ فظهر في المعجم الوسيط بتعريف أن: الدّوْلة جمع من الناس مستقرون في إقليم معين من الحدود مستقلون وفق نظام خاص (المعجم الوسيط) مادة “الدولة”.
ظهرت الدولة، بمفهومها الحالي، أول ما ظهرت في مصر القديمة (3200 ق.م) حيث توحّدت تحت سلطان حاكم واحد هو الفرعون، يعاونه عدد من الكهنة كوزراء ومشرفين على الشئون الدينية ورؤساء للمعاهد العلمية، وحكام للأقاليم، وجيش موحد، ونظام محدد للشرطة والقضاء والري والزراعة والضرائب، وكل شأن من شئون الدولة. ثم ظهرت في بلاد ما بين النهرين (العراق حالا) : بابل، وآشور، وكلدانيا. وظهرت في أماكن متعددة بعد ذلك.
وفى البلاد الإغريقية نشأ ما يُعرف باسم دولة المدينة State City؛ ذلك أن بلاد الإغريق (والبلاد الرومانية الإيطالية) لم تعرف الدولة المركزية وإنما عرفت المدن المستقلة، وأشهر هذه المدن أثينا وإسبرطة. وكانت هذه المدن الإغريقية (والإيطالية فيما بعد) تحرص على استقلالها وحريتها، وتضع لنفسها دستوراً يكفل لها ذلك، وقد حلل أرسطو (384 – 322 ق.م) دساتير 154 مدينة، وكان هو وأستاذه أفلاطون (ح 427 – 347 ق.م) يعزوان إلى هذا النظام النجاح الفذ الذي أحرزه الإغريق في شوط الحضارة، ويعتبرانه النظام الطبيعي الوحيد الذي يستطيع أن يعيش في كنفه الرجال الأحرار. ويقول أفلاطون في كتابه الشهير “القوانين” إن 5040 أسرة هي العدد المثالي لسكان المدينة الحرة، بينما ذهب أرسطو إلى أن هذا العدد أكبر مما يجب. ويرى هذان الفيلسوفان أن هدف الدولة يجب أن يكون توفير الحياة الطيبة لمواطنيها، وأن الدولة يجب ألا تكون كبيرة إلى حد يتعذر معه معرفة كل مواطن واستخدامه. وقد تفاوتت نظم هذه المدن فيما بينها، وفى كل منها على مر العصور، من المَلكَية المطلقة إلى الديمقراطية الكاملة.
أما العرب فإن جنوب شبه الجزيرة العربية اختلف فيها عن غيرها. ففي هذه المنطقة قامت ممالك عدة أشهرها مملكة سبأ؛ لكن في شمال هذه المنطقة، وفى نجد والحجاز بالذات، لم تقم أي دولة قط، وتقطعت العرب فيها أمم (جماعات). وكان النموذج الشائع والمثالي فيها هو نموذج القبيلة، كقبيلة قريش في مكة، وقبيلتي الأوس والخزرج في المدينة. وكانت القبيلة تُحكم بواسطة رئيس له امتيازات خاصة، أو بواسطة جماعة صغيرة من الراشدين، كما كان يحدث بالنسبة لقريش، التي كانت تتكون من إثنى عشر حيا (أي فرعاً)، وكان من يبلغ الأربعين عاماً من الرجال يصبح عضواً في دار الندوة، التي تُحكم القبيلة منها وتوزع الاختصاصات بين فروعها.
ولما بدأ الإسلام بدأ في مكة، في أرض الحجاز، التي لم تعرف نموذجاً للحكم غير نموذج القبيلة، فلم تقم فيها مملكة أو إمارة (أو دوُلة) أبداً، وأنذر النبي (صلعم) بدعوته عشيرته الأقربين، كما أمره القرآن، ثم دعا أبناء قبيلته قريش، فلم يستجب له إلا عدد قليل جداً، على مدى 13 عاماً. واضطر النبي (صلعم) من ثم إلى أن يتوجه بدعوته إلى مدينة الطائف، حيث قبائل أخرى، كما توجه بها إلى جمْع من قبيلتي الأوس والخزرج، من أهل يثرب (المدينة)، التقى به في موسم الحج، واضطر النبي (صلعم) بعد ذلك إلى الهجرة إلى يثرب، وهناك أقامت جماعة المسلمين نظاماً مقابلاً وموازياً لنظام القبيلة. وأطلق القرآن على هذا النظام “الأمة” أي الجماعة Community (وليس أمة بالمعنى السياسي المفهوم حالا أي Nation) ؛ وهو تكوين (الأمة) تقوم فيه العلاقات بين أفراده على أساس الإيمان، والإنتماء إلى شريعة واحدة، خلافاً للنظام القبلي الذي تقوم العلاقة فيه بين أفراده على أساس رابطة الدم. وفى معنى أن جماعة المسلمين كانت تسمى في القرآن أمة، ما جاء في الآية الكريمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) سورة البقرة 2 : 143.
في هذه الأمة، هذه الجماعة، لم يكن ثم تنظيم سياسي أو إداري أو هيكلي أو وظائفي. لقد كانت للنبي (صلعم) بعض الإمتيازات التي تماثل إمتيازات رؤساء القبائل آنذاك، منها – على سبيل المثال – حقه في استيفاء ما يشاء (أو من يشاء) من الغنائم (كما اصطفى صفية بنت حيى بن أخطب من بين سبايا اليهود ثم تزوجها)، وكان النبي (صلعم) يقوم بدور القائد العام لجماعة المسلمين، في الحرب والسلم ؛ فضلاً عن دوره التشريعي الذي حجب أي مسلم آخر عن المساهمة في التشريع، خلافاً لما كان يحدث في الدولة المركزية أو دولة المدينة. وكان النبي (صلعم) إلى ذلك يتولى شئون الفصل في الخصومات، أو الحكم بالعقوبات، كمُحَكّم وليس كقاض. وفيما عدا ذلك، فلم يكن في هذه الأمة (الجماعة) نظام وزراء، محددون، لكل منهم اختصاص معين؛ ولم يكن يوجد نظام للشرطة أو مرافق عامة أو جهاز لجباية الضرائب، أو إدارات لتسيير العمل في الجماعة ؛ بل كان شأن هذه الأمة شأن النظام القبلي الذي كان سائداً، آنذاك وحينذاك، وفيه يقوم كلُّ على رعاية نفسه وأسرته، على ضوء التعاليم الدينية الجديدة ؛ ويتجمع المحاربون عند الغزو أو الدفاع، كل بسلاحه ومئونته، فإن احتاج الجيش إلى مال للتزويد بالعتاد أو بالمؤن، تبرع به أغنياء المسلمين من أموالهم الخاصة، كما حدث من عثمان بن عفان في إحدى الغزوات.
في ذلك الحال، الذي كان ابن مكانه وابن زمانه، لم يكن يوجد جهاز منظم لتنفيذ الأحكام، فكان المتحاكمون إلى النبي (صلعم) في المسائل المدنية ينفذون أحكامه طواعية واختيارا، وإلا خرجوا من صفوف المؤمنين. أما العقوبات، حدوداً أو تعازير، فكان النبي (صلعم) يأمر أي شخص، غير محدد، أو أي جماعة من المؤمنين، غير معينة بذاتها، بتنفيذ العقوبة؛ وظل الأمر على ذلك الحال طوال عهد الخلفاء الراشدين. ففي عهد عثمان ابن عفان أمر بتوقيع عقوبة على مذنب، ثم طلب من على ابن أبى طالب الذي كان من بين مجالسيه أن يوقع العقوبة بنفسه، فأبى عَلىُّ ذلك وقال “يلي حرّها من يلي قرّها” أي ينفذ أوامر الخليفة من يستفيد من حكمه ويغتنم من عطاياه.
ولآن الوضع كما سلف كان غريباً عن النظم السياسية والإدارية العامة والمعاصرة، فلا توجد فيه أجهزة أو إدارات محددة ذات اختصاصات مرسومة واضحة، فإن الجماعة (الأمة) كانت تتواصى فيما بينها بالحق والصبر، ويندب أي شخص نفسه لعمل الخير أو لمنع الشر، وفى ذلك يقول القرآن (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) سورة آل عمران 3 : 104، فهذه الأمة (أي الجماعة الصغيرة ضمن الجماعة الكبيرة) تندب نفسها (أي التطوع بلا مقابل) للدعوة إلى الخير وللأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، على أن يكون ذلك بالحسنى والفضل والسلام الذي لا عنف فيه، ولا بغى ولا عدوان ولا قتال ؛ وهذا هو المستفاد من معنى الآية ومن واقعات التاريخ، فلم يذكر التاريخ قط، رواية عن التجاء جماعة (أو أمة) إلى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر – طوال عهد الخلفاء الراشدين – باتباع العنف في ذلك أو اللجوء إلى البغي والعدوان والقتال.
