«الشعب الواحد في دولتين»: من كان يتجرأ على قول العكس، في تلك الأيام الغابرة التي مكّنت أشقاءنا الجيران من السيطرة علينا وعلى كل تفصيلة من تفاصيل حياة بلدنا بمؤسساته وسياسييه وجامعاته وأحزابه ومجتمعه «المدني»…؟ من كان يتجرأ على تفكيك العبارة وتكذيبها، والاثبات بأن لا دولة لبنانية قائمة بذاتها، الا في الشكل والشكليات، في السطح والمظهر؛ ولا قرار أصلاً الا من مركز الوصاية يُملى على هذه التي سميت «دولة لبنانية»: «السوريون يريدون كذا….»، كان يردّد المحللون والسياسيون، والدولة المزعومة تنفّذ.
والحاجة الى عملية التفكيك هذه ليست ضرورية جدا؛ فالواقع المُعاش بشواهده الغنية والكثيفة، اليومية منها والمصيرية، كان كافيا لإماطة اللثام عن خلفية هذا الشعار. لكن ارتباطه بجهاز آخر من الشعارات، وخصوصا شعار «تلازم المسارين، السوري واللبناني» كان يكفل السكوت عن هذه الكذبة من اننا شعب واحد في دولتين. فـ»تلازم المسارين» كان يقوده التخوينيون الذين يشمّون في أية رائحة خارجة عن سلكهم «مؤامرة صهيونية امبريالية»: أسهل التهم وأثقلها وقعاً… اذ كان يُفترض بنا ان تكون لنا سياسة واحدة ضد اسرائيل، بقيادة سورية لبنانية «مشتركة» متفاهمة متوافقة ومتشاورة… الى ما هنالك من عبارات الاخوة الشقية.
عاش الشعاران دهرا، ومكّنا الوصاية على لبنان، «خاصرة» سوريا «الرخوة» طوال إقامة جيشها على الأراضي اللبنانية: 30 سنة، وهي مدة ديكتاتورية بامتياز . لذلك، قليلاً ما اهتزّ الشعاران بالاغتيالات والحروب اللبنانية الاسرائيلية والغزو الاسرائيلي، وصولا الى الانسحاب العسكري للقوات السورية. فالوصاية ما زالت قائمة حتى هذه اللحظة، رغم اهتزازها، لكن الذي حصل مؤخرا أطاح بها… للذين يريدون ان يفهموا أو يدركوا.
التظاهرة الدموية التي نظّمت في 15 أيار الماضي في ذكرى النكبة كانت صفعة قوية لـ»تلازم المسارين»، سيما وانها أتت بعد نداء رامي مخلوف الى اسرائيل لإنقاذ هذا التلازم من رتابته وسُباته السابقين: اذا سقطنا تسقطون، قال لهم، في تحذير غير مبطّن….
فكانت الصفعة الصريحة، التي لا تحتاج الى مفسّرين: أعادتنا هذه التظاهرة الى الوراء، وبعفوية غريبة. كان مشهد الشباب الراكضين نحو الحدود واطلاق النار الاسرائيلية عليهم، خصوصا أولئك المتجهين نحو الحدود مع الجولان… كان مشهدا يحيي مشاهد أخرى: سكون هذه الحدود طوال 41 عاما، والاشتعال الدائم للحدود اللبنانية والفلسطينية طوال هذه السنوات بالذات. انّ اشتعال الحدود الجولانية بالتناغم مع شقيقاتها، اللبنانية والفلسطينية، كان ترجمة غير صادقة لشعار التلازم. فالتلازم يعني سلوك الدرب ذاته. والحال لم يكن كذلك على الاطلاق: الحدود اللبنانية التي يحكمها القرار الواحد مع الحدود السورية، القرار الواحد بالحرب او بالسلام، كانت دائمة الاشتعال، فيما الحدود الجولانية دائمة الانطفاء، بداعي «الردّ المناسب في الوقت المناسب»… وأحيانا المكان المناسب ايضا.
إما ان الشعار كان كاذبا إذن، أو ان اللبنانيين كانوا يخوضون حروبهم مع اسرائيل رغم اعتراض القيادة السورية عليها، أو رغم عدم علمها بها!
لكن الاحداث الأخيرة وجهت ضربة أقوى للشعار الرديف الآخر، «شعب واحد في دولتين». القيادة السورية نفسها هي صاحبة هذه الضربة: أول ما بدأت تهدّد، عبر «خبرائها» أو «إعلامييها»، صارت تقول ما معناه «إياكم وسوريا…. نحن لنا أذرع تمتد الى لبنان وسوريا والعراق وتركيا«. اذن اعترفت بحدودنا القطرية الملعونة المورثة من الاستعمار وسايكس بيكو… وبهذا المعنى فنحن لسنا شعوباً واحدة، ولا ذات مسارات متلازمة. لكل منا مسار ووضعية ضمن رقعة الشطرنج، معلّق بقيادة واحدة، مترابطو المصير، ولكن ليس بالطريقة ولا بالحكاية إياهما.
الضربة الأخرى الموجهة لهذا الشعار»شعب واحد في دولتين»، هي صرخات النظام اليومية حول «تدخلات خارجية» في الاحداث السورية. طبعا هي صرخات مثيرة للسخرية، لما يُعرف عن اللبنانيين، «ممانعين» و»متخاذلين» و»خونة»، عن خوفهم من القيادة السورية، وما نالوا من أصناف إضطهاد على يدها. ولكن الأهم من الخوف هو معاملة الشعب اللبناني على انه شعب آخر غير ذاك الذي كان واحدا في الشعار؛ خصوصا في ظل التغنّي بالهوية السورية، بل المغالاة في التغنّي، وكأنه سلاح موجه ضد «الأغراب» الأشرار من اللبنانيين، أو الفلسطينيين، خصوصا، ومن بعدهم الأتراك أو المصريين، الذين يريدون التدخّل في شؤوننا الداخلية…
المحكّ محرج لشعار «الشعب الواحد…»، يزيل عنه آخر أوراق التوت.
لكن التدخّل في الشؤون السورية ليس مرفوضا بالمطلق. هناك تدخل وتدخل: الايجابي منه مطلوب ومرغوب. مثل الإلحاح السوري على «حماس» لكي تخرج بموقف تأييد صريح للقيادة الرسمية في مواجهتها للمتظاهرين. وهو الالحاح اللذي عجّل التصالح الفلسطيني بين «حماس» و»فتح»، وقد تضافر طبعا مع معطيات أخرى جديدة شجّعت على هذا التصالح. أو مثل السياسيين والاعلاميين اللبنانيين الذين يدأبون على تأييد هذه القيادة. هؤلاء أهلا وسهلا بـ»تدخلهم»، على الرحب والسعة. اما الذين لا يؤيدون، فهم «متدخلون» او «دخلاء»… فيما هؤلاء لا يطلبون الا «الستْرة«!
بمعنى آخر: من كان معي فهو ليس بمتدخل، ومن كان ضدي، فهو متدخل، ومتآمر حتماً. كل هذا تحت شعار «شعب واحد ودولتين«.
والحال، إذا أردنا تصحيح شعار الشعب والدولتين، علينا إدخال تعديل طفيف عليه، والقول اننا كنا شعبا واحدا في نواح، تحكمنا نفس القيادة الاستبدادية؛ وكنا أيضا شعبين في نواح أخرى. وهي نواح تحتاج الى من يدرسها عندما يهدأ الغبار. اذن نحن أقرب العرب الى الشعب السوري، ولكننا لبنانيون. اما «الدولة»، فكانت واحدة في الثلاثين عاما من الوصاية، كان القرار اللبناني هو القرار الذي تتخذه القيادة السورية تحت التهديد. كنا بالأحرى «شعبا واحد ودولة واحدة»: نُضطهد ويصادَر قرارنا كما يُضطهد الشعب السوري ويصادَر قراره. ثم بعد إنسحاب الجيش السوري من لبنان، تقاسمت القيادة السورية حكمنا مع افرقاء آخرين، بدوا حتى اللحظة أضعف منها.
باستثناء ذلك، هناك شعار يزدهر بصمت مع الاحداث الجارية، كنا قد نسيناه برهة: «السلاح بوجه السلاح»، الشعار الشهير الذي رافق غزو بيروت في 7 ايار من العام 2008. يومها وجه «حزب الله» سلاحه ضد ابناء مدينة بيروت دفاعاً عن سلاحه: ومكمن عبثية هذه «الغزوة» وجنونيتها، ان المقتلة التي حصلت خيضت من اجل حفظ السلاح الذي نفذها. الأمر نفسه يحصل الآن في سوريا اليوم، مواطنون يتظاهرون ويتلقون في قلوبهم وصدورهم الرصاص الذي لا يود شيئا غير الاحتفاظ بحق القتل: «السلاح في خدمة السلاح«.
لقد خسر النظام السوري في الاحداث الأخيرة اصدقاء كُثُراً من دول بعينها ومنظمات فاعلة ومثقفين وإعلاميين وشخصيات؛ حتى الآن لم يخسر أي «صديق» لبناني، حزبيا كان أم سياسيا أم اعلاميا؛ وهاتان الفئتان الاخيرتان أمعنتا في نسخ خطاب النظام بحذافيره، والتبشير به. وأما من ابتعد من هؤلاء الاصدقاء عن خطه الرسمي، فلم «يبادر» الا انطلاقا من «الصداقة» و»الاخوة» و»الحرص» و»الخوف على…».
فهل يصدق مؤرّخو الغد بأن شعباً ثار على جيش وصاية وطرده بالتظاهرات السلمية، بوسع نصفه أو بعضه ان يساند هذا الجيش نفسه في قتله لأبناء «الشعب الواحد»؟ على أساس «تلازم مساري القمع والقتل والحبس» بين الشعبين السوري واللبناني»؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل