“مملكة الإسفلت” عنوان كتاب صدر حديثاً لأستاذ الأنثروبولوجيا الفرنسي باسكال مينوريه (الصورة) حول المملكة العربية السعودية. يركّز الكتاب، الذي استغرقت أبحاثه 4 سنوات، على العاصمة “الرياض” وظاهرة “التفحيط” الذي يلجأ إليه الشبان السعوديون للخروج من حالة “السأم” في بلد يخلو من أماكن الترفيه، ولكن أيضاً، ربما، تعبيراً عن تذمّر اجتماعي وسياسي، حيث أن طرق الإحتجاج الأخرى غير مسموحة! أجرى المقابلة جورج مالبرونو لجريدة “الفيغارو” الفرنسية.
الفيغارو- كيف نشأت ظاهرة “التفحيط” (أو “روديو المدن”) التي يعتنقها قسم من الشباب في كبريات المدن السعودية؟
باسكال مينوريه: ظاهرة التفحيط قديمة لأنها بدأت في سنوات السبعينات. وفي تلك الحقبة، كان مراهقون من الطبقات الشعبية يسرقون السيارات ويقودونها بسرعات تصل إلى ٢٠٠ كيلومتر في الساعة مع توجيهها للإنزلاق على عجلتين فقط. وما تزال ظاهرة التفحيط رائجة في الرياض الآن. وعبر تلك الألعاب الخطرة، فقد خلق الشبان “مجتمعاً مضاداً” له أبطاله، وفيه قوانين فروسية وتنافس خاصة: إنه “دولة مصغّرة” ضمن الدولة!
الفيغارو- هل يلجأ الشبّان لهذه التسلية لأنه لا توجد ميادين تسلية أخرى، مثل صالات السينما أو البارات؟
باسكال مينوريه: هنالك جانب تسلية وترفيه بدون أدنى شك. ولكن ظواهر التفحيط تمثّل رسالة سياسية أيضاً. فسوق السيارات هي أحد رموز مجمتع الإستهلاك. وهنالك عدد هائل من السيارات في الرياض بالذات. ثم أن شبكة الطرق هائلة. ما يعني أن المساحات الضرورية لممارسة هذه الظاهرة متوفرة بكثرة في مدينة مترامية الأطراف مثل الرياض.
وبمعزل عن ظاهرة التفحيط، فإن كتابي يركّز على مدينة “الرياض” وعلى تطوّرها الذي خطّطه خبراء غربيون بالتنسيق مع أمراء العائلة الحاكمة. كيف أدّى هذا التطوّر، الذي انطلق في سنوات السبعينات، إلى كارثة اجتماعية بعد ٣٠ سنة؟ والواقع هو أن “الرياض” توسّعت بسرعة خارقة وبطريقة فوضوية. وكانت عائلة آل سعود بحاجة لمبادلة الأراضي وأمكانات الإستثمارات التي توفّرها بولاء النُخَب، وخصوصاً النُخَب الإقتصادية، لها. وقام آل سعود- وخصوصاً الملك سلمان، حاكم الرياض في حينه- بتوزيع الأراضي والقروض الميسّرة بدون حساب. ونتيجة لتلك السياسة، فقد نشأ مشهد مديني أفقي للغاية، أي ما يشهد مدينة “لوس أنجلوس” في شبه الجزيرة العربية. يدهش المرء لرؤية مدينة أميركية بجادات مستقيمة وأحياء جديدة في السعودية!
الفيغارو- ماذا كانت العواقب الإجتماعية لذلك التطوّر؟
باسكال مينوريه: حقّاً أن طبقات اجتماعية جديدة نشأت، وأثرت، حول العائلة الحاكمة. ولكن التوسّع المديني المتفلّت خلق تفاوتات اقتصادية هائلة، وأدى إلى تذمّر واستياء. وذلك كله هو ما أدى إلى ولادة ظاهرة “التفحيط” التي قمت بتحليلها باعتبارها “حركة اجتماعية”: أي حراك يقوم بها مراهقون تعود أصولهم إلى الضواحي الفقيرة لمدينة “الرياض”، أو إلى الأرياف أحياناً، يجدون أنفسهم بلا حول ولا قوة في مدينة تسودها قاعدة أساسية: إذا كنت قريباً من السلطة، فسوف تتمتع بقدر من السلطة…
الفيغارو- أي ان “التفحيط” نوع من المقاومة ضد النظام؟
باسكال مينوريه: ظاهرة “التفحيط” تدحض المزاعم القائلة بأن الشبيبة السعودية صامتة ومستكينة لأنها غنية. إنها طريقة أخرى للتعبير عن التذمّر، حيث أن طرق التذمّر الأخرى تُقمَع بشدّة. الناس تستخدم الأساليب المتاحة لها للتعبير عن سخطها. المفحّطون هم شبان لا يملكون منفذاً إلى الإقتصاد السعودي، ومحكوم عليهم أن يقوموا بـ”أعمال صغيرة”، أو أن يلجأوا إلى “الواسطة”… لقد قال لي أحد هؤلاء الشبان: هذه السيارات، انتم تصنعونها في الدول المتقدمة بفضل نفطنا. ثم تبيعونها لنا بأسعار باهظة، أما نحن فنقوم بتحطيمها…!
الفيغارو- هل يمثّل هؤلاء الشبان خطراً على السلطة؟
باسكال مينوريه: كلا. ولهذا السبب، فالسلطة تتغاضى عنهم إلى حد ما.. فما يقومون به يمثّل صمام أمان. ولسان حال بعض أوساط القصر هو “لنتركهم وشأنهم”! إن مواطني “الرياض” والمستوطنين فيها غالباً ما ينظرون نظرة فوقية إلى البدو. وهذا مع أن الشرطة تواجه ظاهرة “التفحيط” بشدة. ولديها وحدة متخصصة بمكافحة “التفحيط”.
وهنالك سبب يمكن أن يثير قلق السلطات: وهو أن تجمّعات “التفحيط” هي تجمعات يتدرّج فيها الشبّان نحو التطرّف. فهم ينضمون إلى شبكات مقاومة للسلطة، ومقاومة للشرطة. ومن تلك الشبكات، انزلق بعضهم نحو الجهاد في أفغانستان في سنوات الثمانينات، ثم في العراق بعد العام ٢٠٠٠. مع أن تطرّفهم، بالأصل، كان تطرّفاً ناجماً عن أوضاعهم الإجتماعية وليس تطرّفاً دينياً.
وهنالك نموذج لافت: إن “يوسف العييري”، مؤسس “القاعدة في شبه الجزيرة العربية”، كان يقوم بـ”التفحيط” في شوارع “الدمام” في المنطقة الشرقية بالسعودية قبل أن يلتحق بالجهاد في أفغانستان. ومن أفغانستان، فقد عاد إلى السعودية حيث قُتِل في حوالي السنة ٢٠٠٥ وسط العمليات الإرهابية الكبيرة التي قامت بها “القاعدة” في السعودية.
الفيغارو- هؤلاء الشبّان، هل يتعاطفون مع الأمير محمد بن سلمان، إبن الملك، الراغب في إصلاح الإقتصاد السعودي؟
باسكال مينوريه: حينما أتحدث مع شبان سعوديين، وحينما يتطرق الحديث إلى محمد بن سلمان، فإنهم “لا يقبضونه”! فلا بد من ملاحظة أن ما يقترحه الأمير الشاب مطروح منذ سنوات الخمسينات! وقد اقترح خبراء أميركيون، وخصوصاً أحد أساتذة جامعة هافارد، تنويع الإقتصاد السعودي منذ تلك الحقبة. من جهة أخرى، يعي الشبان أن كل ما يطرحه محمد بن سلمان هو إصلاحات اقتصادية، وأن اقتراحاته لا تتضمن أية إصلاحات سياسية!
الفيغارو- ٥٨ بالمئة من السعوديين هم تحت سنّ الـ٢٥. هل يمثّل الشبان قنبلة موقوتة؟
باسكال مينوريه: لا يجدر بنا أن نعزل الشبيبة السعودية عن بقية المجتمع. هنالك مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية تتخطّى الأجيال في السعودية. حقاً أن الشبان يواجهون مشكلة فقر حقيقية. لن تجد السلطات حلاً لمشكلة البطالة إذا ما قامت بفتح صالات سينما، إذا صحّ أن ذلك يمكن أن يحدث في مستقبل قريب.
إن ما يريد الأمير محمد بن سلمان أن يحققه هو “التخصيص” الذي سينجم عنه خلق أعمال وظائف ونشاطات اقتصادية جديدة. ولكن هنالك طريقة بسيطة جداً لزيادة العمالة في السعودية، وهي قانون ينصّ على الحد الأدنى للأجر في القطاعين العام والخاص! ففي السعودية، لا تصل رواتب القطاع الخاص إلى مستواها في القطاع العام. وأنا شخصياً لا أعتقد أن العائلة الحاكمة مستعدة لفرض قانون الحد الأدنى للأجور.
الأمر المؤكد هو أن ما يسمّى شراء السلام الإجتماعي سيكون أصعب بعد انخفاص سعر البرميل إلى ٤٠ دولاراً، مما كان حينما وصل السعر، قبل أشهر قليلة، إلى ١٠٠ دولار للبرميل.