بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، توقع العديد من المراقبين أن تكون الأحداث مؤشرا على بداية النهاية لظاهرة الإسلامي السياسي. وكان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تبنى استراتيجية جديدة لتغيير المنطقة هدفت إلى مواجهة الأسباب التي بررت وهيأت للاعتداءات، وكان عنوان الاستراتيجة هو “الشرق الأوسط الجديد”، بزعم أنها تهدف إلى ترسيخ التعددية والحوار في العالم العربي واحترام حقوق الإنسان وقبول النظام العالمي الجديد، أو بعبارة أخرى تسعى إلى ترسيخ شرق أوسط خال من الإسلام السياسي العنيف على شاكلة تنظيم القاعدة المتبني للاعتداءات واحتواء صور الإسلام السياسي الأخرى.
وكان من أولويات تلك الاستراتيجية تغيير نظامين معاديين للمصالح الأمريكية العليا بزعم أنهما مساهمان في بروز الإسلام السياسي العنيف الحاض على الكراهية والراعي للإرهاب، وهما النظام العراقي البعثي، ونظام حركة طالبان، اللذان تم خوض حربين مكلفتين ضدهما، حيث كانت الولايات المتحدة ترى في الحربين إيذانا لبدء التغيير، السياسي والاقتصادي والثقافي، الذي يركز أيضا على أهداف أخرى، مثل مواجهة التنظيمات الأصولية الجهادية والأنظمة التي تساندها والفكر الذي يحركها، وصولا إلى تطبيق عملي لاستراتيجية “الشرق الأوسط الجديد”.
وبعيدا عن التفاصيل الفنية المتعلقة بحربي العراق وأفغانستان ومدى نجاحهما، فإن تغيير النظامين في بغداد وكابول فتح شهية السعي لتغيير أنظمة أخرى في المنطقة، لكن التكاليف السياسية والعسكرية والبشرية لأي تغيير جديد أعاقت التنفيذ. غير أن عنوان “الشرق الأوسط الجديد” بات واستمر يمثل الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة سواء كان الجمهوريون في السلطة بالولايات المتحدة أو كان الحكم بيد الديموقراطيين الذين عارضوا الحربين.
وعلى الرغم من أن اعتداءات سبتمبر والأحداث التي لحقت بها كشفت عن قوة مشروع الإسلام السياسي، إلا أن الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة تلك الاعتداءات كشفت عن استمرار الضغوط على هذا النوع من الإسلام على صعد مختلفة بغية إضعاف الجناح المتطرف العنيف فيه.
وعلى الرغم من أن الذي تبنى اعتداءات سبتمبر يمثل أقصى اليمين المتطرف والعنيف في الاسلام السياسي، لكن الأمريكان، بل كل المجتمع الغربي، باتوا على قناعة بأن هذا النوع من الإسلام لا يختلف في أهدافه المعلنة وغير المعلنة مع الوسط الإسلامي ويساره المسمى بالمعتدل، بل يختلف معه في الأسلوب فحسب.
فاليمين الديني الإسلامي عنيف جدا ويحمل أهدافا إبادية إكراهية ويمارس أنشطته دون أي خشية أو خوف، بينما يتعاطى المعتدل مع الواقع ويميل إلى البراغماتية من أجل الوصول الى هدفه الرئيسي، الذي لا يختلف فيه مع الأول المتشدد، وهو تطبيق الشريعة.
لذلك، يسعى أنصار الإسلام السياسي المعتدل للوصول إلى السلطة بصورة قانونية، أو من خلال حركة تغيير مجتمعية، وإذا ما ثبّتوا أقدامهم على كرسي الحكم، تتم إثر ذلك ترتيبات تنفيذ الأهداف “الإبادية”، كإلغاء الآخر المختلف المعادي لحكم الله والمناهض للشريعة، وهذه العملية تتم وفق مفاهيم خاصة تتعلق بالنظرة الدينية الفكرية الماضوية القائمة على قداسة الفكر وإطلاقه.
إن حركة التغيير التي شهدتها تونس ثم مصر هي ثورات على الظلم والاستبداد، وتحولات نحو الحياة الديموقراطية. وقد لعب الإسلام السياسي دورا متفاوتا في كل حركة لدى كل بلد، وساهم بصورة أو بأخرى في إنجاحها، لكن اللافت في الحدثين هو سيطرة الحركة الشبابية غير المنتمية إلى الأجندات الأيديولوجية الدينية والأجندات العلمانية التى عفا عليها الزمن.
إن التغيير في تونس ومصر قادته حركة شبابية جديدة، في تقديري هي حركة ساعية إلى مزيد من الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية إنطلاقا من مفهوم الليبرالية ومنهجها في التغيير وتفسيرها للحريات. وإذا لم يسع أنصار الإسلام السياسي إلى الإندماج بصورة أو بأخرى في ثقافة هذه الحركة من خلال غربلة الأفكار الدينية الدوغمائية الإلغائية الماضوية من أجل التكيف مع الواقع الجديد والتعايش مع الأفكار الجديدة، فإن طوفان الشباب سيهزّهم بما قد يهدد وجودهم السياسي والاجتماعي ويزلزل أفكارهم ويجعلهم غرباء وحيدين بل وشاذين.
ما يدعو إليه مشروع تنظيم القاعدة من إبادة الأعداء وإلغاء المخالفين وتكفيرهم، هو في الواقع مرتبط بنهج الاطلاق والقداسة، كما أن العديد من التنظيمات الإسلامية المسماة بالمعتدلة، كتنظيم حزب الله في لبنان، وتنظيم الاخوان المسلمين في مختلف الدول العربية، لم تمارس إلا عملية إلغاء الآخر المختلف بصور “إبادية” مختلفة في مواقع لم يكن هذا المختلف إلا من بني جلدته في الدين أو في الجنسية.
وإذا توقع البعض أن يكون الإسلام السياسي المتشدد العنيف في نهاياته العمرية كغيره من المدارس الفكرية المتشددة التي رفضها العقل والتاريخ بسبب ممارساتها غير المنطقية وغير الواقعية، فإن الإسلام السياسي المعتدل قد يواجه نفس المصير إذا لم يتلاحق عمره ويعيد غربلة افكاره ويجعلها متناسقة مع تطورات المرحلة وتغيراتها المتسارعة. فالإسلام السياسي المعتدل مرتبط في أهدافه بنهج القداسة والاطلاق أيضا، لكنه يختلف مع شقيقه المتشدد العنيف في الأسلوب فحسب، فإذا لم تتم عملية غربلة أفكاره ونهجه وبرنامجه بسبب ضغوط سيمارسها العالم والنظام الدولي والحكومات المحلية، فسيتم ذلك من قبل الشعوب التي باتت تسير وفق أجندة جديدة ترفض الإجابات الدينية القديمة والمعلبة التي لا تهضم ولا تعي أسئلة الواقع الراهن. ويأتي على رأس عناوين الأجندة الشبابية الجديدة رفض الظلم والاستبداد مهما كان هويتهما وعنوانهما وشكلهما، وأن إدارة تلك الأجندة باتت في أيدي العولمة التكنولوجية بسواعد شبابية يصعب السيطرة عليها، وأصبح سندها هو المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة التي باتت تجد في التحولات الديموقراطية الجديدة أملا لبناء مجتمعات علمانية من نوع جديد قائم على نهج الليبراليبة ومبادئها.
إن الحديث عن ارتباط الاسلام السياسي المعتدل بالديمقراطية والمجتمع المدني هو حديث في غير محله ما لم يسير ذلك بالتساوي مع غربلة الأفكار القديمة المناهضة لليبرالية. فهذا النوع من الإسلام لا يزال غير مبال بالتحولات السياسية والاجتماعية الحديثة التي يعيشها المجتمع الدولي والتي أصابت كبد المجتمعات المحلية أيضا، حيث لم يؤثر ذلك في مفكريه من أجل السعي لغربلة الفكر للحاق بركب التغيير السريع، فهو لا يزال يحمل أجندة خاصة في موضوع الحريات والتعددية واحترام حقوق الإنسان لا تتماشى مع الواقع الجديد ولا يقبلها العصر الحديث، هو يبتعد مسافات طويلة عن الاعتدال واحترام الاختلاف وقبول التعددية في قضايا متعلقة بالتضييق على الحريات الدينية وغير الدينية، هو كذلك يبتعد مسافات شاسعة عن مشروعية حاكمية الشيوعي أو الاشتراكي أو الليبرالي أو القومي، هو لا يعترف بالمرأة الحديثة السياسية وغير السياسية. لذا، لا يمكن وصف موقف الاسلام المعتدل تجاه تلك القضايا إلا بأنه نسخة مخففة من الإسلام المتشدد.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com