ـ كم كان عمرك عندما حصلتَ على ساعتك؟
لا أتذكر بالضبط، أجاب روباغوف. كان عمري بالتأكيد بين الثامنة أو التاسعة.
أما أنا، قال غلتكن بصوته المناسب، فكان عمري ستة عشر سنة عندما علمتُ أن الساعة الواحدة تنقسم الى ستين دقيقة. في قريتنا، عندما كان على الفلاحين أن يذهبوا إلى المدينة، كانوا يحضرون إلى محطة القطار قبل طلوع الشمس، ينامون في غرفة الانتظار إلى أن يأتي القطار في وقته، أي في الثانية عشر ونصف. أحياناً كان لا يصل إلا مساءً أو في اليوم التالي. هؤلاء الفلاحون هم الذين يعملون الآن في مصانعنا. مثلاً، يوجد في قريتي الآن أكبر مصنع لإنتاج سكك الحديد. في السنة الأولى، كان مراقبو العمال ينامون على الأرض بين كل صبّة وأخرى للحديد. وقد استمروا بذلك حتى اتُخذ قرار بتصفيتهم بالرصاص. في كل البلدان الأخرى كان أمام الفلاحين مئة أو مئتي سنة ليفوزوا بعادة الدقة الصناعية وبمعرفة كيفية معاملة الآلات الصناعية. أما هنا، فلم يحصلوا على أكثر من عشر سنوات. واذا لم نطردهم أو نعدمهم بالرصاص لأي هفوة سخيفة من هفواتهم، فإن البلد كلها سوف تتوقف عن الانتاج، وسوف ينام الفلاحون في ممرات المصانع حتى ينْبت العشب وتعود الأمور على ما كانت عليه سابقاً».
هذا مقتطف من رواية آرتور كوسْتلر، البريطاني من أصل هنغاري، والعضو في الحزب الشيوعي الألماني بين الأعوام 1931 و1938؛ والذي استقال منه على أثر «محاكمات موسكو» (1938-1939) الشهيرة التي حكمت بالموت على عشرات الآلاف من الأعضاء، القاعديين والقياديين، في الحزب الشيوعي السوفياتي، بعد محاكمات صوَرية. سُميت تلك السنوات بـ»سنوات الرعب» الستالينية. عنوان الرواية «ظلام في وضح النهار». صدرت عام 1940. وهي تحكي قصة روباغوف، القيادي في الحزب الشيوعي السوفياتي وأحد مؤسّسيه، والذي شارك العهد الستاليني في تصفية العديد من الرفاق والرفيقات. وها هو بدوره يوضع في زنزانة منفردة، ويُحقَّق معه عن دور وهمي له في مؤامرة لاغتيال القائد رقم واحد، ستالين، (الذي لا يُذكر اسمه أبداً في الرواية)، وذلك تمهيداً لـ»محاكمته» وإعدامه بالرصاص. والبديهي أن «التحقيق» غرضه انتزاع «اعتراف» روباغوف بالتهمة، اعترافاً تفصيلياً، تحت طائلة تعذيب، يعرف هو أكثر من غيره، كم هو بربري. وجلّ ما يتمناه، في محنته هذه، أن لا يتعرض لتعذيب من النوع الذي يفاجئ جسمه، فلا يعرف كيف يتلقّاه.
في المقتطف، يردّ محقّق السجن، غلتكن، على تساؤلات روباغوف، الذي، بتحوله الى ضحية من ضحايا النظام، صار يستحضر الى ذاكرته قصص هؤلاء الضحايا وأهوالها؛ سيما الفلاحين الذين تعرّضوا، بموافقته يوم كان قيادياً طليقاً، الى إعدامات بالرصاص، مهما كانت ضآلة الجنحة التي ارتكبوها.
قرأتُ هذه الرواية منذ 35 سنة، يوم كنت حزبية في منظمة شيوعية. ورغم موهبة صاحبها الفذة، لم يعجبني الكتاب؛ ولا استوقفتني مسألة العنف المرتبط بالثورات ارتباطاً حتمياً. كانت بالنسبة لي رواية رجعية، تهجي التغيرات الجذرية، وترمي الى بث الشك في قلوب الثوريين «الحقيقيين».
وعندما رأيتُ الرواية على رفوف إحدى المكتبات منذ أيام، اشتريتها وقرأتها على الفور: كنتُ أريد أن أقيس مدى التغير الذي طرأ على أفكاري السابقة. ربما يأتي يوم آخر، فأعود واقرأها مرة ثالثة… لا أحد يعلم.
المهم أن هذا المقتطف بالذات استوقفني، وأنا اقرأ الرواية.
البطل روباغوف الذي شارك في بناء الآلة الحزبية، وفي صناعة عهد الرعب الستاليني التالي على مرحلة التأسيس، عندما نالت منه تلك الآلة ورمي في سجن انفرادي بانتظار التحقيق معه ومحاكمته، بدأ يضع نفسه مكان الضحايا السابقين، ومن بينهم سكرتيرته وعشيقته، التي تخلى عنها في لحظة «عقلانية سياسية» عالية، لحظة أولوية مصلحة الحزب على كل شيء، بما فيها طبعاً حياة مقرّبين منه، الرخيصة، إذا ما قيست بالدور العزيز للحزب في اقتحام التاريخ.
