حين شرعت الهيئة الادارية لـ”بوزار” بالبحث عن التوقيت الملائم لإقامة حفل”بوزار” السنوي الخامس، بدا الارتباك المعبر عن الحذر والتحفظ ظاهرا على وجوه اكثرية اعضاء الهيئة. ذلك أنّه كنا قد أصبحنا في النصف الثاني من نيسان وكانت عجلة الناس تدور باتجاه معارك البلديات، التي اصبحت على كل شفة ولسان بعد أنّ اكد وزير الداخلية حتمية إجرائها، خصوصا أنّ المكونات الشمالية عموما، والطرابلسية خصوصاً، بدت متعطشة للمنازلات التي ستستعمل فيها كما سيظهر كافة انواع الأسلحة “ذات الطابع الديمقراطي الملبنَن”، ذلك أنّ المجتمع الطرابلسي كان ممسوسا بمظلومية مثلثة سنية وطرابلسية وعربية مصحوبة بفقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها، فضلا عن سياسة الكيل بمكيالين التي ترفع منسوب المظلومية عموما، ولسان حال المترددين يعبر بصوت خافت عن الخوف من ان يُعرِض كثر من أصدقائنا عن تلبية الدعوة على أساس أنّ “الناس بالناس والقطة بالنفاس”
إلاّ أنّ إصرارنا على إقامة الحفل كان ينبع من أنّه أصبح حدثا شماليا سنويا يساهم في إضاءة الصورة المتنوعة للمدينة وللشمال. فضلا عن أنه يضئ قضايا معينة من خلال تكريم شخصيات بارزة لعبت أدوارا في هذه القضايا، وبالفعل فقد اقامت بوزار حفلها المميز قبل اسبوع من الانتخابات البلدية في الشمال وتحت شعار: “سيبقى الشمال للأمل عنوان”.
وكالعادة فقد جمع الحفل حشدا اكاديميا ومهنيا ونقابيا وبلديا ومدنياً وثقافيا ونسائيا ومناطقيا يتقدمهم ممثلو وزراء ورئيس الغرفة ورئيس بلدية طرابلس وجميع نقباء المهن الحرة ونقيب المعلمين ومسؤولون في تيارات سياسية وفكرية متنوعة وجميع مدراء الفروع الجامعية ومسؤولي ادارات ومؤسسات وجمعيات وبلديات وبنوك ومدارس وخليط من المرشحين حتى ظهر الحفل وكأنه عينة جميلة من العائلة الشمالية بجميع مكوناتها. فتذكرت حينها الصديقة ريجينا قنطرةً حين قالت في معرض ترشحها للانتخابات النيابية في ٢٠٠٩: انا المارونية ابنة الاسواق الطرابلسية أفتخر بجمال النسيج الشمالي الذي إن سحب منه خيط فقد النسيج بريقه.
وربما هذا النسيج الجميل هو ما يحاول هذا الحدث السنوي أن يساهم في ازالة ما علق به من أدران نتيجة الانقسامات المذهبية والفئوية والسياسية والتي وصلت حدود الانشطارات، خصوصا أنّ مناطق الشمال عموما وطرابلس في المقدمة دفعت أثمانا مضاعفة من هذه الانقسامات لقربها من الفوالق الجيوسياسية والتي تفذف حممها النارية في ارجاء المنطقة وخصوصا في سوريا. ما ساعد في تعميق الصورة النمطية للمدينة التي كانت وللمفارقة المؤلمة سباقًة في تنكب شعارات ثورة الارز وخصوصا شعار لبنان اولا، بعد ان فُجر موكب الشهيد الحريري باكثر من طنين من المتفجرات.
