منذ أن أقدمت الحكومة التايلاندية في مايو الماضي على حل البرلمان تمهيدا لإجراء إنتخابات تشريعية جديدة بهدف وضع حد للأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد منذ عام 2009 وأثرت سلبا على إقتصادها وسمعتها، شاع الكثير من التساؤلات والأقاويل والشائعات حول مستقبل هذا البلد ونوعية العلاقة القادمة بين الحكومة ومؤسستي الجيش والبلاط الملكي. علاوة على ذلك تباينت إستطلاعات الرأي حول ما ستسفر عنه الإنتخابات ما بين إستطلاعات أفادت بأن الحزب الديمقراطي الحاكم بقيادة رئيس الحكومة “أبهيسيت فيجاجيفا”، وحزب “بوي تاي” (من أجل التايلانديين) المعارض برئاسة سيدة الأعمال “يينغلوك شيناواترا” شقيقة رئيس الحكومة الأسبق “تاكسين شيناواترا” الهارب من تنفيذ حكم قضائي بسؤ إستغلال السلطة وسرقة المال العام، والمقيم في كمبوديا حيث يتولى منصب مستشار إقتصادي للدولة يتنافسان رأسا برأس في الكثير من الدوائر الإنتخابية، وبالتالي فإن نتائجهما متقاربة. وإستطلاعات أخرى أفادت بأن المعارضة تتقدم بفارق كبير على الحزب الحاكم، وبالتالي فإن فوزها مؤكد، خصوصا في ظل حقيقة أن “تاكسين شيناواترا” لايزال يحظى بنفوذ واسع في معاقله في الشمال والشمال الشرقي حيث تعيش نسبة كبيرة من المقترعين البسطاء ممن يمكن شراء أصواتهم بالمال، مثلما فعل الرجل في مناسبات إنتخابية سابقة.
وما بين إستطلاعات الرأي هذه، إنتشرت شائعات كثيرة، مثل أن الجيش والبلاط الملكي يدعمان الحكومة وسوف يتدخلان في آخر لحظة للحيلولة دون فوز المعارضة (الذي يعني ضمنا عودة شيناواترا من منفاه الإختياري والصفح عنه). لكن الشائعة الأهم كانت تلك التي إستندت إلى ما كتبه أحد المراقبين من أن صفقة سرية تم إبرامها في بروناي في فبراير الماضي ما بين ممثلين عن شيناواترا والجيش والبلاط الملكي، وذلك بهدف ترتيب سيناريوهات ما بعد الإنتخابات. في هذه الصفقة، التي قيل أن إجتماعات تمهيدية سبقتها في دبي، ذكر أنه تم الإتفاق على ألا يعيق الجيش والبلاط فوز المعارضة وتشكيلها لحكومة جديدة، وأن يسمحا بعودة شيناواترا من منفاه في وقت لاحق مع إصدار عفو ملكي عنه، وذلك مقابل أن يتعهد الأخير، أو من يمثله على رأس الحكومة الجديدة، بعدم التدخل في التعيينات والترفيعات العسكرية الدورية التي عادة ما تحدد من سيتولى قيادة الجيش، وبعدم الإنتقام من جنرالات الجيش الذين قاموا بإنقلاب عام 2006 بقيادة الجنرال المسلم عبدالله ضد حكومة شيناواترا المدنية الثانية، وبعدم مساءلة الضباط والجنود الذين قمعوا تظاهرات الإحتجاج والإعتصام والتخريب التي قام بها من عرفوا بـ “ذوي القمصان الحمراء” في بانكوك على مــــدى أشهر في عام 2009 ، هذا ناهيك عن كبح جماح المتطرفين في “الحركة الديمقراطية ضد الديكتاتورية” (حركة متحالفة مع حزب بوي تاي) ممن باتوا يتجرأوون ويتقولون بوقاحة ضد الأسرة المالكة ذات المكانة شبه المقدسة.
ويقول بعض المطلعين أنه إذا ما صحت أنباء هذه الصفقة فإن مبرراتها معروفة ومقبولة، وأولها معرفة الجيش والبلاط مقدما بأن المعارضة ستفوز بأغلبية واضحة (وهو ما حدث فعلا بفوز حزب “بوي تاي بـ 260 مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان البالغ عددها 500 ، وبالتالي ذهاب منصب رئاسة الحكومة إلى زعيمته “يينغلوك شيناواترا”، لتصبح الأخيرة أول رئيسة وزراء في تاريخ تايلاند، ورئيس الحكومة الـ 28 منذ العمل بالديمقراطية في عام 1932 )، وثانيها رغبة مؤسستي الجيش والبلاط في إجراء مصالحة وطنية شاملة، وذلك تجنبا لدخول البلاد في موجة جديدة من العنف كتلك التي طالت مؤسسات البلاد وشلت الحركة في العاصمة، ودمرت الإقتصاد، وأودى بحياة 91 شخصا على مدى عشرة أسابيع في 2009، وثالثها رغبة جناح واحد على الأقل داخل مؤسسة البلاط في تهيئة الظروف من أجل إنتقال العرش بطريقة سلسلة من العاهل التايلاندي العاجز “بهوميبون أدونياديت” (83 عاما) إلى ولي عهده الأمير “فاجيرالونغكورن”، ورابعها إعادة المصداقية إلى المؤسسة الملكية التي إهتزت صورتها قليلا بسبب دعمها المبطن للجيش لقمع التظاهرات الشعبية، علما بأن ذلك الدعم عزز من شعبية حزب “بوي تاي” رغم سجل المؤسسة السيء.
والمعروف أن هذا الحزب أسسه شيناواترا في سبتمبر 2006 كبديل لحزبه السابق “حزب سلطة الشعب” الذي قضت المحكمة العليا الدستورية بضرورة حله على خلفية تزويره للإنتخابات البرلمانية، بل أن هذا الحزب الأخير نفسه أسسه شيناواترا كبديل لحزبه الأول الذي أنطلق منه كنجم سياسي وهو حزب “تاي راك تاي” (التايلانديون يحبون التايلانديين) الذي تم حظره بتهمة إنتهاك الدستور.
والحال أن إنتخابات تايلاند الأخيرة تتمحورت حول شخص واحد هو “تاكسين شيناواترا” الذي لا يزال يلقي بظلاله في كل مكان رغم غيابه الجسدي عن المشهد السياسي. فهو الذي يحرك حزب “بوي تاي” بالريموت كنترول، ويتحكم في جماهيره وأنصاره بالمال والوعود البراقة، وهو الذي ضغط على شقيقته الصغرى “يينغلوك” لتتولى رئاسة الحزب وتترشح ضد رئيس الحكومة، فقبلت الأخيرة من بعد تردد وتمنع.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو عن مدى قدرة شابة لم تتجاوز الـ 43 عاما مثل “يينغلوك” على إدارة بلد منقسم إنقساما عميقا – هذا إذا إستبعدنا فرضية أن يكون شقيقها هو رئيس الوزراء الفعلي والمخطط لكل شيء من وراء الكواليس. فهذه التي تخرجت من كلية العلوم السياسية والإدارة العامة بجامعة شانغماي في عام 1988 ، قبل أن تحصل على درجة الماجستير في الإدارة العامة (تخصص نظم المعلومات) من جامعة ولاية كنتاكي الإمريكية في عام 1991 ، كانت حتى وقت قريب جدا بعيدة عن الأضواء وعالم السياسة، وكان جل إهتمامها تنمية ثروة عائلتها من خلال مؤسستين تترأسهما، أحدهما متخصصة في الإتصالات الهاتفية والأخرى متخصصة في تنمية وإدارة الأصول العقارية. والمعروف أن حسابها المصرفي كان ضمن 86 حسابا مصرفيا إتهم أصحابها بتحويل مبالغ طائلة إلى جماعات التخريب المعارضة للحكومة والمؤسسة الملكية.
لكنها، في إجابة لها حول سؤال عن خبرتها السياسية، لم تترد في القول أنها تشربت السياسة منذ نعومة أظافرها، قائلة أن والدها وأشقائها التسع دخلوا عالم السياسة، ومذكرة بأنها حفيدة الأميرة “جانيت أوف شانغماي”.
أما السؤال المهم الآخر فهو عما إذا كان خصوم “تاكسين شيناواترا” من ذوي القمصان الصفراء سوف يقبلون بنتائج الإنتخابات من بعد الإنقسام المرير في المجتمع التايلاندي ما بين مجموعتين يميزان نفسيهما بالألوان؟
لقد تعاملت الحكومة بطريقة حضارية مع نتائج الإنتخابات حينما إعترف رئيس الحكومة بهزيمة حزبه، وهنأ المعارضة بفوزها، حتى قبل ظهور النتائج النهائية. وردت “يينغلوك” بالطريقة المتحضرة نفسها حينما شكرت “أبهيسيت فيجاجيفا”، وصرحت أنها لا تعتبر النتيجة فوزا لها أولحزبها ، وإنما فوز لتايلاند، مؤكدة أن أكثر ما يشغلها الآن هو المصالحة الوطنية. ولم يبق إلا أن يسلك الشعب أيضا نهجا حضاريا ويسدل الستار على انقسامه.
ونختتم بشيء مثير للحنق فعلا هو قيام قوى ومنظمات إمريكية وأوروبية حقوقية مسيسة بدس أنفها في الشأن الداخلي لتايلاند (مثلما فعلت وتفعل في بعض دول الشرق الأوسط)، لتوصف الإنتخابات الأخيرة، حتى قبل ظهور نتائجها، بأنها غير نزيهة وتنقصها الشفافية.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh