مشهد أوّل: في يناير (كانون ثاني) 1848 انفجرت ثورة شعبية في صقلية. بعد أقل من شهر وصلت رياح الثورة إلى فرنسا، نـزل العمّال إلى الشوارع في الفترة ما بين الثاني والعشرين من فبراير (شباط) والرابع والعشرين منه، وسقطت أحياء باريس في ِأيديهم الواحد تلو الآخر.
بعد أقل من أسبوعين اندلعت الثورة في فيينا، يوم الثالث عشر من مارس (آذار) غطت متاريس الثوّار شوارع العاصمة الإمبراطورية. وبعد قليل، التحقت بوادبست وبراغ بالثورة. بعد ثلاثة أيام انتصرت الثورة الشعبية في برلين، ومنها امتد الحريق الثوري إلى الإمارات الإيطالية، ووصل إلى أسبانيا وسويسرا وبلجيكا
المشهد الثاني: في 18 ديسمبر (كانون أوّل) 2010 اندلعت مظاهرات في تونس، وفي 14 يناير (كانون ثاني) 2011 هرب بن علي، وحققت الثورة الشعبية انتصارها الأوّل في العالم العربي. وفي 25 يناير (كانون ثاني) بعد 11 يوماً وصلت ريح الثورة إلى مصر، وفي 11 فبراير (شباط) سقط مبارك.
بعد سقوط مبارك بأيام قليلة اندلعت الثورة في اليمن، وبعدها بأيام أقل اندلعت في ليبيا، وسيطر الثوار على ثاني كبرى المدن الليبية. بعد ثمانية وعشرين يوما بالتمام والكمال من ثورة 17 فبراير (شباط) الليبية، أي في 15 مارس (آذار)، انطلقت شرارة الثورة في سوريا. إضافة إلى هذا كله، شهدت بقية البلدان العربية خلال الفترة من يناير (كانون ثاني) 2011 وحتى يوم الناس هذا، حركات احتجاجية ومظاهرات، قُمع بعضها بقسوة كما حصل في البحرين.
تعليق: ما العلاقة بين المشهدين الأوّل والثاني؟
تتجلى العلاقة من خلال المقارنة بين حدثين تاريخيين من عيار ثقيل: ربيع الشعوب الأوروبية، في أواسط القرن التاسع عشر، وربيع الشعوب العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ومن هذه المقارنة نكتشف حقيقة السرعة الهائلة للموجة الثورية في الحالتين. خلال أشهر قليلة تغيّر وجه أوروبا. وخلال أشهر قليلة، أيضاً، تغيّر وجه العالم العربي. في أوروبا والعالم العربي ثار الناس من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وهذا ما سيحدث في كل مكان من العالم، ودائماً.
ملاحظة أولى: بيد أن المفارقة، وهي من عيار ثقيل، أيضاً، هي وجه الشبه بين أوروبا ما قبل ثورات 1848، والعالم العربي ما قبل ثورات 2011. كيف؟
كانت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر هي الحدث الذي قض مضاجع النخب الحاكمة في أوروبا. المهم أن الثورة مُنيت بالهزيمة. وللقضاء على فلولها وذيولها، الأيديولوجية قبل السياسية، نشأ “حلف مقدس” (بالمناسبة هكذا كانوا يسمونه) بين روسيا والنمسا وبروسيا في العام 1816.
المهم، أيضاً، أن سلاح الحلف المقدّس ضد “الحرية، والإخاء، والمساواة”، الشعار الأممي للثورة الفرنسية، تمثّل في سلاحين هما القومية والدين. وقد ازداد المد الديني في أوروبا ما قبل ثورات العام 1848، وبعدها، بشكل غير مسبوق، وبطريقة تعيد التذكير بما عاشه ويعيشه العالم العربي منذ أواسط سبعينيات القرن العشرين.
كانت نتيجة ذلك المد تهشيم عقلانية وأنوار القرن الثامن عشر. لم تكن في أوروبا القرن التاسع عشر فضائيات يموّلها النفط، بطبيعة الحال، لكن وسائل الإعلام والاتصال المتوفرة في ذلك الزمن، قامت بالدور على أكمل وجه.
والمهم، أيضاً، وأيضاً، أن “الحلف المقدّس” تمكّن من إلحاق الهزيمة بربيع الشعوب الأوروبية. والمفارقة، وهي هامة جداً، أن النخب الأوروبية الحاكمة المنضوية تحت لواء “الحلف المقدس”، الذي توسعت عضويته لتضم النخب الحاكمة في أوروبا كلها، استخدمت ضد الثوار في باريس، وفيينا، وبرلين، وبودابست، وبراغ، الذرائع نفسها، التي تستخدمها قوى الثورة المضادة في العالم العربي هذه الأيام: إما نحن أو الفوضى والطوفان، وإما الشرعية، والدين، والتقاليد، والتراث، والأمة، أو التسيّب، وسيادة الكفر، وفقدان الشرعية، والأصالة، والهوية، والتقاليد.
وهنا، أود الإشارة إلى الماركسي والمناضل الوطني المصري، أديب ديمتري، الذي نشر في العام 1993 كتاباً (طُبعت منه ألف نسخة، فقط لا غير) بعنوان “نفي العقل”، في محاولة منه لموضعة الصهيونية ضمن الأيديولوجيات التي أفرزها المد الديني والقومي في أوروبا القرن التاسع عشر، وألحقت الدمار بأوروبا القرن العشرين في حربين كونيتين، كما ألحقت الدمار بالشعب الفلسطيني. يستحق أديب ديمتري التحية والاحترام.
من السابق لأوانه القول إن ربيع الشعوب العربية مرشح لمصير يشبه مصير ربيع بعيد عاشته الشعوب الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولكن ليس من السابق لأوانه القول إن حلفاً مقدساً يتشكل أمام أعيننا في العالم العربي هذه الأيام.
ملاحظة ثانية: في العاصمة الأسبانية مدريد ساحة عامة اسمها “بوابة الشمس”، “بورتا دل سول”، وهي أكثر ساحات المدينة حركة وازدحاماً. في الخامس عشر من مايو (أيار) احتشد آلاف الشبّان في الساحة احتجاجاً على سياسة الحكومة، أطلقوا على أنفسهم تسمية “شباب 15 أيار” تيمناً بتسميات لتجمعات شبابية مصرية، وأطلقوا على الساحة اسم “ميدان التحرير” تيمناً بميدان التحرير في القاهرة.
قضية الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية واحدة. لا فرق بين شرق وغرب. اليوم يقدم العربُ للعالم نموذجاً يُحتذى. كنّا على مدار عقود طويلة مَرضى، أما العافية ففي “ميدان التحرير”، وفي قوس قزح ترسمه كلمة “الحرية”، التي أصبحنا نعرف اسمها بالكردية، أيضاً، “أزادي”. نور على نور.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
Khaderhas1@hotmail.com