عــُــــــرف ساسة بكين بداهئهم وذكائهم وعدم تهورهم في إتخاذ المواقف السياسية خشية أن يعود ذلك بالضرر على مصالح بلادهم. لكن يبدو أن ذكاءهم قد خانهم في ما يتعلق بالأوضاع في ليبيا، حينما ترددوا في الوقوف إلى جانب شعبها ومجلسها الإنتقالي، بل و إنتقدوا الحملة العسكرية للناتو لحماية المدنيين الليبيين من نظام العقيد الهارب في مجاهل الصحراء، واصفين إياها بالتدخل في الشئون الداخلية لدولة مستقلة ذات سيادة، الأمر الذي لا شك أنه أضر وسوف يضر أكثر في القادم من الأيام بالمصالح الصينية في هذا البلد النفطي الكبير، لصالح الدول الغربية وبعض الدول العربية التي دعمت الثوار سياسيا وعسكريا وإغاثيا مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وقطر والإمارات. ناهيك عن تركيا التي ساعدت قواتها الثوار عبر فرض حصار بحري على الموانيء الليبية الموجودة تحت يد القذافي.
وعلى حين كان من المفترض أن يشكل ذلك درسا لبكين لمراجعة مواقفها- قبل فوات الأوان – إزاء الإنتفاضة الجماهيرية الحالية في سوريا ضد نظام الرئيس الأسد، بمعنى ألا تقف حجرة عثرة في مجلس الأمن الدولي أمام تحرك دولي سريع لحماية الشعب السوري من القتل والتنكيل اليومي، وإنْ كانت مصالح الصين في سوريا لا تقارن بمصالحها في ليبيا، فإنها تبدو وكأنها تراهن على حدوث معجزة ما لصالحها، شأنها في ذلك شأن غريمتها الموسكوفية السابقة.
المعروف أن بكين إستثمرت كثيرا في ليبيا، وخصوصا في الحقبة التي كان فيها نظام معمر القذافي مقاطعا من المجتمع الدولي بسبب قضية “لوكربي” وغيرها من مغامرات العقيد الطائشة، وذلك ضمن السياسات الصينية المعروفة والهادفة إلى التمدد في شمال ووسط وجنوب القارة الإفريقية، إستحواذا على مكامن النفط والغاز ومناجم المعادن، والعقود الإنشائية المربحة، والصفقات التجارية المجزية. ومن هنا لم يكن غريبا أن تتواجد على التراب الليبي – قبل الأحداث الأخيرة – 75 شركة صينية (بينها 13 شركة مملوكة للدولة)، وأن تكون هذه الشركات منخرطة في أكثر من 50 مشروعا بقيمة إجمالية لا تقل عن 18.8 مليار دولار، وأن تتراوح تلك المشاريع ما بين إنشاء الوحدات السكنية الفاخرة، ومد خطوط السكك الحديدية، وإقامة المنشآت النفطية، وتقديم خدمات الإتصالات، وتشييد المباني الحكومية والملاعب الرياضية، وأن تضطر الحكومة الصينية إلى إجلاء نحو 35 ألفا من عمالها وموظفيها ومهندسيها على عجل في فبراير المنصرم.
الآن وبعد أن حسم الليبيون، بمساعدة عسكرية من الناتو ومؤازرة سياسية من المجتمع الدولي، أوضاعهم تبدو الصين (ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم) كمن خسر موطيء قدم مهم لها في شمال إفريقيا. ولعل ما يؤكد ذلك ويجسد الحزن والألم اللذين يعتريان قادة بكين هو مسارعتهم إلى تحذير النظام الجديد في طرابلس الغرب من مغبة المساس بالمصالح الصينية في ليبيا وضرورة حمايتها، وذلك بمجرد أن صرح ناطق رسمي بإسم المجلس الإنتقالي الليبي بأن الشركات الصينية والروسية وكذلك البرازيلية سوف لن يكون لها مكان في ليبيا ما بعد معمر القذافي بسبب مواقف حكوماتها المتخاذلة وتأخرها في الإعتراف بالسلطة الجديدة (للروس والبرازيليين، كما للصينيين، إستثمارات ضخمة في ليبيا ببلايين الدولارات، ولا سيما في قطاعي النفط والغاز). والمعروف أن بكين لم تعترف رسميا حتى الآن بالمجلس الإنتقالي كسلطة شرعية، ولا تزال تناور وتطالب الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي والجامعة العربية بالعمل على إعادة النظام في ليبيا كشرط لإعترافها، على نحو ما قاله وزير الخارجية الصيني “يانغ جييتشي”.
غير أن هناك من يقول أن بكين تحاول اليوم بشتى الوسائل إصلاح ما إنكسر وتشظى في العلاقات الصينية – الليبية، وذلك من خلال التودد إلى رموز النظام الجديد، والتعهد بالمساهمة الجادة في إعادة تعمير ما هدمته حرب الإطاحة بنظام العقيد الفار، لكن بعدما تنضج الأمور وتتوقف الفوضى الأمنية تماما في ليبيا. ولعل ما يؤكد هذا السعي قبول بكين السريع للدعوة التي وجهت لها من قبل الرئيس الفرنسي “نيقولا ساركوزي” لحضور مؤتمر إعادة إعمار ليبيا في العاصمة الفرنسية في الأول من سبتمبر الجاري، ناهيك عما صرح به “زي ياجينغ” المسئول التجاري في دائرة شئون أفريقيا وغرب آسيا في وزارة التجارة الصينية من أن بلاده تملك من الإمكانيات الهائلة المالية والبشرية والتقنية ما يجعلها أفضل من أي بلد آخر لجهة المساهمة في إعادة إعمار ليبيا.
إلى ذلك يحاول الصينيون إيهام الليبيين بأن مواقفهم لم تكن منحازة إلى جانب نظام العقيد القذافي، وإنهم كانوا متابعين منذ البداية لكل ما كان يجري في ليبيا، وسعوا جديا لدى القذافي لإقناعه بعدم إستخدام السلاح ضد شعبه، مشيرين في هذا السياق إلى الدعوة التي وجهوها إلى وزير خارجية النظام البائد للقدوم إلى بكين لإقناعه بمخاطر الإنزلاق نحو حرب أهلية، وإلى المحادثات التي أجراها سفيرهم في الدوحة في يونيو الماضي مع رئيس المجلس الإنتقالي مصطفى محمد عبدالجليل، وإلى الرحلة التي قام بها أحد كبار دبلوماسييهم في القاهرة إلى بنغازي للإطلاع على الظروف الإنسانية وتدشين صندوق صيني للإغاثة، وإلى المساعدات الإنسانية التي أرسلوها إلى الثوار عبر الصليب الأحمر الصيني، وإلى المحادثات التي أجراها في بنغازي مع رموز المجلس الإنتقالي “تشين زياودونغ” رئيس الدائرة الإفريقية في وزارة الخارجية الصينية. غير أن ما يتذكره الليبيون جيدا هو أن بكين، في كل مساعيها، كانت تعمل من أجل وقف إطلاق النار فحسب، ولم تكن معنية بآلامهم وطموحاتهم!
ويعتقد زعماء الصين، التي حصلت العام الماضي من ليبيا على ما يعادل 3 بالمائة فقط من إجمالي وارداتها النفطية، أن نظراءهم في ليبيا ما بعد العقيد أعقل من أن يفترضوا إمكانية حل مشكلة بناء ليبيا الجديدة بالجهود الغربية وحدها دون جهود الصين التي لديها ميزة نسبية لجهة العمالة الرخيصة والخبرات المتراكمة من الإنخراط في مشاريع البنى التحتية في الدول النامية المشابهة. كما يجزمون بأنه طالما كان إعتماد ليبيا في بناء ما تهدم على العائدات النفطية (تصدر ليبيا يوميا نحو 1.6 مليون برميل يوميا من النفط، وهو ما يعني أنها تحصل على عوائد سنوية تصل إلى 50 بليون دولار) فإنه من الأجدى أن تكون تلك العائدات قادمة من دول مختلفة وليست محصورة في الغرب الذي يواجه اليوم معضلات إقتصادية.
وطالما أتينا على ذكر المعضلات التي يواجهها الإقتصاد الغربي، فإن هناك من يقول بفرضية أن يساوم الغرب المنتصر في ليبيا الصينيين، بمعنى أن يمد هؤلاء يد العون للإقتصاد الغربي بما لديهم من إمكانيات كثاني إقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الإمريكية، مقابل أن تــُحفظ لهم مصالحهم الإستراتيجية في ليبيا الجديدة، أو أن يحصلوا على نصيب وافر من كعكة إعادة إعمار الأخيرة.
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh