تؤكد تجربة النزاع الديني – الديني، أو النزاع الديني مع العلمانية، والمخرجات المتعلقة بها، والتي تبرز خلالها بوضوح مسألة إقصاء الآخر، فكريا ومذهبيا وعقائديا وإنسانيا، كيف أن التيار الديني يعجز عن تقديم صورة ثقافية واقعية حديثة لذلك النزاع، ويلجأ إلى صور الماضي الديني، ليحقق من خلالها أمانيه النرجسية التي تنتهي إلى المحو. وسوف نركز هنا على آلية الإقصاء التي تهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق هدف الهيمنة.
يرفض التيار الديني في مجمله الأطر الفكرية المتعلقة ببنية الحياة الحديثة – ومنها القبول بوجهة نظر الآخر المختلف معه – ويفشل في مواجهة تحدياتها، وأي محاولة لفهمها تحمّله الرجوع إلى التاريخ وإلى الماضي، استنادا إلى أنه غير قادر على استيعاب تلك الأطر، بل أي محاولة للاستيعاب، هي بمثابة تنازل عن “الثوابت” الماضوية، وعن ما قاله “السلف الصالح” في غابر الأزمان، وعن ما سمي بـ”المقدسات” المتصفة بتراتبية تاريخية. وقد لجأ التيار إلى الماضي، بلزوم تقيّده بنصوص سلفييه، كما لجأ إلى التاريخ، الديني الاجتماعي، بوصفه الحلم للحاضر والأمل للمستقبل، كل ذلك من أجل تفعيل صور الحياة الماضوية في الدنيا الراهنة، التي تتصف بحركة تطور سريع وتغير مثير، وكذلك من أجل الحصول على جنات الدنيا الآخرة، في حين أن الهدف الديني الاجتماعي بالنسبة إليه هو الهيمنة على مجمل الحياة وبجميع تفاصيلها وبمختلف مسائلها في ظل تنوع أمورها وقضاياها، بما فيها السياسية وغير السياسية، وبعبارة أخرى، الهيمنة بصورة دينية تاريخية على الحاضر بالاعتماد في ذلك على نصوص السلف.
وحسب المفكر المصري الراحل نصر حامد أبوزيد فإن آلية “الاعتماد على سلطة التراث والسلف”، تعني “تحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى نصوص لا تقبل النقاش”، بل أكثر من ذلك، أي “التوحيد بين تلك الأقوال وبين الدين في ذاته”. وحسب المفكر الإيراني مصطفى ملكيان فإن “السلفي” هو الذي يتبنى الأفكار والمشاعر والأفعال الموروثة الراسخة، التي يعتبرها البعض مقنعة، بل وفوق السؤال والمناقشة، وتنتقل من جيل إلى جيل عن طريق التأسي بالسلف.
والجماعات الدينية، وبالذات المنعوتة بأنها غير سلفية، هي في الواقع تستند في فكرها وثقافتها إلى التأسي بالسلف، ومن ثَمّ إلى اعتبار أفكارها فوق السؤال والمناقشة، في حين أن السلفيين لا يختلفون عنهم إلا في الشخصيات السلفية التاريخية التي يرجعون إلى أقوالها وأفعالها، وفي تبنيهم لمواقف متباينة تجنح في معظم الأحيان نحو التشدد. فالاثنان ينهجان منهجا بحثيا واحدا، لكنهما يختلفان في تفسير ما صدر عن السلف، مما يجعلهما يسيران في اتجاهين أحدهما متشدد والآخر أقل تشددا.
لذلك، يعتقد أبوزيد أن الآليات التي تحكم مجمل الخطاب الديني هي واحدة، سواء عند الخطاب المعتدل أو المتشدد، مؤكدا بأن تلك الآليات تتداخل مع المنطلقات الفكرية للخطاب إلى درجة التوحد بحيث يستحيل التفرقة بينهما.