طبعا للحفل رسائل اخرى غير رسالة التنوع والتواصل والتعدد بين المكونات الشمالية، وجميعها يندرج في تعزيز هذه العناوين ومنها الرسالة الاكاديمية وخصوصا المدينة الجامعية في “المون ميشال”، وهو الحلم الشمالي الطويل الذي طال انتظاره. ذلك أنّه يشكل هدفا أكاديميا وثقافيا وتوحيديا في آن، خصوصا أنه سيعزز فكرة التواصل والتمدد للمدينة لتحتضن المدينة الجامعية والمجمعات السكنية ولتصبح طرابلس الكبرى وليس طرابلس القلعة، فضلا عن امكانية تواصله مع الأسواق الشمالية عبر مراكز الأبحاث، وخصوصا في موضوع التكنولوجيا الناعمة والأدوية ومستحضرات التجميل والأبحاث الميكروبيولوجية وغير ذلك، ما يعزز أدوار المدينة الإقتصادية والتي يمكن أن تلعب دورا في إعادة إعمار سوريا مستقبلا.
وإذ كرم الحفل نقابيين بارزين هما عصام خليفة وحميد الحكم، فهو أراد توجيه رسالة حول أهميةً العمل النقابي الموحد في مواجهة التشرذم والزبائنية والمحاصصة واستطرادا الفساد في مؤسسات الدولة عموما، وفي الجامعة اللبنانية خصوصا.
في مراجعتي لفيلم الحفل والمقابلات التي أجريت مع كثر ممن حضروه والذين لم يقصروا في التعبير عن أهمية هذا الحفل في تخفيف الصورة النمطية لطرابلس والشمال وفي إبراز ثقافة الأمل بوجه ثقافة البؤس، لفتني بساطة ما قاله المايسترو باركيف قائد كورال الفيحاء:
قال مايسترو الكلام:
“ما أحوجنا الى هذه الجمعة البسيطة والمتنوعة التي تقوم بها”بوزار” كل سنة”،
هي هذه الخلطة التي نمتاز بها وبغناها في هذا البلد وكل نكهاتها ضرورية، كما قالت رجينا،
والناشطة رجينا بالمناسبة ترشحت قبل النيابة لملكة جمال لبنان أمام جورجينا رزق كنّة طرابلس والتي اصبحت ملكة جمال الكون، قبل أن تصبح كنّة فلسطين.
حين شاركت “بوزار” في إحدى مظاهرات الحراك المدني، أصر علي البعض أن أهتف بالمتظاهرين، خصوصا الشماليين، وبما أنني ما أزال احفظ هتافا من مرحلة السبعينيات فقد شرعت به بصوت لا يشبه صوت تلك الفترة، وهو يبدأ “والبيّو يبقى مفلس غير البيّو بالمجلس”
وحين وصلت لجملة “تنحمل ما عاد فينا هيدي دولة جورجينا” استبدلت الجملة الثانية بهيدي دولة مش قلنا.
لم يكن ذلك بسبب جهل الجمور الفتي بجورجينا فقط، وليس لانها كنة طرابلس بالطبع، بل في الحقيقة لأن انتخابها شكل في الواقع إحدى نقاط القوة والتباهي اللبنانية والتي لم نرد، نحن أصحاب السوابق اليسارية، الإعتراف بها آنذاك، ولربما شكل إحتفاؤنا اللاحق بانتخاب ريما فقيه ملكة لجمال الولايات المتحدة نوعا من الإعتذار للملكة جورجينا.
فهل يمكن بعد هذا إلاّ أن نتابع إضاءة الجوانب المميزة من البلد الذي يدفع باللحم الحي ثمن لعنة الموقع وفي مواجهة الأخطار الشديدة التي يتعرض لها والتي بدأت تدق أساساته الجيدة وأركانه الأساسية والتي نسميها أخطارا كيانية! ولا يستهونّ أحد في متفجرة الإفطار التي وضعت للبنان والمهجر فهي ربما تؤدي بمدلولاتها المتعددة ورسائلها الكثيرة ، وخصوصا بمدلوليها الأمني والإقتصادي وسالتها إلى القوة الأعظم، إلى انتقال، ربما يشبه النزوح من لبنان إلى المهجر، في الوقت الئي كنا نأمل بانتقال سياحي ومالي معكوس يعوض للبلد جزءا من خساراتها الكبيرة وخصوصا خساراته الخليجية.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان
رائع ……طرابلس التاريخ الحاضر والمستقبل
جمال الحجر والبشر وعاصمة الوحدة الوطنية والثقافة التعددية.