استدعت وزارة الخارجية السورية صباح امس (الاحد) سفيري الولايات المتحدة “توم فورد” وفرنسا “اريك شوفالييه”، وابلغتهما “احتجاجا شديدا” بشأن زيارتيهما الى مدينة حماة. وكانت زيارة السفيرين تمّتا بشكل منفصل، وان تزامنتا مع “جمعة لا للحوار” قبل يومين التي شهدت خروج ما يزيد على نصف مليون متظاهر من ابناء مدينة حماه، كما تناقلت هذا العدد وسائل الاعلام واطراف المعارضة السورية.
واللافت عن الاعتراض الرسمي السوري على هاتين الزيارتين، انه لم ينطوِ على موقف حاسم لجهة طردهما، او منع وصولهما الى مدينة محاصرة من قبل وحدات من الجيش والقوى الامنية المتواجدة منذ اسابيع او اشهر. لا بل برّرت مستشارة الرئيس بشار الاسد عدم اتخاذ مثل هذه الخطوة بأن “القيادة السورية تحافظ على شعرة معاوية مع الادارة الاميركية”. لكن ذلك لم يمنع من ان تخرج العديد من الاصوات التي تخوّن اولئك الذين التقوا السفيرين من ابناء حماه، او رحبوا بهما واستقبلوهما.
الموقف الرسمي متهالك من اجل عقد صفقة مع الادارة الاميركية تحفظ استمراره، وهو ما يمنعه من اتخاذ اجراءات جذرية اتجاه السفيرين. فهذا النظام “القومي” و”العروبي” و”الممانع”، لم يقنع السوريين في الداخل والخارج انه يتهيب شعبه اكثر من الادارة الاميركية او مجلس الامن. ثمة حقيقة لا يمكن ان تنفيها الوقائع السياسية الحاضرة او التي سلفت، مفادها ان الشعب السوري عموما ومن خلال تجربته المديدة والمريرة، موقن ان الموقف الدولي يساهم في منع النظام واجهزته من ارتكابات ليست جديدة على سلوكه الامني. لقد نفذ السفيران من ثغرة، أو قُل من الشرخ الهائل بين الشعب والنظام الذي يتحمل مسؤوليته الاخير. وهو لن يتردد في تكرار ما حصل في العام 1982، اذا ما توفر له ضمان الصمت الدولي وعدم الملاحقة. من هنا تأتي اهمية زيارة السفيرين الاميركي والفرنسي. علما انهما حملا كما تردد اقتراحاً للحوار مع السلطة، لكنه رُفض.
لنفترض ان ابناء حماه قاموا بطرد السفيرين، فهل من عاقل يعتقد ان “النظام” لن يستغل هذه الحادثة ليقول، ان هؤلاء الذين طردوكم او اعتدوا على مواكبكم، هم من المتطرفين والارهابيين الذين يعاني منهم النظام، وفي هذه الحال قد يذهب النظام الى ابعد من ذلك اي الى معاقبة المعتدين على طريقته!
من هنا بيّنت الثورة السورية ان الشعب لم تعد تأسره مقولات “وطنية النظام” ودوره القومي وحمايته للمقاومة العربية ضد أميركا وإسرائيل، وهو يرى كيف تترجم هذه المقولات على مدار عقود بالاستبداد ومصادرة حق الانسان قبل المواطن وكيف تسلب الحرية للشعب. كما بيّنت شعارات الثورة وادبيات المعارضين، أن النظم الديموقراطية وحدها من يوفّر الوطنية، ومنها تنطلق الادوار المشروعة في السياسة والامن والاقتصاد.
لقد نما الاستبداد وقام النظام الامني وتغول في الدولة والمجتمع ، تحت ذريعة أن التحرير من الاحتلال هو الاولوية. ولكن كانت النتيجة أن الرئيس الوطني التقدمي هو الذي حل محل المحتل، فأعملَ في الوطن نهشاً وضياعاً وفساداً وجمد الحياة السياسية وتمسك بالسلطة حتى الموت. فهو من جهة لم يحقق تحرير الارض، ومن جهة ثانية مارس احتلال مؤسسات الدولة وتسلط على المجتمع بذريعة وهمية اسمها التحرير.
لقد فرضت الثورة السورية حتى الان حقائق بدت خيالية في مسار المعارضات الموؤودة منذ اربعة عقود على الاقل. لقد استطاع هؤلاء الثوار الذين خرجوا من كل المدن والنواحي السورية خلال الاشهر الثلاثة الماضية، ان يثبتوا انهم خميرة التغيير الديمقراطي، وانهم هم من سمح لكثيرين من داخل سورية ان يعلنوا انهم معارضون ويفتخروا، دون ان يدفعوا ثمن تصريحهم السجن او الهروب الى خارج البلاد. ويدركون اليوم ان ايقاع تحركهم على مساحة ايام الاسبوع وجمعاته، هو من يكسر هالة المقدس عن النظام ورموزه ايا كانوا، وهو كفيل بأن يطوي جمهورية الخوف التي اسرت عقولا ومشاعر قبل ان تستبيح حقوق المواطن في بلاد الممانعة المحروسة بالشعارات والانصبة.
الذي يستباح دمه، ويُنتقم من بلبل ثورته بذبحه وانتزاع حنجرته ورميه في نهر العاصي، هو الشعب السوري الذي يقاتل من اجل درة الحرية، ليتحسس كرامة مصانة كما يتحسس نبض قلبه، هو من يقرر ان كانت زيارة السفيرين الاميركي والفرنسي تدعم هذه الحقوق ام لا؟ كما هو المعني بالشفاعة لمن ناصر النظام على ثورته، ولو كان يرفع راية تحرير لكن منزوعا منها “الحرية”.
alyalamine@gmail.com
• كاتب لبناني
صدى البلد