هل يمكن الانتصار للعقلانية في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، ومنها في المجتمع الكويتي، دون الدخول في مواجهة واضحة ومكشوفة مع التراث الديني المقدس؟ سؤال يُطرح في خضم السعي الواضح والصريح لكثير من الأفراد والجماعات الثقافية لإحداث تحوّل نحو العقلانية والحداثة.
يعتقد البعض بأنه “لايمكن مطلقاً تفادي الخوض في المعوقات الدينية لأي طرح نقدي في أي نقاش منهجي عقلاني, علميا كان أم ثقافيا أم أدبيا”. ويؤكد هؤلاء “عدم وجود تصور لحالة من النقاش المزعومة دون التوجّه بشكل رئيسي للركائز المنهجيّة فيه، والتي تعنى ببناء القاعدة التي ينطلق منها النقاش”. وبالتالي، حسب أحد الأصدقاء، “أي حوار له علاقة بتطور المفاهيم، لابد أن يصطدم بحوائط النصوص الكنكريتية. وحدث ذلك مع بعض الفلاسفة، وبالأخص مع إمانويل كانط في محاولاته نقد العقل المحض الذي لم يجد بدّا من تشريح الفكر الديني كي يصل للقدرة على نقد العقل، كون الدين عاملا رئيسيا مهما في تشكيله”. ويؤكد هذا الصديق أن “الإنتصار للعقلانية لا يمكن أن يكون إلا بتهميش دور النصوص الدينية القطعية وتقليم مخالب أحكامها التأويليّة, والأهم هو في توطينها من السماء الغيبية إلى الأرض الواقعية التي انبثقت منها”.
كلام الصديق مؤشر على وجود رفض لأي محاولة للحوار والنقاش والمواجهة مع التراث الديني المقدس، كون تلك المحاولة تحتاج إلى أرضية صالحة لإقامتها، وكون النصوص الدينية تمنع أي مقاربة لتأسيس مرحلة العقلانية، ومن ثَمّ فإن الدعوة منصبة في نظره وفي نظر آخرين على تجاهل الواقع الديني.
وفي تقديري، فإن الخلل يكمن في عملية التجاهل تلك. فعلى الرغم من تقليل الكثير من المفكرين والمثففين لفرص نجاح الدخول في مواجهة فكرية عقلية مع التراث الديني المقدس كشرط لانتصار العقلانية، إلا أنهم يجب أن لا يتجاهلوا ضرورة الأخذ بعين الاعتبار عدم نفي موقع الدين في المجتمع وعدم تجاهل تأثير النصوص الدينية على أي عملية تغيير مستقبلية نحو الحداثة.
فهذا البعض يرفض الرؤية الواقعية، أو الرؤية على الأرض، بمعنى أنه يريد أن يبني مستقبلا للعقلانية في مجتمعاتنا استنادا إلى تجاهل دور الدين وتأثيره في تلك العملية، وإنطلاقا من عدم الاعتراف بإمكانية تطور أو تغير الخطاب الديني.
لذا، تُطرح هنا بعض التساؤلات: هل نريد لمجتمعنا الكويتي المتمسك بدينه والمتشبث بعاداته وتقاليده الاجتماعية القائمة في كثير منها على المفاهيم الدينية، أن يتغيّر “تدريجيا” نحو العقلانية والحداثة، أم نريده أن “يقفز” قفزة عملاقة ليصبح “فجأة” مجتمعا عقلانيا شبيها مثلا بالمجتمع السويدي؟ هل يوجد في التاريخ مجتمع استطاع أن “يقفز” قفزات عملاقة نحو العقلانية والحداثة، أم جميع المجتمعات “تدرجت” للوصول إلى هذا الهدف؟ هل يوجد شخص كان معتنقا لفكر خاص، أصولي ديني أو غيره، ثم فجأة تحول “بقفزة عجيبة” إلى الفكر العلماني الحداثي؟ أم أن تغيّره وتحوّله كان تدريجيا، مستندا في ذلك إلى مراحل انتقالية فكرية معينة؟ هل يمكن لمجتمعنا الكويتي أن “يقفز” ليصبح مجتمعا حداثيا علمانيا “فلسفيا” مثل بعض المجتمعات الأوروبية، أم نريده أن يكون علمانيا “سياسيا” إلى جانب محافظته على تديّنه مثل المجتمع الأمريكي؟ بمعنى، أيهما سياسيا واجتماعيا، أفضل وأقرب إلى طبيعة المجتمع الكويتي، النموذج السويدي أم النموذج الأمريكي، أم هناك نماذج أخرى؟ هل التحول نحو العقلانية والحداثة في المجتمعات غير المسلمة وظهور قراءات جديدة حول الدين مما ساعد في ذلك التحول، لن يتحقق بالمطلق مع الدين الإسلامي وفي المجتمعات المسلمة، ومن ضمنها المجتمع الكويتي؟ هل يمكن طرح قراءة جديدة للدين الإسلامي تساهم في تحول المجتمع الكويتي نحو العقلانية والحداثة وتسهّل تلك العملية؟ هل تجاهل الموروث الديني والعمل على نشر العلمانية والتوجه صوب الحداثة الفكرية دون النظر إلى ضرورة وجود قراءة جديدة للدين ودون النظر إلى ضرورة الرد بشكل حداثي على أسئلة المسلمين، هو تصرف عقلاني ومفيد ويساهم في تحول المجتمع الكويتي صوب العقلانية والحداثة؟
إن الأسئلة الفائتة تحملنا مسؤولية التوقف عندها والتمعن بدقة فيها ومعاينتها قبل الإقدام على أي خطوة تغييرية حداثية.. هي تحملنا مسؤولية السعي للإجابة عليها بوضوح انطلاقا من الواقع المعاش واستنادا إلى التجارب الأخرى في هذا المجال، كل ذلك من أجل عدم القفز على الواقع، ولكي لا تتوه أو تفشل أو تتراجع عملية التحوّل نحو العقلانية والحداثة، ولكي لا تضيع الخطوة الأولى. فنحن جميعا مسؤولون، أولا وأخيرا، عن أي ترد ثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي في مجتمعنا، ومسؤولون أيضا عن نزع صفة التوهان عن الحركة الساعية في طريق التحول العقلاني والحداثي. وبما أننا مسؤولون عن هذا التوهان، فإننا أيضا مسؤولون عن إعادة رسم خريطة الطريق الثقافية والفكرية القادرة على التحرك والتقدم والسير نحو مستقبل أكثر واقعية وأكثر إشراقا.
إن العودة إلى الماضي، وإلى التراث الديني المقدس، ليست إلا محاولة لقراءته قراءة جديدة من أجل البناء عليه. بمعنى أن العودة ليست دعوة لإحياء التراث بقدر ما هي سير في طريق غربلة التراث ووضع الأيادي على الجراح الثقافية والاجتماعية والسياسية من أجل معالجتها.
فلا أحد يجادل من أن الكويت كانت قبل عقدين من الزمن أفضل ثقافيا وفكريا، وكان لذلك أسباب عديدة، من ضمنها أن الصحوة الدينية كانت بعيدة عن التدخل المعرقل لتطور الشأن الثقافي والفكري، وأنها كانت تقترب شيئا فشيئا للسيطرة على الشأن السياسي والاجتماعي. وبما أن الصحوة بدأت في شن غزوتها على مختلف صعد الحياة بدءا من ثمانينات القرن الماضي بمباركة ودعم وإشراك من قبل السلطة من إجل تغيير معادلة الحياة، بتنا أمام معادلة جديدة، وأصبحنا أكثر اقتناعا بأن الخطوات التنويرية القديمة لم تكتمل، ولابد من إكمالها، وهذا لا يتحقق إلا بوضع الأصبع على الجرح. فهل يعقل أن تنهار المسيرة التنويرية في فترة ما قبل الثمانينات لمجرد أن التيار الديني دخل على خط المنافسة، أو لأن التنوير فشل في إكمال مسيرته؟
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com