وهكذا، شيئاً فشيئاً، أخذ روباغوف يتذكر ضحاياه الآخرين، يحلّل تاريخه، يراجع أفكاره، ومنها اضطهاد الفلاحين على يد الحزب الثوري. وما ردّ غلتكن عليه، سوى القفلة التي ينهي بها المنطق المتماسك للحزب الواحد الثوري المنتصب بوجه التاريخ. والحلقة التي أغلقها غلتكن تفيد بأن السلطة التي تولد في العنف، الثوري خصوصاً، لا تستطيع أن تستمر كسلطة منتصرة من دون عنف. وأنه لا بد أن يكون من بين ضحاياها مؤسسون لهذا الحزب، قياديون مرموقون، استفحل عندهم العقل «الفردي»، الذي أعطوه الأولوية على منطق الحزب السامي، فاستحقوا الإعدام. والتعبيرات الطفيفة لفردية روباغوف، مثل «نقده» الخجول جداً لتجربته الحزبية، كانت كفيلة برميه في السجن الانفرادي تمهيدا لإعدامه.
لكن الأهم في هذا المقتطف هو فكرة الوقت نفسه. ما الذي يعوّض عن ضيق الوقت في المنطق الثوري؟ العنف، القتل: قتل الذين لم يساعدهم تاريخهم القريب على تبنّي عادات لا يتجاوز عمرها العقد، فيما هي تحتاج، لتحيا، الى قرن أو اثنين. وبما أن ليس هناك أوهام حول إمكانية انتهاء العنف في حضارتنا الراهنة، هل نخلص من أن أي ثورة، أو إصلاح جذري، يقومان من أجل الاستلحاق بزمن متقدم على زمنهما، هما عرضة لعنف؟ عنف تزكّيه الشهوات السلطوية ذات الرؤية القصيرة المدى حتماً؟ الشهوات البديهية للذين قاموا بواحدة منهما، أي الثورة أو الإصلاح الجذري؟ وهل حلّ العنفُ مسألة ضيق الوقت؟ أم فاقمها؟
هذا مستوى من النقاش ما زال جارياً، بين استمهال الطاقات، وبين الدعوة الى الإسراع، لأن الوقت يداهم طوال الوقت. والشعور العميق والمقلق بالتأخر، لا تعوّض عنه النزعات الانتصارية التي تصور بأن الذين يسبقوننا في الوقت قد انهاروا تماماً، وسوف تنمحي امبرطوريتهم بين ليلة وضحاها إلخ.
صحيح أن النظام السوفياتي المنهار الآن، والنظام العربي الاستقلالي، المتشبّه به، استطاعا، كل بطريقته الخاصة، تحديد معايير تأخرهما؛ وأن العنف كان النهج الذي حلّ بنظرهما مسألة قلّة الوقت الممنوح للاستلحاق؛ إلا أن النظام العربي الاستقلالي تميز عن مثاله السوفياتي، بقلة المحاكمات وكثرة الاغتيالات السياسية. وعندما قضى التاريخ بفشلهما، وانفتحا على الليبرالية والعولمة، انتهجا الطريقة نفسها بالاستلحاق: العنف. لكنهما توقفا عند هذا المستوى، ولم يعاينا المستوى التحتي، الاجتماعي، الذي أصبح الوقت عنده بمثابة سكين، أو تهديد متواصل بالعنف.
الفرد العربي المعاصر يُسرق وقته في يومياته كما في لحظاته «التاريخية»، البعيدة والقريبة المدى في آن. والأمثلة عن اليوميات وعن التاريخيات لا تُحصى. عنفه هي طريقته في معالجة قلّة وقته. إذ لا مثل فوق رأسه يرشده الى طريق آخر غير العنف. الركض واللهاث لا يقتصران على حركة جسده، بل ينالان من عقله ومخيلته وإحساسه: هذا الفرد هو آلة من انعدام الوقت، وبالتالي، كتلة من العنف اللفظي والفعلي والذهني. وإذا كان النظامان، العربي والسوفياتي، يركضان خلف أهداف قليلة الوضوح، فإن لهاث الجسد والعقل العربيين يتجه دائماً نحو المجهول. حتى دعاة التراث وأعداء الحداثة لاهثون. وإذا كان للنظامين السوفياتي والعربي منطق الدولة القائمة، القوي والصلب، بغية ردع التأخر عبر العنف الشرعي والمنظم، فإن منطق الآلة التي تعجّل من أوقاتنا ليس مدروساً ولا معلوماً، وتدبّ فيه فوضى حياتية عارمة.
نحتاج الى فتح هذه النافذة من التفكير بالوقت الذي ينقصنا: لنهدأ، لنتأمل، لنخطئ، لنتعمق، لنتمهّل… في كل الأشياء المحيطة، وفي الوتيرة التي تعتمدها حيواتنا. وإلا فإن مصيرنا وطريقتنا وهويتنا سوف لن نتخلّص من العنف.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل
العنف طريقة لحلّ معضلة قلّة الوقت
نزار المالكي — nizarmaliki@yahoo.com
كم انتِ على حق يا استاذة دلال. للاسف الشديد، لن نتعلم الدرس الذي تعلمه مواطنو الاتحاد السوفياتي (غير المأسوف عليه بسبب طريقة تطبيق “الديمقراطية الشعبية” الدموية فيه)الا بعد ان ندفع ثمنا غاليا جدا هو حياة الكثيرين من اصحاب النوايا الحسنة والرغبة في خدمة شعوبهم الامر الذي لا يعجب غيرهم خاصة اولئك الطامعين في السلطة. هل سيكون بامكاننا ان نرى “الرئيس السابق” او “الرئيس الاسبق” يعيش بين ظهرانينا كسائر المواطنين ام اننا سنظل تحت حكم ذلك الرئيس الى ان يصبح “المرحوم” او “المغفور له” او ” المخلوع” او “المغدور” او “الهالك”؟