إن الإدعاء بأنه قد قامت دولة الإسلام في المدينة، على عهد النبي (صلعم) والخلفاء الراشدين، هو من زائفة القول وعارية الحديث. ذلك بأن للدولة مقوّمات، سواء كانت دولة مركزية أم دولة المدينة، وهذه المقومات لم تتوافر أبداً في ذلك العهد، وكل ما قام – على ما انف البيان – وضع مقابل ومواز للنظام القبلي الذي كان معروفاً للعرب معهوداً بينهم، غير أنه استبدل رابطة الإيمان بين المؤمنين، برابطة الدم بين أبناء القبيلة. وإسقاط المفاهيم السياسية المعاصرة والنظم الإدارية الحالية، على أمة المسلمين في عهد النبي (صلعم) والخلفاء الراشدين، تغريب في الفهم وتخريب للعقل وتزييف للتاريخ وتزوير للواقع، يضر أكثر مما يفيد ويؤذى أشد مما ينفع، ويضلل المسلمين وغير المسلمين عن فهم الحقيقة وإدراك الصواب.
ولقد كنا قد ذكرنا في كتابنا أصول الشريعة (1979) أن النبي (صلعم) لم يٌقم دولة في المدينة، وإذا أريد القول بأنه أقام دولة – على سبيل المجاز – فإن تكون دولة المدينة، وليست دولة بالمفهوم المعاصر، والآن يبدو أكثر وأكثر أن ما قام في المدينة ليس دولة أبداً، ولا حتى دولة المدينة، إن أردنا التعبير الصحيح ولم نلجأ إلى المجاز، ولهذا السبب فإن القرآن الكريم لم يذكر لفظ “دولة” أبداً، وخلت معاجم اللغة العربية من هذا المعنى، حتى أقره أخيراً (بالمعنى السياسي والإداري) مجمع اللغة العربية.
وعندما قامت الخلافة الأموية في دمشق كانت قريبة من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وعاصمتها بيزنطة (التي هي الآستانة الآن)، كما كانت منطقة الشام كلها محكومة من قبل من هذه الإمبراطورية، وفيها نظم سياسية وإدارية ثابتة؛ وإذ ذاك بدأت تظهر معالم “الدولة الإسلامية” حيث يوجد وزراء وحجاب وشرطة ونظام قضائي وجهاز لجباية الخراج والجزية، كما ظهر – فيما بعد – نظام المحتسب، وهو نظام من نظم الدولة يقوم بما كانت تقوم به الأمة (الجماعة) التي تندب نفسها للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبهذا لم يعد من حق أي جماعة (أمة) أن تندب نفسها لهذا العمل وإلا أصبحت معارضة لجهاز الدولة مناقضة لجماعة المسلمين. غير أن هذا لا يمنع أي فرد من أن يندب نفسه لتلك المهمة السامية في نطاق القانون، وفى ظلال العرف، وبإتباع الحسنى، وبلسانه فحسب.
وقد يظن البعض ممن لم يقرأ التاريخ أو يعرف الحقيقة أنه قد قامت في التاريخ الإسلامي دول قليلة، يعتقد أنها الدولة الأموية، والدولة العباسية، والدولة الفاطمية، والدولة العثمانية؛ وهذا غير صحيح، ذلك أن العالم الإسلامي لم يكن مُوحّداً قط، بعد عهد الخلافة الراشدة، وإنما تقطع دولاً كثيرة (وإن سميت خلافة أو إمارة أو سلطنة أو مملكة أو لم تسم إطلاقاً) وفيما عدا الدول الإسلامية المعاصرة، فإن الدول الإسلامية، بعد الخلافة الراشدة، هي : الأموية بدمشق (661 – 749 /50م)، العباسية ببغداد (949 / 50 – 1258م)، الأموية بقرطبة (755 / 56 – 1031م)، الحمودية بمالقة (1016 – 1057م)، العبادية بأشبيلية (1023 – 1091م)، الزيرية بغرناطة (1012 – 1090م)، ذو النون بطليطلة (1036 – 1085م)، العامرية ببلنسية (1021 – 1085م)، التوجيبية بسرقوسة (1019 – 1141م)، الدانية بدانية (1017 – 1075 / 76م)، بنو نصر بغرناطة (1232 – 1492م)، الأدارسة بمراكش (788 – 985م)، الزيرية بتونس (972/73 – 1148م)، بنو حماد بغربى الجزائر (1007/ 8 – 1152م)، المرابطون بشمال أفريقيا (1056 – 1146م)، الموحدون بشمال أفريقيا والأندلس (1130 – 1268م)، بنو حفص بتونس (1227 – 1534م)، بنو ذيان بغربى الجزائر (1235 / 36 – 1394م)، بنو مرين بمراكش (1195 – 1567م)، الشرفاء بمراكش (1195 – 1567م)، الشرفاء بمراكش 1544 وإلى الآن)، الطولونية بمصر (868 – 904 / 5م)، الأخشيدية بمصر (905 – 969م)، الفاطمية بالقيروان ومصر (969 – 1171م)، الأيوبية بمصر وسورية (1171 – 1250م)، المماليك البحرية بمصر (1250 – 1382م)، المماليك الشراكسة (382 – 1517م)، الأسرة العلوية بمصر (1805 – 1953م)، النجاحية باليمن (1021 – 1158م)، الصليحية باليمن (1027 – 1101/2م)، الهمدانية (1099 – 1173م)، المهدية باليمن (1151 – 1173/4م)، الزريعية بعدن (1093 – 1173/4م)، الرسولية باليمن (1228 – 1454م)، الطاهرية باليمن (1446 – 1517م)، أئمة صنعاء باليمن (1591/2 – 1962م)، الحمدانية بالموصل (929 – 1003/4م)، المرداسية بحلب (1023 – 1079م)، الطاهرية بخراسان (820/21-872م)، الصفارية بفارس (868-903م)، السلمانية بتركستان وفارس (874/75-999م)، بنوبويه بالعراق وغيرها (932-1055م)، السلاجقة بجنوبى أسيا الغربية (1037-1300م)، الأتابكة البوريون (1104-1154م)، الأتابكة الزنكيون بسوريا وبين النهرين (1127-1250م)، الأرتقية بديار بكر (1101/2-1312م)، العثمانية الأتراك بآسيا الصغرى والآستانة (1299-1923م)، خانات المغول (1206/7-؟)، مغول الفرس (1256-1349م). الجيلاديون بالعراق (335/6-1411م)، شاهات العجم بإيران (1501/2-1979م)، التيموريون بتركستان (1369-1501م)، الغزنويون بأفغانستان وبنجاب (962-1186م)، الفوريون بأفغانستان وشمال الهند (1148-1215م)، سلاطين دلهى بالهند (1205/6-1554م)، ملوك البنغال وحكامها (1202/3-1576م)، ملوك جانبور الشرقيون، ملوك مالوا، ملوك كجرات، ملوك البهنمية، الشاهات النظامية، الشاهات القطبية، أباطرة المغول (1525-1858/59م)، أمراء وملوك أفغانستان (1747-1971م).
إن الأمة غير الدولة. فالأمة وضع لجماعة من الناس تضمهم رابطة الدين أو الدم أو الجنس أو العنصر أو ما إلى ذلك، أما الدولة فهى نظام سياسي وإدارى قد يضم أمة أو أمماً أو بعض أمة.
فالأمة العربية تتفرق في دول شتى، والدولة الروسية تضم أمماً متعددة، وهكذا.
أما القول بأن الإسلام دين ودولة، فهو قول أدنى إلى الشعارات التي لا تستند إلى أساس علمي، ولا تقوم على سند تاريخي. فالإسلام عقيدة وشريعة، لم تكوّن دولة، ولم تأمر بذلك، وليست الدولة ركناً فيها أو أساساً لها. إنما كون المسلمون أمة (جماعة) في عهد النبي (صلعم) بالمدينة، ثم في عهد الخلفاء الراشدين، وعندما قامت الخلافة الأموية بدأت تنشأ الدولة الإسلامية بالمفهوم الدارج حالاً؛ ثم إنتشر هذا النموذج فيما بعد. فالدولة الإسلامية، أو نظام الدولة في الإسلام، نظام تاريخي أي جزء من التاريخ، وليس نظاماً عقائدياً بحال. والذي يخلط بين العقيدة والتاريخ، يخلط بين الدائم والمتغير، ويمزج بين الصفاء والتعقيد. إن العقيدة مثالية صافية، أما التاريخ فهو جماع النشاط البشرى بكل ما فيه من نقائص ونقائض، ودمج العقيدة في التاريخ خطأ ما بعد خطأ، وسوء لا يدانيه سوء.
الأمة والدولة في المفهوم الإسلامي
شكرًا لك مفكرنا الكبير على هذا المقال المفيد والممتع. إنني دوما أتعلم منك. بارك الله فيك وأعطاك ما أنت أهل له نظير جهودك الفكرية التي تنير الطريق للمستنيرين.
الأمة والدولة في المفهوم الإسلامي
قراتك دائما ممتعة يا دكتور و مشاركتك فى المشهد السياسى الحالى ستضفى فائدة جمة لمن أراد ان يستزيد و يعتبر.
أعذرنى لعدم السؤال