1-سمات الثورة المصرية ومقتضيات التغيير
العناصر المكوّنة لتكتل القوى الثورية
مقتضيات التغيير
2-استراتيجيات الثورة المضادة
كتلة التحالف الرجعى
الإخوان المسلمون، والتيارات الإسلامية
المؤسسة العسكرية: علامة استفهام؟
ملاحظة حول الفساد
3-التجارب السابقة (إندونيسيا، الفيليبين ومالي) والأخرى (أمريكا اللاتينية)
4-قراءة لتاريخ مصر المعاصر
أولا: سمات الثورة المصرية، ومقتضيات التغيير:
العناصر المكوّنة لتكتل القوى الثورية
بدت لي الحركة التي أخذت مجراها في المجتمع المصري أواخر يناير 2011، في واقع الأمر، انطلاقاً ثورياً قد يتحول إلى مد ثوري لا أكثر من ذلك. فما حدث أكثر من مجرد انتفاضة، أو فورة، يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، وأكثر من حركة احتجاج، لكنه أقل من ثورة، أيضاً. بمعنى أن تلك الحركة لم تكن ذات أهداف واضحة تتجاوز الإطاحة بمبارك. يرجع ذلك إلى طبيعة المطالب، الصريحة والضمنية، للقوى التي انخرطت فيها وطبيعة أهدافها. ويمكن القول: كان ثمة ثلاثة عناصر رئيسة، في تلك الحركة، بالإضافة إلى عنصر رابع سأتحدث عنه لاحقاً.
تتمثل العناصر الأساسية للحركة، أولاً في الشباب المسيَّس أصلاً، والمُنظم في شبكات مترابطة، يصل عدد أعضائها إلى مليون شاب، يمثلون ما يمكن أن نطلق عليه الجيل الجديد. تنحدر أصول هذا الشباب من الفئات الوسطى، أساساً، بما فيها الفئات الوسطى الدنيا، القريبة من الجماهير الشعبية، لكن لم يوجد بينهم جناح شعبي بالمعنى الصحيح للكلمة، أي أبناء عمال وفلاحين فقراء.. الخ.
سيَّس هؤلاء الشباب أنفسهم خارج الأحزاب، وفي ظل نظام ألغى الحياة السياسية على مدار عقود من الزمن. وهذا في حد ذاته ما يستحقون الثناء عليه. لا يُكوّن هؤلاء الشباب، قطعاً، كتلة متجانسة، بيد أن التيار الغالب بينهم يُطالب بما يتجاوز المطالب الديمقراطية البسيطة، إذ لا تقف تلك المطالب عند مجرد الانتخابات النزيهة، والمتعددة الأحزاب، بل تتجاوز ذلك إلى حرية التعبير، وحرية الممارسة الاجتماعية، فهي، إذاً، مطالب ديمقراطية صحيحة وكاملة.
وهم معاصرون وحداثيون يعرفون ما يحدث في العالم، ويدركون أحوال حياة الشعوب في البلدان الأخرى. ولذلك يقفون، إلى حد كبير، خارج دائرة الخضوع “للتقاليد”، بما فيها التقاليد الطقوسية في الممارسات الدينية.
أسمي مطالبهم مطالب ديمقراطية صحيحة، أيضًا، لأنها تتجاوز تلك النقطة فتصل إلى العداء للاستعمار، بمعنى أنهم شبّان وطنيون يريدون استعادة شرف الوطن المصري، ويؤمنون تماماً بأن مصر لابد أن تكون دولة مستقلة، وليست خاضعة، أو تابعة للسياسة الأمريكية، وبشكل خاص في ما يتعلق بسياسة إسرائيل التوسعية. فهم، بهذا المعنى، معادون للاستعمار على أرضية وطنية، لا أقول إنها بالضرورة قومية عربية، فهناك درجات مختلفة من الوعي القومي تظهر أحياناً بينهم، ويتنحى الوعي القومي، في أحيان أخرى، لصالح الوعي الوطني المصري فقط.
لا شك أن لدى هؤلاء الشباب ميولاً نحو التعاون مع البلدان العربية، لكنهم يشعرون بالأمر نفسه تجاه البلدان الأفريقية والآسيوية، وبلدان الجنوب بوجه عام. وأعتقد أنهم بحكم إطلاعهم الواسع على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) تأثروا كثيراً بما حدث في أمريكا اللاتينية، في السنوات العشر الأخيرة، وإن كانوا لا يعرفون الكثير عن واقع تلك القارة، لا يمكن إغفال ما تركته التغيرات، التي جرت في تلك البلدان، وشخصيات مثل شافيز وموراليس ولولا، من أثر عليهم، فما حدث هناك بالذات يتمثل في التلاقي بين المطالب الديمقراطية الصحيحة، وتلك المعادية للاستعمار.
من جانب آخر، يمتاز هؤلاء الشباب بميول يسارية على المستوى الاجتماعي، بمعنى أنهم دون أن يكونوا معادين للرأسمالية واقتصاد السوق، بالضرورة، ودون أن يكونوا مدركين، بالضرورة، لشروط التغيير، إلا أنهم يرفضون المجتمع بحالته الراهنة من التفاوت المتزايد بين المليونيرات والمليارديرات من جانب، والفقر المتزايد والمتفاقم من جانب آخر. وهناك ميل عام واضح لديهم، وإن يكن غير محدد، لما نطلق عليه العدالة الاجتماعية، وهذا لا يعني أن تكون لديهم، بالضرورة، وصفة أو بدائل ملموسة في المجال الاقتصادي.
هؤلاء الشباب هم مفجّرو الحركة من خلال دعوة الناس للنزول إلى الشوارع في يوم 25 يناير 2011. وقد لعب، قطعاً، ما حدث في تونس، في الأسابيع القليلة التي سبقت هذا التاريخ، دوراً شجّعهم على مواجهة الأجهزة القمعية، وعدم الاستسلام لما تمارسه من قهر وعنف.
وما حدث أن اليسار المصري الراديكالي لبى، من الوهلة الأولى، دعوة هؤلاء الشباب، لأنه كان مستعدًا لذلك، إلا أن هذا اليسار ـ نتيجة إلغاء الحياة السياسية لعقود طويلة، بداية من عبد الناصر ومن بعده السادات ومبارك، طبعاً ـ كان معزولاً نسبياً، ويتكوّن بشكل رئيس من مثقفين، إلى جانب عناصر من الفئات الوسطى، وربما من بعض عناصر الطبقة العاملة، من خلال العمل في النقابات، والصراع الطبقي في المصانع، لا أكثر من ذلك، الأمر الذي انعكس، بدوره، على اتخاذ تشكيلاته شكل المجموعات، والمنظمات الصغيرة، ومنظمات المجتمع المدني المختلفة.
أعتقد، وربما أكون متفائلاً في ذلك، بوجود نوع من التعاطف التلقائي بين الشبان، ومجموعات اليسار. فهؤلاء الشباب هم يساريون في نهاية الأمر، من خلال إيمانهم بالديمقراطية الصحيحة، وعدائهم للاستعمار، وتوجههم الاجتماعي، وإن لم يكن اشتراكياً. لذلك، أرى أن التفاهم بين اليسار الراديكالي، والأغلبية العظمى من الشباب، يمثل جوهر وأساس مستقبل الثورة، لأن المستقبل في أيدي هؤلاء الشباب.
ويتمثل العنصر الأساسي الثالث للحركة في ما تُطلق عليه بعض الأدبيات: “البورجوازية الليبرالية”، وإن كنتُ لا أحبذُ هذا الوصف، وأفضّلُ عليه: “عناصر من الفئات الوسطى الليبرالية الديمقراطية” لأن البورجوازية في مصر كطبقة، رجعية، وأعتقد أنها كذلك الآن، أكثر مما كان عليه الأمر في وقت سبق. فجوهر الطابع الأساسي للبورجوازية المصرية أنها رجعية كمبرادورية، أى أنها طفيلية وتابعة.
ولا يمكن التمييز في الواقع المصري بين بورجوازية طفيلية، وبورجوازية غير طفيلية، إذا قصدنا بالبورجوازية معناها الصحيح المتمثل في أصحاب المال، وبالتالي المشروعات الصناعية والتجارية والخدمية. صحيح أن هناك بعض المصانع الصغيرة، التي يملكها بعض المهنيين الوطنيين، الذين يدخلون في دائرة البورجوازية أيضاً. إلا أنهم، في الواقع، لا يمثلون سوى فئة صغيرة، ولا تنتمي في الظروف المصرية إلى الكتلة الأساسية للبورجوازية، بل هي مُستبعدة.
على سبيل المثال، في مجال البناء والتعمير، تعانى الشركات الصغيرة، من هذا النمط، من ضغوط الشركات الكبرى الكمبرادورية، التي تجبرها على العمل في الباطن لحسابها. ناهيك عن ممارسة ضغوط متعددة عليها مستخدمة وسائل الدولة المرتبطة بها والفساد، بحيث أننا لا نستطيع أن نتحدث عن بورجوازية وطنية في ظروف مصر. فالبرجوازية في مصر تابعة، واستفادت فعلاً من الاندماج في العولمة كما هي، أي عولمة تابعة للولايات المتحدة، والاستعمار المهيمن. وبالتالي هذه القوى رجعية على طول الخط.
ولكن الفئات الوسطى تعني شيئاً آخر، فهي عبارة عن المهنيين، وهم يمثلون عددًا كبيرًا من المحامين والمهندسين والمحاسبين والأطباء، والموظفين في الحكومة والشركات، منهم الغنى والمتوسط والفقير. وتنقسم هذه الفئات الوسطى إلى جناحين على أرضية أيديولوجية وثقافية أكثر منها سياسية:
جناح إسلامي بالمعنى السلفي والطقوسي للكلمة، (فالمشكلة هنا ليست في التقسيم بين المؤمنين وغير المؤمنين، فالأغلبية العظمى من الشعب المصري سواء أكانوا مسلمين أم أقباط مؤمنة، والقضية ليست قضية إيمان) أي الجناح المتخلِّف فكرياً، الداخل في إطار تصور الإسلام السياسي (الإسلام كحل سياسي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وهو الجناح الغالب بين الفئات الوسطى، بدليل سيطرته على النقابات المهنية، ليس بالصدفة طبعاً، ولكن عبر مساعدة حكومة السادات ومبارك، وبالتمويل الخليجي، وأيضاً بسبب وجود قاعدة لهم في هذه القطاعات.
والجناح الثاني في الفئات الوسطى يمكن تسميته بالمستنير، ينتشر بين القطاعات المُتفتحة بين هذه الفئات، التي تشارك الشباب في مطالبه الديمقراطية الصحيحة، بمعنى الديمقراطية في الممارسات الاجتماعية، جزئياً على الأقل، وليس مجرّد الانتخابات النزيهة فقط، فهم لا يتحمسون لأشياء مثل الحجاب، ولا يتعصّبون في ما يخص المشكلة الطائفية الدينية.
وهم مستنيرون بمعنى أنهم لا يكرهون “الغرب”، ولا “الأوروبيين”، بل على العكس، سافر كثير منهم ورأوا تلك البلدان، ولديهم تعاطف تجاه المجتمعات الغربية، دون أن يكونوا مدركين، بالضرورة، للطابع الاستعماري للسلطة في البلاد الديمقراطية الغربية، فموقفهم بين البينين. رأينا حركات مثل “كفاية” في السنوات الأخيرة جمعت عددا كبيراً، من المنحدرين أصلاً من هذه الفئات، للاصطفاف وراء مطالب ديمقراطية، وديمقراطية اجتماعية تتعلق بالممارسات اليومية، وليس سياسية فقط.
أعتقد أن المستنيرين هؤلاء هم حلفاء حقيقيون في هذه المرحلة لليسار، وإن كانت مواقفهم تتسم بالمحدودية، بمعنى أنهم لا يهتمون كثيراً بأوضاع الطبقات الشعبية الاجتماعية، وقضايا مثل الفقر، الذي لا يُعد مشكلة كبيرة بالنسبة لهم، مع أن عدداً منهم يميلون، قطعاً، إلى تغيير السياسات والأوضاع الاقتصادية، لكنهم يتمسكون، أيضاً، إلى جانب ذلك بالاقتصاد الحر والرأسمالية، وهم من أنصار الاندماج في المنظومة العالمية..الخ، كذلك في مسألة الخضوع لسياسة الولايات المتحدة وإسرائيل.
لا يوجد، قطعاً الكثير، ممن يحملون ميولا طيبة إزاء إسرائيل، فلا شك في أن الناس تكره إسرائيل، لكنها في الوقت نفسه تقبلها، بدرجات متفاوتة، كأمر واقع عليها القبول به، وعلى أساس أنهم ليسوا فلسطينيين أيضاً، دون أن تتضح لديهم، بالضرورة، العلاقة بين الطابع الاستعماري للسلطة في بلدان الثالوث الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى.
هذه هي العناصر الثلاثة للحركة الأخيرة، التي انخرط في أيامها الأولى مليون شخص، أو قرابة مليونين، على أبعد تقدير، في القاهرة والإسكندرية والسويس، ثم قفز العدد، في ظرف 24 ساعة، إلى 15 مليون شخص في نهاية الأمر، يجتاحون بمظاهراتهم القطر كله، وليس المدن الكبرى فقط، حتى وصلت المظاهرات إلى الأحياء والبلدات الصغيرة وربما بعض القرى أيضاً.
يشير هذا الرقم إلى أن الشعب المصري كله اشترك في المظاهرات، ولم يكن فيه من المُسيَّسين بعض الشيء إلا ما يصل إلى مليونين أو ثلاثة ملايين شخص، على أبعد تقدير، أما البقية فهم غير مُسيَّسين نهائياً، نتيجة إلغاء الحياة السياسية، منذ عقود، بداية من جمال عبد الناصر، وتصفيته للأحزاب والحياة السياسية، وإدارته للسياسة من فوق، الأمر الذي ساء أكثر مع مجيء السادات ومبارك.
هذه الأمور تفسر نجاح التيار الإسلامي، كتيار عام، في تعبئة الجماهير، باعتباره صاحب الخطاب الوحيد، الذي كان متاحاً لها عبر خطب المساجد، دون أن تتاح لها فرصة حقيقية، على الإطلاق، للاستماع إلى أي خطاب سياسي واجتماعي مغاير. ومن الآن فصاعداً، من المنتظر، أن تعانى هذه الجماهير الضائعة على مستوى الوعي، والمغالية في إظهار المشاعر الدينية ـ التي تبجلها الأغلبية العظمى من الشعب المصري بما فيها أشخاص ينتمون إلى الفئات الوسطى ـ من اضطراب فكرى مصدره وجود تناقض محتمل بين مطالبها من جهة، وأهداف القيادات السياسية، ليس للإخوان المسلمين فحسب، ولكن أيضاً لجميع المنظمات والفرق المنضوية تحت راية الإسلام السياسي، من جهة أخرى.
بهذا، نكون قد تحدثنا عن العناصر الأربعة للحركة، التي أخذت مجراها في المجتمع المصري مع حلول يوم 25 يناير 2011، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة عناصر هي: الشباب، واليسار الراديكالي، وعناصر الفئات الوسطى الليبرالية الديمقراطية، بالإضافة إلى عنصر رابع، أوسع منها بكثير يتمثل في الشعب المصري بشكل عام.
مهّدت، بطبيعة الحال، ظروف وقعت في السنوات الأخيرة لهذه الانتفاضة الكبيرة، وانخراط الجماهير الشعبية فيها، وفي مقدمتها انتعاش الحركة العمالية، كما تجلّت في إضرابات العام 2007، وفي نشأة فكرة تكوين النقابات المستقلة، وممارستها على أرض الواقع، وفي صمود حركة صغار الفلاحين في مواجهة الإجراءات الحكومية الساعية لإلغاء الإصلاح الزراعي.. الخ، وبالنسبة للفئات الوسطى تجلّت هذه الظروف في صعود حركة “كفاية”..الخ، ونظيراتها في أوساط الشباب ممثلة في 6 أبريل ..الخ، بمعنى كان ثمة عناصر متعددة تدل على أن الانفجار قريب، وقادم بشكل أو آخر. وهذا ما حدث فعلاً.
مقتضيات التغيير:
نأتي بعد ذلك إلى النقطة المتمثلة في مقتضيات التغيير. من الواضح، تماماً، أن الحركة التي بدأت، فقط، في يناير-فبراير 2011 تحتاج إلى وقت لكي تخطو خطوات قدماً إلى الأمام، ولكي تنتعش وتتوسع وتتجذّر وتتعمق بين الجماهير. ومن ثم فالمطلوب يتمثل فترة انتقالية طويلة، لأن ما يُقال من أن الثورة أسقطت النظام، وبالتالي الدستور، صحيح على مستوى عال من التجريد ولكنه ليس صحيحاً من ناحية عملية. فهناك رغبة أو ميل لإسقاط النظام، ولكن لا أكثر من ذلك. وكذلك إسقاط الدستور، الذي لا يزال وجميع القوانين المتماشية معه ساري المفعول. إذاً، تأتى الفترة الانتقالية الطويلة الديمقراطية، بالمعنى الصحيح للكلمة، في مقدمة شروط مقتضيات التغيير.
أقصد بـ “الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة” ديمقراطية تتيح الفرصة لكافة أشكال التنظيمات والأحزاب والنقابات لتكوّن نفسها بنفسها بمنتهى الحرية..الخ. وهذه الفترة الانتقالية الطويلة، الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة، التي قد تستغرق سنتين أو أكثر، هي الشرط المطلوب لترويج ثقافة سياسية مدنية علمانية ديمقراطية.
أقول، هنا، ثقافة ديمقراطية، ولا أقول ثقافة اشتراكية، بمعنى أن هذه الثقافة السياسية العلمانية تضم التيارات الديمقراطية البرجوازية، والمطالب الاشتراكية، أو المطالب الاجتماعية، التي تندرج في إطار التطلع الاشتراكي، وذلك حتى يكون للانتخابات، التي ستعقبها معنى، ففي هذه الحالة ستضم الأغلبية، ونسبة كبيرة من الناخبين أشخاصاً مُسيَّسين، أو على أقل تقدير، مُطلعين على بدائل مختلفة سواء كانت على أرضية الاقتصاد أو الاجتماع أو إدارة السياسة أو إدارة الشئون الاجتماعية والحياة اليومية، بما فيها الجوانب الدينية، والعلاقة بين العقيدة الدينية والممارسة السياسية، وقادرين أيضاً على مفاضلتها والاختيار فيما بينها.
وأعتقد أن شكل السلطة خلال هذه الفترة، والأشخاص الذين سيتصدون لقيادتها، سيصبح كلاهما محل معركة سياسية، بحيث نحاول فرض تغييرات، ولو بالتدريج، تتمثل في رفض تعيين قيادة الجيش لشخصيات ينتمي معظمها للنظام القديم من أجل إدارة هذا الانتقال.
بل الأولى في حالة وجود هذه الشخصيات في صدارة المشهد، كما هو الأمر الآن، وإصدارهم قوانين مضادة لحرية تنظيم الأحزاب ـ كالقانون الذي أصدروه شبيهاً بالقانون القديم للأحزاب، أو القوانين المعادية للطبقة العاملة، كقانون حظر الإضرابات ـ أن ندرك أن الحكومة التي أصدرت مثل هذه القوانين ليست حكومة انتقالية، وأن نتعلم من التونسيين المتقدمين عنّا، فرض تغيير فعلي، وإن كان تدريجياً، على الحكومة، بحيث تكون باعتبارها حكومة انتقالية مُكوّنة من عناصر تمثل الحركة الشعبية في الشوارع.
يفصح هذا الأمر عن اختلاف الظروف هناك، تماماً، عمّا هي عليه هنا، فالجيش في تونس صغير وضعيف، وبعيد عن السياسة، وبالتالي لا يلعب الدور نفسه الذي يلعبه الجيش في مصر، وليس له الوزن نفسه. وبالتالي تتصارع في تونس قوتان: الأولى، قوى النظام القديم ممثلة في الطبقة البرجوازية الطفيلية، المرتبطة بالسلطة السابقة، والحزب الحاكم، والثانية، قوة الثورة ممثلة في الفئات الوسطى، والطبقات الشعبية، دون وجود طرف ثالث هو الجيش، كما هو الأمر في مصر.