وما التجارب التي كان طرفها سلفيا وآخر غير سلفي، كتكفير، أو إقصاء، أو إلغاء للصوفيين وللشيعة، على سبيل المثال، إلا دلالة على عجز التيار الديني عن استيعاب مفاهيم حداثية، بفشله في قبول الرأي الآخر، ورفضه التعايش مع المختلف. بل تمثل تلك التجارب بالنسبة له تهديدات مباشرة للدين، وأنه في سبيل مواجهتها لابد من استعادة تجربة الماضي، بشخوصها وأحداثها ولغتها وأدواتها. وبعبارة أخرى، يجب الإستلهام من الماضي الديني لمواجهة تحديات العصر الحاضر، وهو بمعنى، أدلجة النص التاريخي، بحيث يؤخذ من النص الإجابات التاريخية النهائية المقدسة للرد على أسئلة الحاضر المتحركة المتغيرة غير المقدسة. وما الإقصاء إلا إحدى الإجابات الماضوية الراسخة في وجدان الحالة الدينية. لذا، من الطبيعي أن نتوقع عدم نجاح تلك الإجابات، وعدم قدرتها على الإصلاح، وعجزها عن مجاراة الواقع، لأنها فاقدة للصلاحية، مكبلة غير حرة وغير مرنة ولا تستوعب التطور، بمعنى أنها لا تستطيع مسايرة حركة التغير الثقافي والاجتماعي.
وفي حين يصعد التيار الديني، بأيديولوجيته التاريخية، إلى مراتب عليا من المثالية والأخلاقية والحياتية، فإن مخرجات أيديولوجيته فشلت في تأكيد صلاحيتها، وفي مجاراة ما يحدث في الواقع، بل التجربة تؤكد بأنها أيديولوجيا مضرة أخلاقيا، لأنها عاجزة، لذلك تلجأ لترويج الكذب، وتدعو حسب النص الديني إلى الخيانة، ولا تمانع من أي إقصاء أوقتل أوانتهاك لحقوق الإنسان باسم الدين وتحت ستار المصلحة الدينية، غير مبالية أن ينعكس ذلك بالسلب على سمعة الدين أو أن يضر بالروحانية الدينية.
بعبارة أخرى، لا مجال لمدّعي المثالية الدينية في تبرير إخفاقاتهم وفشلهم في الحياة المعاصرة إلا الاختباء خلف التصورات التاريخية والغيبية والتستر بالرؤى غير العقلانية بوصفها “مخارج” تهيئ لهم فرصة تكرار التجربة الماضوية السماوية المقدسة التي في تصورهم واعتقادهم لا مجال لفشلها. أما البديل الآخر أمام التيار الديني في مواجهة هذا الفشل، فهو السعي للسيطرة على الآخر بالقوة، سياسيا واجتماعيا وأمنيا، ومن خلال الضرب على وتر احتكار فهم جميع الحقائق في الحياة، وطرد التفسيرات المغايرة لفهمه، وتهديد أصحاب ذلك الفهم.
يؤكد ملكيان بأنه حينما تتوقف حركة العقلانية الحرة، سيوافق الإنسان على الكثير من الآراء والنظريات، أو يعارضها من دون أي دليل أو برهان (عقلي). وهذا التأييد أو المعارضة المفتقرة للدليل، تمهد الأرضية لرذيلتين ذهنيتين: الأولى هي التعصب، والثانية هي الحكم المسبق. وحينما يسمح الإنسان لنفسه أن يؤمن بكلام من دون دليل أو برهان، يكون قد عرض نفسه لمخاطر الخرافات. ويضيف بأنه ما من إنسان تقليدي يرى مضامين تراثه الذي يؤمن به خرافات، لكن يرى أمثالها في تراث الآخرين خرافات وترهات. ويؤكد “وماذا عسى أن تكون النتائج غير هذه حينما يكون الرفض والقبول بلا أية أدلة؟”.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي