تتواصل فصول الانتفاضة الشعبية السورية، ويبدو معها أن لا أفق قريباً لحل الأزمة في البلاد بعد أربعة أشهر ونيف من تصاعد الحركة الاحتجاجية الممتدة من أقاصي سوريا إلى أقاصيها. وتفرز يوميات الأزمة ازدياد وتيرة الانقسام الكردي وعدم توافق الكرد على العامل الموقفي المشترك من الانتفاضة ضد النظام.
إذا ما استثنينا الحراك الاحتجاجي للشباب الكردي، فإن السمة الأبرز للموقف الكردي إزاء وضع البلاد هو أنه موقف رمادي. فالشباب الكردي قرر الانخراط في الانتفاضة الشعبية السورية ميدانياً وحسم خياراته برفع شعار إسقاط النظام، وأثبت فاعليته، وتحول إلى أمر واقع مفروض على الأحزاب الكردية، وتحدياً لها في الشارع الكردي. فيما اختارت الأحزاب الكردية العديدة البقاء في خانة اللا موقف والضبابية السياسية والارتباك والتردد مع استثناءات طفيفة، وهذا ينم عن تقليديتها المفرطة وعدم استعدادها لعملية التغيير الديمقراطي. فاعتيادها ممارسة السياسة لعقود عبر التنظيرات والشفاهية السياسية، وانعدام الوضوح في رؤاها، وتكلس خطابها الحزبي السياسي، أنتج نوعاً من الخلل البنيوي لديها بين الطروحات النظرية والواقع. إذ كنا نلاحظ في المرحلة السابقة على اللحظة السورية الراهنة أن قسماً لا بأس به من الأحزاب الكردية المنضوية في أطر المعارضة السورية كانت تبدو عملياً وكأنها بعيدة عن الفعل المعارض وأقرب إلى الموالاة السياسية للنظام.
لحق الكرد بقطار الحركة الاحتجاجية متأخرين عن المكون العربي لسوريا، وبدأ المشهد الاحتجاجي في المناطق الكردية بتنظيم شريحة الشباب لتظاهرات أيام الجمعة كما في المناطق السورية الأخرى. وإذا كانت شعارات وبافطات تظاهراتهم تقتصر في البداية على المناداة بالحرية، فإنها سرعان ما أخذت منحى تصاعدياً عبر المنادة بإسقاط النظام، فيما استنكفت الأحزاب الكردية عن المشاركة ولم تعلن في هذا السياق عن موقف ما، عدا حزب الاتحاد الديمقراطي الذي نظم تظاهرات حاشدة ولكن خارج أيام الجمع. وهنا بدأ الانقسام في الشارع الكردي بين الشباب الذين اكتفوا برفع العلم السوري وحزب كردي (الاتحاد الديمقراطي) الذي ركز على رفع أعلامه الحزبية والألوان الكردية وصور قائده الرمزي ومرجعيته التنظيرية، عبد الله أوجلان، الذي يقبع في سجن “إمرالي” التركي. وكان بديهياً أن ينتج إنقسام المواقف في مجتمع يفتقر إلى التقاليد الديمقراطية إثر سنوات القمع الذي مارسته السلطة حملات تخوين متبادلة: الشباب يتهمون “حزب الاتحاد الديمقراطي” بتنفيذ أجندة السلطة ومحاباتها وعقد اتفاق غير معلن معها، فيما روج أنصار الاتحاد الديمقراطي لفرضية ارتباط الشباب بدوائر معادية للكرد، مدللين على ذلك بواقعة رفع العلم التركي في مدينة القامشلي خلال إحدى التظاهرات.
الخلافات شبه الخامدة بين التيار (الأوجلاني) في الساحة الكوردية السورية والأحزاب الكوردية الأخرى عادت للظهور مجدداً إذن وبلغت أوجها يوم الجمعة 22 يوليو / تموز. كان يفترض أن تكون التظاهرة كردية جامعة يشارك فيها الكل كنوع من إعادة تجميع الكرد وتوحيد كلمتهم وموقفهم إزاء السلطة وإزاء المعارضة السورية التي بدأت تلوح نذر تنكرها للحقوق القومية الكردية في سوريا أكثر بعد مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي نظم مؤخراً في اسطنبول، وهذا ما يتمناه الشارع الكردي والمثقفون الكرد. لكن الذي حدث أن الشباب الكردي المستقل والميال إلى بعض التنظيمات الكردية خرجوا إلى التظاهرت تحت تسمية (جمعة أحفاد خالد) فيما كان إعلام حزب الاتحاد الديمقراطي يروج لجمعة (آلا رنكين : وتعني بالكردية العلم الملون). وإذا كان حزب الاتحاد الديمقراطي يطالب الحراك الشبابي برفع الأعلام والألوان الكردية للتعبير عن التمايز القومي الكردي والخصوصية الكردية في سوريا (عملياً يرفع أعلامه وصور قائده فقط)، فإن القوى الشبابية تطالب الحزب المذكور برفع الأعلام السورية وعدم رفع أعلامه الحزبية وصور موجهه الفكري، أوجلان. في سياق آخر وما دامت عقدة المؤامرة تشغل الحيز الأكبر من تفكير الشعوب الشرقية، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي وصف في بيانه التوضيحي الصادر يوم الجمعة 22 يوليو حول القمع الذي تعرضت له تظاهرتهم في مدينة القامشلي من قبل السلطات المحلية هناك بالهراوات والغازات المسيلة للدموع، الشباب المنتفضين بأنهم موجهون من قبل “بعض الأشخاص السائرين وفق مخططات وسياسات مؤتمر استانبول بتوجيه مجموعة من الشباب إلى وجهة معاكسة لمسار التظاهرة وإطلاق شعارات استفزازية لا تتواكب مع معايير الأخلاق الكردية”.
نبرة حزب الاتحاد الديمقراطي وعبر عدد من مسؤوليه (صالح مسلم، وعبد السلام مصطفى، ونواف خليل) باتت أكثر حدة فيما يتعلق بعدم قبول مشهد شباب كردي مكتفٍ برفع العلم السوري فقط في التظاهرات التي تشهدها المدن والبلدات الكردية. والتباين في المواقف بين الاتحاد الديمقراطي والحراك الشبابي لم تشهده مدينة القامشلي مؤخراً فقط، إذ تتكرر فصوله في مدينة القامشلي وديريك وسري كانيه وكوباني .. إلخ، حيث تصدر العديد من البيانات والتصريحات عقب كل جمعة مؤخراً في العديد من المناطق الكردية تدخل في إطار حرب البيانات.
الفصام الحاصل بين حزب الاتحاد الديمقراطي والحراك الشبابي في العديد من البلدات والمدن الكردية السورية يدخل في إطار ما يمكن أن يسمى (الصراع على امتلاك الشارع الكردي) أو (الصراع على احتكار تمثيل الشارع الكردي). فالشباب لهم أجنداتهم وإن كانوا يفتقرون إلى التجربة السياسية والتعامل السياسي مع الحدث، وحزب الاتحاد الديمقراطي له أجندته كتنظيم ينتمي إلى رحم تنظيم أوسع هو حركة المجتمع الديمقراطي (منظومة المجتمع الكردستاني سابقاً) لديه تعاطيه الخاص مع المسائل مفترقاً في ذلك عن غالبية التنظيمات والقوى الكردية الناشطة على الساحة الكردية السورية. وفي الأسبوعين الأخيرين، صار الفصام الكردي أكثر بروزاً ولفتاً للأنظار، مع قرار حزب الاتحاد الديمقراطي تنظيم تظاهراته أيام الجمعة، فيما كان سابقاً وقبل أسبوعين في حالة قطيعة مع يوم الجمعة. وهذا التحول لدى الحزب يؤوله الحراك الشبابي على أنه تنفيذ لأجندة معينة للسلطة. وبنظرة مراقب للوقائع والممارسات والبيانات العديدة الصادرة وظهور اصطلاحات جديدة في الشارع الكردي من قبيل (الشبيحة الكردية)، يبدو إطلاق حكم قاطع ونهائي على الأطراف في الشارع الكردي أمراً معقداً وعويصاً وأشبه بالحرب الأهلية اللبنانية وتوازناتها حين القراءة والدراسة والتمحيص.
والحالة هذه، ولئلا تتفاقم الأوضاع وأجواء الشقاق الكردي – الكردي أكثر، يبدو المنتظر هو الوصول إلى قواسم مشتركة يمكن إيجازها كحل توفيقي بين الأطراف من أجل تشكيل كتلة كردية واحدة بـ: التركيز على البعدين الوطني السوري والقومي الكردي، ورفع الألوان الكردية إلى جانب العلم السوري، والابتعاد عن استعراض الأعلام الحزبية وصور القادة، ورفع يافطات وشعارات كردية جامعة لا حزبية. ويمكن التأسيس على جمعة “الصمت يقتلنا” في 29 يوليو، حيث تصدرت قيادات حزبية كردية التظاهرة الجماهيرية في مدينة القامشلي جنباً إلى جنب مع الشباب الكردي الذي كان المبادر الثوري في الشارع الكردي، ولكن شريطة ألا تكون المشاركة الحزبية انطلاقاً من نيتة مبيتة في احتواء الحراك الشبابي اللا حزبي.
mbismail2@gmail.com
• كاتب سوري
http://www.annaqed.katib.org/
http://twitter.com/kobaniname