وبالتالي، الحكومة في تونس أفضل بكثير من الحكومة في مصر. فالحكومة التونسية الحالية لا تجرؤ على الإطلاق على منع أي تكوين حزبي أو نقابي، وتترك الناس أمام خياراتها الحرة، أي هناك ديمقراطية لا توجد في مصر. نستنتج من ذلك أن المطلب الرئيس لليسار الجذري هو الائتلاف مع الفئات الوسطى الديمقراطية، والحركة الشعبية بشكل عام، وطبعاً النقابات العمالية..الخ، وبالدرجة الأولى مع الشباب المنظّم، ونصف المنظّم، بحيث يتمثل هذا الائتلاف في إدارة الفترة الانتقالية بأسلوب تقدمي وجديد.
ثانياً: إستراتيجية الثورة المضادة:
كتلة التحالف الرجعى تتمثل في قوتين أو ثلاث قوى: أولها، الطبقة الحاكمة مُشخّصة في البرجوازية، فالنظام لم يكن مجرد نظام مبارك والثلة المحيطة به، ولا يضم النواب المنتخبين من الحزب الوطني الديمقراطي وحسب ـ ومعظمهم من المدنيين الذين كونوا ثروات من خلال الفساد ـ بل وكل البورجوازية المصرية بما فيها المنتمي إلى أغنياء الفلاحين، أيضاً.
ألفت النظر إلى هذه النقطة، التي أضفي عليها أهمية كبرى، لأن الحديث عن “الفلاحين” بصفة عامة، وهذا الشائع عندما نتحدث عن الريف، بشكل عام، لا يفيد، فهم طبقات متباينة المصالح. ويتشكل الريف المصري في الوقت الراهن من 40% من الفلاحين المعدمين (لا يملكون أرضاً بالمرّة، أو يمتلكون فدانا وأقل من ذلك) و 30% من صغار الفلاّحين (ملكيات أو حيازات أقل من 20 فدان) و30% من أغنياء الفلاحين (ملكيات أو حيازات تزيد عن 20 فدان).
وبالرغم من أن أغنياء الفلاحين هم أغنياء بدرجات متفاوتة، وليسوا بالضرورة مليونيرات مثل كبار البرجوازيين، فإنهم أغنياء في إطار المجتمع المصري، وهم رجعيون تماماً، وأصحاب قدر مُعتبر من السلطة في الريف، بحكم علاقاتهم، وارتباطاتهم بنظام السلطة المحلية، ووجهاء الريف المُتنفّذين في السلطة، أو لهم علاقة قوية بها مثل الطبيب والمهندس..الخ، بما فيهم رجال الدين طبعاً. ويشكل أغنياء الفلاحين، أيضاً، العنصر الأساس الذي يعتمد عليه الإسلام السياسي في الريف.
لقد أنتج الإصلاح الزراعي الناصري تغييراً هاماً في ميزان القوى الاجتماعية الخاصة بالريف المصري. فأغنياء الفلاحين هم الطبقة التي استفادت، أكثر من غيرها، من الإصلاح على حساب كبار الملاك المسيطرين على الريف في العهد الملكي السابق. فأقيمت تعاونيات جمعت سوياً بين أغنياء وصغار الفلاحين، علماً بأن هذا الأسلوب أعطى للأغنياء السيطرة على التعاونيات، والقدرة على تحريكها لصالحهم. بيد أن الناصرية وضعت حدوداً لهذه السيطرة، وفرضت “تنازلات” لصالح صغار الفلاحين، بتعبير أخر يمكن القول إن الناصرية اعتمدت على أغنياء الريف، مع تحييد طبقة صغار الفلاحين.
ثم قُلبت العلاقة في عصري السادات ومبارك من خلال مخطط إلغاء الإصلاح الزراعي. فقد أعطى هذا التحول فرصة لأغنياء الفلاحين أن يثروا على حساب صغارهم من خلال تصفية ملكيتهم، وذلك باسم “التحديث” الذي ينادي به البنك الدولي. ويتجلى رد فعل صغار الفلاحين في معاركهم الراهنة، وصمودهم في مواجهة الإجراءات الرجعية المضادة للإصلاح الزراعي. وفي هذه المعركة يقف أغنياء الفلاحين مع كتلة الرجعية الحاكمة.
أما فقراء الريف، وهم الأغلبية العظمى، فقد استُبعدوا منذ البداية، من الصورة، فلم يستفيدوا من الإصلاح أصلاً. بيد أن أوضاعهم تغيّرت في عهد الانفتاح، فهم الذين مثلوا الأغلبية العظمى من المهاجرين (إلى الخليج والعراق وليبيا)- وخرج العديد منهم ـ عند عودتهم ـ من نطاق الإنتاج الزراعي للانضمام إلى صفوف الاقتصاد الريفي العشوائي الجديد.
نقطة أخيرة هامة في رأيي: العلاقة بين طبقة أغنياء الفلاحين والإسلام السياسي. فأغنياء الفلاحين مثّلوا دائماً ـ والآن بقدر أوضح مما كان عليه الأمر سابقاً ـ السند الأساس للإسلام “السلفي” المتجمّد والمحافظ. والعديد من رجال الدين ومن الفئات الوسطى (المهنيين) ومن ضباط الجيش ينحدرون من هذه الطبقة الريفية الرجعية.
الإخوان المسلمون، والتيارات الإسلامية:
من المشكوك فيه قدرة جماعة الإخوان المسلمين على التحوّل إلى منظمة ديمقراطية. فالتنظيم قائم على مبدأ طاعة المرشد، دون وجود ديمقراطية، أو مجال للنقاش. وعندما ننظر إلى القيادة الجماعة كلها وليس إلى المرشد فحسب، سنجد أن أعضاءها كلهم أثرياء جداً، ومليونيرات نتيجة التمويل الخليجي بصفة أساسية، بما فيهم أولئك الذين يتخذون لأنفسهم سمة رجال الدين في الأزهر وغيره.
تعي هذه القيادة، تماماً، رجعيتها الاجتماعية والسياسية وكراهيتها للديمقراطية، وهى التي أدخلت الوهابية إلى مصر، التي رُوّجت بشكل واسع بعد حرب 1973 بفضل التمويل الخليجي، حتى أصبحت العنصر السائد في تأويل الإسلام في مصر. استلهم الإخوان المسلمون فكرهم من فلسفة محمد رشيد رضا، الذي يمثل الوهابية في التأويل المتجمّد والمتخلف الأقصى للإسلام، وهو الذي أدخل الوهابية إلى مصر، حتى قبل امتلاك الخليج لأموال طائلة ينفقها على الترويج لهذا الفكر.
ويجب في هذا السياق ألا ننسى أن السفارة البريطانية، كما تدل على ذلك وثائق موجودة بالفعل، هي التي اتخذت قرار مساندة جماعة الإخوان المسلمين في العام 1927 لمنع تسييس الجماهير الشعبية، سواء من خلال الوفد أو الشيوعيين، وقد شكّل كلاهما عنصراً تقدمياً أساسياً في الثقافة السياسية المصرية.
