أخيراً جاءت الانتفاضة التي طال انتظارها.
جاءت دون إعداد من أحزاب أو هيئات، ودون قيادة من زعيم.
جاءت تلقائية من شباب مصر.
وسيكتب التاريخ أنه في يوم الثلاثاء ٢٥ يناير سنة ٢٠١١ انبثقت الانتفاضة التي وضعت حداً للجمهورية الأولى التي بدأت سنة ١٩٥٢.. وبداية للجمهورية الثانية التي ستبدأ في سنة ٢٠١١.
كانت ثورة ١٩١٩ تلقائية، وكانت هبة أو قومة، أو انتفاضة من فلاحين وعمال انضم إليهم الطلبة، ولم تندلع للقبض على سعد وزملائه، ولكن لأن ذلك كان المناسبة التي فجرت الأصل العميق في نفوسها «الاستقلال التام أو الموت الزؤام».
جاءت الانتفاضة وصدقت كلماتنا العديدة عن التغيير، وأنه آت.. آت.. وأن شعب مصر يصبر طويلاً فإذا غضب فاتقوا غضب الحليم.
وتصور الأمن -لأول وهلة- أنه سيضع حداً بخوذاته ودروعه وهراواته للأعداد التي بدأت تتوافد على ميدان التحرير، ولكن هذه الأعداد زادت وتضاعفت حتى أصبحت سيلاً مثل سيل العرم لا يمكن الوقوف أمامه، وأن أي قوة ستقف سيحتويها ويطويها، وعندئذ انسل هارباً.
وأصبح الشارع كله ملكاً للجموع الثائرين، فلم يحدث ما يخرج عنه الاجتماع المشروع، ولم يُذكر سقوط إلا سقوط النظام.
تملكت الوطنية الخالصة الشباب فارتفع مستوى سلوكه فلم يدمر شيئاً، ولم يؤذ مخلوقاً، ولم يشرك بدعوته شيئاً.
كانت بداية رائعة، لا فضل لأحد فيها إلا للشباب الذين قاموا بها، وسيضيفها التاريخ إلى الأعمال التي بدت صغيرة، ولكنها أدت إلى نتائج فاصلة.
ذلك أن الأمر لم يكن أمر جموع جاوزت عشرات المئات وعشرات الألوف إلى مئات الألوف، مما جعل مهمة الأمن مستحيلة، ولكن أن هذه الجموع أجمعت على مطلب واحد هو إسقاط النظام.
وإسقاط النظام شىء آخر غير تغيير وزارة، أو تحقيق مطلب جزئي، إنه سقوط النظام من رأسه حتى ذيله، بما فى ذلك النظم التي تسيّر الأمور.
ومع أن هذا المطلب كان طموحاً، إلا أنه كان عادلاً، بل إن الجموع لو تنازلت عنه لظلمت المناسبة وفوتت الفرصة.
فالنظام الذى حكم من سنة ١٩٥٢ حتى الآن ارتكب من الفظائع والأخطاء ما يشيب لهوله الولدان، وكان أشدها انحطاطاً وتدنياً هذه السنوات التي نعيشها، والتي ظهر فيها العجز والفساد والهوان كما لم تظهر من قبل.
المطلب عادل.. وقد جاء بصورة «حصرية» من شعب مصر ممثلاً في شبابه الذي يبدأ المستقبل، فلا هو كان سابقاً على وقته ولا متخلفاً عنه.
المشكلة أن تحقيق ذلك سيدفع حماة النظام لكي يستميتوا في الدفاع عنه والحيلولة دون سقوطه، وأن تحقيق ذلك يتطلب مقتضيات وتدابير وخطط لم تكن في ذهن الشباب الذين قاموا بالانتفاضة.
وفي تونس التي سبقتنا وكانت ظروفها متشابهة، فإن المجموعات الثائرة كونت لجاناً وجدت ملاذاً مفتوحاً ودائماً لها في الاتحاد التونسي للشغل، وهذه اللجان هي التي تحول دون تمييع الانتفاضة بإشراك عناصر من النظام ستعمل دون ريب لإفساد الانتفاضة والقضاء عليها.
كما يجب أن نذكر أنه في حالة تونس فإن طاغيتها كان قد فهم أن اللعبة انتهت، وأن المسرح يُسدل أستاره على فصلها الأخير، فأسرع بالفرار فاستراح وأراح وأزاح عن الحركة عدواً لدوداً وخصماً خبيثاً.
هذه الحقائق لم تكن مرتسمة في ذهن الشباب الذين قاموا بالانتفاضة، ومن المحتمل أن يكونوا لو فكروا فيها لفتَّ ذلك في عضدهم، لأن وضع نهاية لنظام فاسد أسهل من وضع بداية لنظام جديد.
مع هذا فالخيار هو إما أن تحقق الأمل الوحيد الذي يستحق العمل وهو إزالة النظام، وإما تمييع الانتفاضة مما يعني نهايتها.
من أجل هذا.. ولأني أعلم أن كل يوم ثمين، ولا أريد أن أؤخر عليكم إطلاعكم على فكرتي عما هو أمامكم، وما يكون عليكم أن تفعلوه.
فسأقدم لكم صورة «كلية» وموجزة عنه:
أولاً: من الخير أن تتوصل الوزارة مع الرئيس مبارك على صيغة يتنحى بها عن الحكم وتضمن له الخروج الآمن، وليتذكر مبارك أن فاروق قبله قد وقع على تنازل نزولاً على إرادة الشعب، وأنه إذا لم يحدث هذا فإن الوزارة لا تضمن ما قد يتعرض له من أخطار، ومن الأفضل له وهو يعلم أنه هو المسؤول شخصياً عن كل الفساد الذى حل بمصر، بل لعله عين نائباً له ليمكن له القيام بهذا الدور وتحقيق الانتقال الآمن.
ثانياً: أن تكون هذه وزارة انتقالية هدفها وضع أسس جديدة، وتهيئة الشعب للعهد الجديد.
ثالثاً: تركز الوزارة الانتقالية أهميتها بالسلطات القضائية باعتبارها أسلم السلطات الثلاث، فتكلف السلطة القضائية باختيار ثلاثين عضواً مشهوراً بالحياد لوضع دستور جديد أفضل من دستور سنة ١٩٧١ المهلهل وعليها أن تستعين بمحاضر لجنة تكوين دستور سنة ١٩٢٣.
وبالنسبة لمواد الحريات فعليها أن تستلهم المواد من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان بعد إضافة مواد تحقق العدالة وتحول دون استغلال الأغنياء للفقراء، كما ينص في مادة أخرى على استلهام مبادئ حرية الفكر والعدل والمساواة والمعرفة باعتبار هذه هي جوهر الأديان.
وتكلف الوزارة الانتقالية السلطة القضائية بوضع تصور عن نظام يكفل تمثيل الأمة تمثيلاً حقيقياً دون أن تقع فى مصيدة الانتخابات الفردية على أساس الدوائر الجغرافية الذى ثبت أنه أسوأ النظم وأنه لا يحقق رسالته، وقد يفيدهم فى هذه الفكرة العامة في الفكر السياسي الإسلامي عن أهل الحل والعقد دون أن يتورطوا في التفاصيل المضحكة في كتب التراث، وهي الفكرة نفسها التي اهتدى إليها النظام الاشتراكي في «السوفييت»، أي المندوبون الذين يمكن التوصل إليهم بحكم صفتهم القيادية في هيئات العمل كالنقابات، وهي تجربة مهما قيل فيها فإنها أفضل من الانتخابات الفردية، بحيث يمكن في النهاية اختيار واحد يمثل موقعاً في الهيئة العامة له، ويبلغ عددهم ثلاثمائة، وتعد هذه الهيئة التأسيسية للشعب.
رابعاً: عندما تتم الهيئة القضائية ذلك يكون على الوزارة الانتقالية دعوة الشعب للنظر في الدستور المقترح وطريقة الانتخاب وقواعده وتحديدها، على أن تمارس السلطة القضائية الإشراف على هذه الإجراءات.
وأخيراً.. أقول: لا تدَعوا الأحزاب تفسد حركتكم وحافظوا على وحدتها، ولا تتركوا الشارع، فلا بد أن يظل في ميدان التحرير بضعة ألوف بصفة دائمة وتوصولوا إلى تسوية مع سلطات البوليس والجيش، على أن هذه المجموعة هي رمزية لإرادة الشعب. وفي المقال القادم إيضاح لتفاصيل الجزء الأخير والمهم من هذه المقالة، فضلاً عن أنه يمكن أن يكون مجالاً للتعليقات والتعقيبات.
gamal_albanna@yahoo.com
* القاهرة
نهاية الجمهورية الأولى (١٩٥٢ – ٢٠١١)
عمو لايوب — blindedpress@blindhotmail.lb
كم اتمنى ان يستطيع الشعب المصري الشقيق والعظيم وصاحب التضحيات التي لا يمحوها التاريخ ان يحقق هدفه بالوصول الى حكم عادل ولكن اين توجد العدالة في زمن يخون فيه الامين ويؤتمن الخائن ووقد مللنا نحن الشعوب العربية من ثورات أزالت طاغية فجيء بأطغى وأزالت ظالما فجيء بأظلم . انا فعلا ارجو من قلبي كل الخير والفلاح للشعب المصري ولكني بحكم تجربتنا لا أثق أن ولاته سيحفظون تضحيات ثورته