فقد مثّل الوفد برجوازية، أو فئات وسطى مستنيرة تقدمية ديمقراطية، في المرحلة الممتدة من الحرب العالمية الأولى، وحتى أربعينيات القرن العشرين، حيث استطاعت هذه البرجوازية، أو الفئات الوسطى، تجاوز الطائفية تماماً، ولم شمل المسلمين والأقباط. كان الأقباط يُنتخبون في البرلمان، بل كان منهم في بعض الأحيان رئيس البرلمان المُنتخب، دونما إثارة لتعليق سخيف، من النوع الذي نسمعه هذه الأيام، عن الخشية من تحكّم المسيحيين بالمسلمين! كان الجميع مواطنين فحسب، وظهرت شخصيات وطنية مسيحية ذات دور مشهود على الساحة السياسية.
كانت الحركة الشيوعية العنصر الثاني في الثقافة السياسية المصرية، خاصة انطلاقاً من الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
وقد كان العنصر الثالث في الثقافة السياسية المصرية رجعيًا، ويتكون من كبار ملاك الأراضي، والنظام الملكي. ولعبت قيادة الإخوان المسلمين، دائماً، دوراً مضاداً للمد الثوري في مصر، وفي ضرب الحركة الثورية فيها منذ العشرينيات، فساندت ديكتاتورية صدقي باشا ضد الوفد، ثم اتخذت خلال الحرب العالمية الثانية موقفاً يميل إلى الفاشست الألمان ضد الإنجليز. وخرجت في 21 فبراير 1946، إبان انتفاضة العمال والطلبة، من الجبهة الوطنية الممثلة في اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال، للانضمام إلى صدقي في هذه الفترة.
وفي اللحظة الثورية التي نعيشها هذه الأيام، أيضاً، دخل الإخوان متأخرين إلى المظاهرات الشعبية، وانتقلوا في اليوم التالي إلى التحالف مع شخصيات الحزب الوطني الديمقراطي والنظام. فدورهم التاريخي كان خيانة الطبقات الشعبية المصرية ولا يزال.
ويتحمل جمال عبد الناصر أيضاً، في رأيي الشخصي، مسؤولية كبيرة عن قيام الإسلام السياسي في بلدنا، عندما اضطلع بدور المانع الأساس لتسييس الجماهير، وألغى عنصرين أساسيين من الحياة الثقافية المصرية، هما العنصر الليبرالي البورجوازي، والحركة الشيوعية، فضرب الوفد، ومنع الأحزاب، وضرب الحركة الشيوعية بأساليب أكثر عنفاً، حتى من تلك التي اتبعها النظام الملكي السابق في مكافحة الشيوعية، وخلق بذلك فراغاً شغله الإسلام السياسي، الذي كان موجوداً دائماً بدرجة ما في المجتمع، دون أن يحتل مقدمة المسرح. وهذا كله مهّد الأرض لانتشار الإسلام السياسي والإخوان المسلمين.
تصوّر جمال عبد الناصر، بنظرته السلطوية، أنه قادر على إلغاء الشيوعية، والليبرالية البورجوازية، وإخضاع التيار الإسلامي لسلطته ببعض الكلام عن اشتراكية الإسلام..الخ، إلا أن التاريخ أثبت إمكانية سهولة التلاعب بهذا الكلام، وحتى قلبه إلى نقيضه، ليصبح هذا التأويل للإسلام عدوًا للاشتراكية والديمقراطية، وليس للشيوعية فقط.
ويشيع الإخوان المسلمون، اليوم، أن الإصلاح الزراعي كان إصلاحاً “شيوعياً” معادياً لمبادئ الإسلام المقدّسة، تلك التي تقدّس الملكية الخاصة.. الخ، وهذا كلام رجعى جداً على المستوى العالمي، وليس الوطني وحسب، فلا أحد في أوروبا، على سبيل المثال، يصدر عنه كلام كهذا عن الإصلاح الزراعي، وحتى البنك الدولي على يسار الإخوان المسلمين، في هذا الخصوص!
سمحت الظروف للإخوان المسلمين بالظهور بصفتهم “معارضة” للنظام. وهذا غير صحيح بالمرّة. فالنظام ـ السادات ثم مبارك ـ هو الذي أعطى للإخوان ما يكاد يكون حق الإنفراد في ممارسة الخطاب السياسي، كما أن النظام سلّم للإسلام السياسي (أي في واقع الأمر للإخوان) مسؤوليات قيادية في “أسلمه السياسة والمجتمع” من خلال تمكينهم من السيطرة على التعليم والقضاء والإعلام. فالإخوان جزء لا يتجزأ من النظام.
هناك، إلى جانب الإخوان، تيارات “إسلامية” أخرى، وبينها السلفيون الذين يظهرون على السطح بصفتهم الجناح “المتطرف”. ولكن هل يتمتع هذا التيار باستقلال حقيقي ويعادى الإخوان؟ أم هذا توزيع للأدوار، بحيث يظهر الإخوان في صورة “معتدلين” يعطون لواشنطن وحلفائها المحليين مبرراً لكي تمنحهم “شهادة الديمقراطية”؟ هذا، بالتحديد، اللعب الخبيث الذي يقوم به [باراك] أوباما.
فالعدوـ أقصد الاستعمار (وعميله الصهيوني بالطبع)- يعلم تماماً أن “أسلمه” السياسة والمجتمع، والفرز في التأويل الوهابي المتجمِّد السلفي للإسلام، إنما يضمن عجز مجتمع أصيب به عن مواجهة فعالة لتحدي العصر. وهذا هو في نهاية المطاف هدف الولايات المتحدة والخليج، وبالتالي هدف الدولة الإسرائيلية أيضاً: إجهاض الثورة ونهضة مصر.
ملاحظة أخيرة: هناك تيار إسلامي آخر، هو تيار الطرق الصوفية (ويقال في هذا الصدد إن حوالي 15 مليون مصري أعضاء في طرق صوفية) الذي بدأ الظهور على الساحة السياسية، نظراً لتهديده من قبل التيارات الإسلامية ذات الأصول الوهابية، وبالرغم من تنوّع هذه الطرق، إلا أنها تمثل بصفة عامة تياراً يرحب بالعلمانية، وذلك لأن وجودهم مرتبط بفصل الدين عن الدولة.
المؤسسة العسكرية علامة استفهام؟
أعلنت حكومة واشنطن “خطة أوباما لإجهاض المد الثوري في مصر”، من خلال مرحلة انتقالية قصيرة، يبقى نظام الحكم خلالها في أيدي الطبقة الحاكمة، بعد الحفاظ على الدستور الحالي بتعديلات تافهة، وانتخابات سريعة عاجلة، تضمن مساهمة الإخوان المسلمين في البرلمان واستمرار النظام. توجد الآن وثيقة أمريكية نشرت مؤخرا تؤكد أن هذه هي، بالفعل، الخطة الأمريكية.
وقد تم تنفيذ مرحلتها الأولى، فعلاً، والخاصة بالاستفتاء، وستتمثل المرحلة الثانية منها في انتخابات سبتمبر أو أكتوبر. والنمط الذي تسعى الولايات المتحدة إلى انجازه في مصر يستلهم النموذج الباكستاني وليس التركي. والفارق كبير بينهما، ففي النموذج التركي تقف المؤسسة العسكرية وراء الستار لضمان “علمانية المجتمع”، وهذه ليست ظروف مصر على الإطلاق.
النمط الباكستاني يعد النمط الرئيس “للديمقراطية” الذي تعده الولايات المتحدة لمصر. وما قيل في أوروبا، وهنا، وفي البلدان العربية الأخرى، عن النمط التركي هو كلام للتضليل، وتسويغ النموذج الباكستاني، المُعد فعلاً. يتمثل النمط الباكستاني في هيمنة بورجوازية طفيلية تابعة، ونظام حكم يعلن نفسه إسلاميًا، تقف وراءه من خلف ستار المؤسسة العسكرية، التي تدخل إلى مقدمة المسرح من وقت إلى آخر، لتصفية الصراعات بين التيارات الإسلامية المختلفة باعتبارها رمانة الميزان، لا أكثر من ذلك.
فالمطروح بالنسبة لمصر إنما هو النمط الباكستاني، حيث يقبع الجيش، وهو في هذه الحالة جيش “إسلامي”، خلف الستار، وفي مقدمة المسرح يحكم برلمان إسلامي “منتخب” أيضاً. هذا هو نمط الديمقراطية الذي تقدمه الولايات المتحدة لنا!
يسعى، إذاً، هذا المخطط إلى تعزيز سلطة الكتلة الرجعية، المكوّنة من تحالف البورجوازية التابعة، وأغنياء الفلاحين، وقيادة الإسلام السياسي، علماً بأن هذه الكتلة الرجعية المصرية تكره الديمقراطية وتخشاها، وتدرك تماماً أن الديمقراطية الصحيحة في مصر، لابد وأن تتحول إلى حركة اجتماعية تقدمية في المجال الاجتماعي، (لا أريد القول إنها ستكون بالضرورة “ثورية”)، بالإضافة إلى كونها معادية للاستعمار. هذا بالضبط ما تخشاه الولايات المتحدة والتكتل الرجعى المصري.
فالمطلوب من نظام الحكم في مصر إنما هو ضمان استمرار تبعية مصر في المجال السياسي (ومن باب أولى “احترام شروط” “السلام” مع إسرائيل، بمعنى أدق الامتناع عن التضامن مع شعب فلسطين، في مواجهة مشروع امتداد التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة من جانب، وفي المجال الاقتصادي من الجانب الأخر (بمعنى استمرار التبعية “للعولمة”). وقد قبل كل من قيادة المؤسسة العسكرية، والإخوان المسلمون، هذه المطالب الأمريكية، حيث يعتمد هذا المخطط الأمريكي على ولاء قيادة المؤسسة العسكرية لواشنطن.
فكثير من القادة الحاليين للجيش تلقوا تعليهم وتدريبهم الأساسي في الولايات المتحدة، كما أن الجيش اشترك على مدار السنوات الماضية في كثير من المناورات المشتركة مع القوات الأمريكية، الموجودة في المنطقة، وقدّم لها الكثير من الخدمات المُعاوِنة. كما أن انصراف الجيش عن العمليات القتالية إلى العمليات المدنية، وهطول الأموال الأمريكية عليه، في شكل معونات عسكرية تقدر سنوياً بحوالي 1.5 مليار دولار، حوّله مع ما سبق ذكره، كما يقول كثيرون، عن العقيدة القتالية الوطنية إلى شركة الجيش، التي يحقق أعضاء مجلس إدارتها أرباحاً طائلة، ويخصصون لأنفسهم رواتب باهظة بحكم احتلالهم لمقاعد الإدارة فيها.
وهم يعرفون، تماماً، أن المعونة العسكرية الأمريكية هي رأسمال شركتهم، وهو ما يكشف اضمحلال العقيدة القتالية الوطنية في الجيش، واستشراء الفساد في صفوفه. كما أن الامتيازات والكوادر الخاصة للرتب العسكرية العليا، والبدلات الباهظة، التي كانوا يحصلون عليها في إطار نظام مبارك، يجعلهم مرشحين ليكونوا جزءًا من التكتل الرجعى، الذي يستهدف إجهاض المد الثوري، والحفاظ على جوهر النظام كما هو. هذا هو المخطط الأمريكي ـ الخليجي للحيلولة دون يقظة مصر.
استطاع الجيش أن يحفظ سمعته بالامتناع عن المساهمة في ضرب الثورة، ثم المبادرة التي اتخذتها قيادته العليا لاستبعاد مبارك، ولكن تظل أهدافه البعيدة مجهولة إلى حد كبير. وذلك على الرغم من اتخاذ قيادة المؤسسة العسكرية إجراءات تشير إلى انحيازها للقوى المحافظة المكونة لكتلة الثورة المضادة، منها ما سلفه ذكره: تعيين شخصيات من النظام لتقود “حكومة المرحلة الانتقالية”، الإنفراد في “الحوار” مع الإخوان وأصدقائهم، واستبعاد القوى الجديدة الديمقراطية، الشباب، اليسار، وتأكيد القوانين الرجعية التي سنتها تلك الحكومة في مارس 2011 (قانون الأحزاب، منع الإضرابات).
ملاحظة حول الفساد:
الفساد كلمة خطيرة تستخدم، أيضا، دون توضيح علاقة الفساد بالهيكل الاجتماعي، الذي يتحرّك في إطاره. وبالتالي يُقال عن الفساد كلام أخلاقي باعتباره رذيلة. وأقول إن المطالبة “بحكم غير فاسد” مقولة ضعيفة المعنى.
وفي مواجهة هذه الصياغة المبهمة، أزعمُ أن الفساد جزء عضوي من الرأسمالية القائمة بالفعل. فلا يمكن أن تكون هذه الرأسمالية المعاصرة بريئة من ظاهرة الفساد، الذي يُعد وسيلة ضرورية لتوسيع مجال سيادة العلاقات الرأسمالية. فالبرجوازية تكونت على أساس الفساد، حيث لم تكن هناك انطلاقاً من العام 1970 الشروط التي تتيح تكوينها بأساليب أخرى.
المقولة التي تدعى أن الفساد سمة ظهرت في كل المجتمعات عبر التاريخ غير صحيحة. أصبح الفساد منذ 40 سنة، على الأقل، سمة رئيسة للنظام الرأسمالي، كما هو قائم بالفعل في الوقت الحاضر. فالقول الذي كان يردده في الماضي حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، القائم على التمييز بين رأسمالية غير طفيلية، وغير فاسدة، وبين الرأسمالية الطفيلية، قول ليس له علاقة بما يمكن أن يكون الرأسمالية في ظروفنا، في إطار المنظومة المعولمة الحديثة.
بل أذهب إلى أبعد من ذلك: أقول إن الفساد في المجتمعات الغربية المتقدمة أصبح أيضًا عنصرًا عضويًا في النظام. وبالتالي، لا يمكن أن نتحدث الآن عن الفساد إلا كعنصر عضوي في الرأسمالية بشكل عام. لذلك أقول إن الرأسمالية دخلت مرحلة “الشيخوخة”. أقصد بهذا لفت الأنظار إلى تلك العلاقة النظامية التي تربط هيمنة الاحتكارات على المنظومة الإنتاجية، واستخراج الريع الاحتكاري من جانب، وظاهرة الفساد الناشئة عن التفاعل بين ممارسة السلطة السياسية، واستخراج هذا الريع من الجانب الآخر. أقول، إذاً، إن التخلص من الفساد أصبح مستحيلاً دون انجاز تغيير جوهري في علاقات الإنتاج.
فقبل أربعين أو خمسين عاماً، كانت هناك احتكارات في البلدان الرأسمالية المتقدمة، لكن إلى جانبها كانت توجد قطاعات واسعة من الإنتاج الرأسمالي الصناعي والزراعي والخدمي المستقل عنها، وتلك كانت قاعدة للمنافسة، وبالتالي قاعدة للديمقراطية البرجوازية في إعادة تكوين النظام، وأيضا القاعدة لعلاقات اقتصادية غير فاسدة (غير قائمة على الفساد).
إلا أن التغير الكيفي الذي حدث في الرأسمالية خلال الثلاثين سنة الماضية، وتحويلها من رأسمالية الاحتكارات، إلى ما اسميه رأسمالية الاحتكارات المعمّمة، يقع في قلب المشكلة، حيث بلغ تركيز الأموال ـ وهى ناتج التطور الطبيعي للرأسمالية ـ درجة لم يعد معها أي قطاع في الإنتاج مستقلاً عن هيمنة الاحتكارات، وحتى القطاعات التي تبدو مستقلة، تعمل في واقع الأمر في الباطن للاحتكارات. بهذا المعنى انتهت المنافسة الحقيقية التي كانت قاعدة تفعيل للرأسمالية من غير فساد (علاقات اقتصادية غير فاسدة، وغير قائمة على الفساد) وأيضا قاعدة الديمقراطية البرجوازية في إعادة إنتاج النظام.
لقد تصور ماركس إمكانية حدوث ذلك، لكنه لم يقل في شأنه أكثر من جملتين أو ثلاث جُمل، ورجّح حدوث الثورة الاشتراكية قبل الوصول إليه. هذا لم يحدث، وبالتالي حدث ما تصوَّره، أي التطور نحو الأسوأ. كما أن هذه الدرجة العالية من التركيز أدت إلى تغيير جوهري كيفي في ممارسة الديمقراطية، بمعنى أنه لم يعد لها مضمون، فأصبحت الأحزاب المرشحة لتداول السلطة عبر الانتخابات تابعة لسلطة الاحتكارات، وبالتالي سواء انتخب الناخبون اليمين أم اليسار، لم يعد ذلك يغير من الأمر شيئا.
ثالثاً: التجارب السابقة الأخرى:
اندونيسيا والفيليبين ومالي، أوروبا الشرقية، أمريكا اللاتينية:
يجب أن ندرك في مصر حقيقة أن انتفاضات شعبية وقعت خلال السنوات الأخيرة، في عدد من البلدان، وفي ظروف مختلفة خاصة لكل منها. ويجب أن ننظر بتمعّن إلى نتائجها.
أقسّمُ هذه الانتفاضات إلى ثلاثة أنواع: أولاً، النوع الخاص ببعض بلدان الجنوب في آسيا وأفريقيا، وسأضرب المثل عليه بالفلبين وإندونيسيا ومالي. ثانيًا، النوع الخاص ببلدان شرق أوروبا. وثالثاً، الخاص بأمريكا اللاتينية. علماً بأن الانتفاضة ضد النظام كانت واسعة في الأنواع الثلاثة من “الثورات”.
قامت في البلدان الآسيوية، الفلبين وإندونيسيا، ديكتاتوريات شبيهة تماماً بديكتاتورية مبارك: رئيس جمهورية فاسد وديكتاتور، محاط بالأوتوقراط وثلة قريبة منه، كما كان التعذيب منتشراً، وما إلى ذلك من الأمور المعروفة في هذا الطراز من الحكم. وكانت الانتفاضة رغم اختلاف الظروف من بلد إلى آخر شبيهة إلى حد ما بانتفاضة يناير- فبراير 2011 عندنا، بمعنى أن الفئات الوسطى والتقدمية والشباب قامت بالدور الأساس فيها، كما انضمت إليها الجماهير الشعبية أيضا.
ويمكن كذلك إدخال انتفاضة مالي ضد ديكتاتورية موسى تراوري ضمن هذا النوع. أدت المعركة الأولى إلى سقوط الديكتاتور وليس النظام. وكلّفت الانتفاضة الشعبية في مالي من الضحايا عشرة آلاف قتيل، واستمرت حوالي سنة وليس أسبوعين أو ثلاثة، كما حدث عندنا، وأدت في نهاية الأمر إلى طرد الديكتاتور. ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟
تمتع الشعب بحرية حقيقية ـ خلافاً للأمر عندنا ـ فحرية تكوين الأحزاب هناك مفتوحة وقد ساد مناخ من الحرية الشاملة في ما يتعلق بحرية التنظيم، إلا أن النظام استخدم الضغط الخارجي ـ بدعوى وجود تنظيم القاعدة في شمال البلاد، مما يستدعي القضاء على القاعدة كمهمة أساسية على عاتقه ـ لتبرير عدم القيام بالتغيير، وإجهاض أي استثمار تقدمي تفرض من خلاله الطبقات الشعبية، والفئات الوسطى، الديمقراطية السياسية في الممارسة اليومية. كما استخدم النظام التيار الإسلامي المحافظ القائم على تأويل متجمِّد يموّله الخليج.
ولا يختلف الأمر كثيراً في إندونيسيا والفلبين، حيث تم التخلص من الرئيس، إلا أن الطبقة الحاكمة بقيت في الحكم، فأصبحت الديمقراطية غير مجدية. فهناك في إندونيسيا ديمقراطية فتحت أبواباً لتكوين أحزاب اشتراكية، ولكن الطبقة الحاكمة استخدمت الإسلام السياسي، وإثارة النزاعات الطائفية بين الأغلبية المسلمة، والأقليات المكونة من المسيحيين والهندوس (15% من السكان) لجعل المشكلة الطائفية، الناجمة عن الخطابات الرافضة لحقوق الأقليات في مجتمع إسلامي مثل إندونيسيا، القضية الأساسية، مما شل الحركة الاحتجاجية تماماً.
فلابد أن نضع في اعتبارنا أن هناك حركات قوية وقعت في بلدان أخرى في الجنوب، ولم تقل من حيث القوة عن الحركة المصرية، لكنها لم تأت بالنتائج المنتظرة. وفي جميعها استُخدم الإسلام السياسي في الحفاظ على استمرار التكتل الرجعى في السلطة والتبعية للغرب. ويدخل ضمن هذه اللعبة الخبيثة استخدام الإرهاب والقاعدة لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه، باسم “محاربة الإرهاب” ومنع الانتفاضات والحركات الشعبية من إنجاز تغييرات محسوسة، بتحويل الرأي العام إلى قضايا أخرى.
أما في شرق أوروبا، فقامت انتفاضات ضد النظام الشيوعي (الاشتراكية القائمة بالفعل)، ولا أريد أن أدخل هنا في تفاصيل هذه القصة، وقد أدت الانتفاضات إلى تفتيت هذه الأمم على أسس أثنية أو دينية أو لغوية، كما جرى الأمر في يوغوسلافيا على سبيل المثال.
في جميع الأحوال صارت هذه البلدان مناطق تابعة لأوروبا الغربية، ألمانيا وفرنسا وإنجلترا أساساً، في ظروف شبيهة للعلاقة غير المتساوية بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. لدينا هنا، إذاً، تجارب لانتفاضات واسعة نجحت ليس في تجاوز النظام من اليسار، ولكن في سقوطه إلى اليمين، وإقامة نظم أسوأ من نظم سبقتها.
تعتبر أمريكا اللاتينية النموذج الأمثل بالنسبة لنا. فما حدث هناك حتى الآن يمثل نجاحاً وتقدماً للمد الثوري. كانت المرحلة الأولى من هذا المد الثوري في البرازيل، وأخذت شكل حركة جماهيرية واسعة شملت فئات مختلفة من الطبقات العاملة بالأساس (لكون البرازيل دولة متقدمة في الصناعة) وفقراء الفلاحين والفئات الوسطى، مؤدية في نهاية المطاف إلى نظام لولا دا سيلفا (مهما كانت حدوده وحقيقة إنجازاته… الخ).
كانت الحركة الشعبية أقوى في بوليفيا، واستمرت خمس سنوات، وقدّمت أكثر من 20 ألف شهيد، مؤدية في نهاية الأمر إلى تغيير الأوضاع، وإلى دستور جديد، وإصلاحات اجتماعية (لا أريد القول اشتراكية) وتبنى سياسة معادية تماماً للاستعمار.. الخ. إذاً، عندنا في أمريكا اللاتينية نماذج للمد الثوري المستمر، تُعد النمط الأمثل للتغيير في الظروف الحالية. وكذلك فنزويلا، لكنى لا أريد الدخول في التفاصيل حتى لا تتحوّل المقالة من الحديث عن مصر إلى الكلام عن تلك البلدان.
رابعاًَ: قراءة لتاريخ مصر المعاصر
أنظر إلى تاريخ مصر المعاصر باعتباره تاريخ مد ثوري طويل، يعقبه انهيار طويل، وربما بدأت الآن مرحلة المد الثوري الثاني الطويل. استغرق المد الثوري الأوّل الطويل 40 سنة تقريباً من 1920 إلى 1967. شكّل الوفد المرحلة الأولى في هذا المد، وكانت الفترة من 1920 إلى 1924 المرحلة الأكثر تقدمية وديمقراطية في تاريخ مصر المعاصر، وقعت بعدها ردة نتيجة خيانة جزء من القيادة الوفدية في العام 1924 انطلاقاً من سعد زغلول نفسه، الذي ضرب الحزب الشيوعي الأول، والتيار اليساري داخل حزب الوفد. ولحقه بعد ذلك، في هذا الطريق، السعديون وغيرهم، وجاءت في أعقابه ردة ديكتاتورية صدقي، وإنشاء منظمة الإخوان المسلمين.
عاد المد الثوري بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، انطلاقاً من 21 فبراير 1946، حيث اتخذ شكلاً متجدداً يتمثل في التحالف بين الطلبة، كممثلين للفئات الوسطى الديمقراطية والمعادية للاستعمار، والطبقة العاملة والشيوعيين. وقد بدأت الردة بخيانة الإخوان المسلمين للحركة لصالح صدقي باشا، ثم عادت الحركة لتستمر بعودة الوفد إلى الحكم ثم الردة، التي تمثلت في حريق القاهرة، والذي لعب الإخوان المسلمون دوراً فيه، ثم الانقلاب العسكري.
لم يمثل الانقلاب الأول في العام 1952 ثم الانقلاب الثاني في العام 1954 “نشأة الثورة” (ثورة يوليو كما يقال) بل مثّلا الفصل الأخير في فصول المد الثوري، ثم أنتج النظام الجديد ما أنتجه، وتبلور في الناصرية بين عامي 1954 و1956، وفي أعقاب مؤتمر باندونغ، عندما أظهر للمرّة الأولى منذ 1952 مواقف معادية للاستعمار. كانت الناصرية في واقع الأمر محصلة لفترة، ولم تكن انطلاقة لمرحلة جديدة، كما حاول عبد الناصر أن يعطى لنفسه صورة مزيفة كمجدد في الحياة المصرية، بينما الواقع أنه أنهى الموجة الثورية.
أنتج النظام، بما كان المجتمع المصري قادرا على إنتاجه، نظاماً معادياً للاستعمار، كما حقق إصلاحات اجتماعية (وليست اشتراكية) بمعنى تحقيق بعض المكاسب والإصلاحات لمصلحة الطبقات الشعبية، ولكنه فعل ذلك بشكل فوقى وغير ديمقراطي. فالنظام رفض الديمقراطية والجذرية، وأنتج ذلك ما كان يمكن أن ينتجه في ظرف 10 سنوات لا أكثر، ثم دخل في أزمة بعدما بلغ حدوده وفقد نفسه، وانتهز الاستعمار الأمريكي عن طريق الصهاينة هذا الضعف لضربه في العام 1967.
ما حدث بعد ذلك أن جمال عبد الناصر نفسه، بدأ الانفتاح عندما فضَّل خيار تقديم تنازلات لليمين، من خلال فتح الباب لانفتاح اقتصادي، على خيار تجذير النظام، ثم عمّق السادات الانفتاح وربطه بالتحيز والخضوع للولايات المتحدة والصهاينة، واستمر مبارك في نفس الطريق.
إذًا، جاءت بعد المد الثوري الأول الذي استمر 40 عاما، فترة من أربعين عاماً أخرى تمتد من 1970 وحتى 2011، استغرق فيها المجتمع المصري في النوم، بلا وزن في المنطقة ولا في العالم.
إننا ندخل اليوم في المد الثوري الطويل الثاني، وقد تكون حدوده أفضل من المد الثوري الطويل الأول، وأعتقد أن التوعية، في ظل الظروف العالمية والمحلية المختلفة، يمكن أن تلعب دوراً في تحقيق ذلك.
عن مجلة الكرمل الجديد (صيف العام 2011)
ثورة مصر وما بعدها
مقال ان دل على شيء فعلى غربة صاحبه عن الواقع المصري والعربي وعلى انتقاله من الماوية الصينية الى التحريفية السوفياتية وقد ماتت وشبعت موتاً..
د.عاصم علي حسين