بين فترة وأخرى، لا أنسى على الإطلاق أن أمر على أعداد قديمة من مجلة “الهلال” المصرية كنت قد اقتنيتها في ستينات القرن الماضي. ففي تلك الفترة كنت أقرأ هذه المجلة بشغف شديد وألتهمها كما يقولون من الجلدة إلى الجلدة، لكونها مجلة منوعات وثقافة عامة بامتياز، فيها من السياسة والفكر والأدب والتاريخ والفن. وكانت المجلة بالفعل كما كتب على غلافها: “موسوعة الآداب والفنون الشعبية”.
في الأسبوع الماضي، تناولت صدفة العدد السابع/ الصادر في تموز من عام 1968، وقد استرعى انتباهي غلافه. الغلاف الأول كان تفصيلاً من لوحة للفنان الإيطالي انجولو برونزينو(1502-1572)، تصور قبلة رائعة بين فينوس وكيوبيد. وعلى الغلاف الأخير كامل لوحة الفنان برونزينو ويظهر فيها كيوبيد وفينوس عاريين بكامل تفاصيلهما الإنسانية الجميلة. وطبعا لا يمكن أن يصدِّقَ واحد من الأجيال الجديدة أن مثل هذا المشهد كان يمكن أن ينشر على غلاف مجلة مصرية في تلك الفترة، وخاصة حينما يسمع الآن بعد نصف قرن أن بعض التماميين، وما أكثرهم في هذه الأيام، قد رفع دعوى قضائية يطالب فيها السلطة المصرية بمنع طباعة ونشر الموسوعة العربية الأدبية (ألف ليلة وليلة) بحجة أنها تحوي الكثير من الفحش والقصص والمشاهد المنافية للأخلاق والعادات والتقاليد الإسلامية!!!
لكن ما دفعني أكثر إلى الكتابة عن مجلة (الهلال المصرية) التي أسسها جرجي زيدان عام 1892، مقال في العدد السابع ذاته بعنوان “الدين والفن والجنس” للكاتب محمود الشرقاوي الذي كان أحد كتابها في تلك الفترة. يعلق هذا الكاتب في مقاله على مقالٍ آخر للدكتورة (سهير القلماوي) عن الفن والجنس نشر في العدد الرابع في أبريل من العام ذاته، يشكر الكاتبة على مقالها لكونه موضوعاً يشغل إلى حد كبير أذهان الكتاب بشؤون التربية والشباب في العالم كله.
يقول محمود الشرقاوي: “لقد أحسنت الدكتورة سهير القلماوي حينما استشهدت بسماحة الفكر والحرية في الأداء عند أسلافنا من الفاقهين والعلماء حين كانوا يفرقون بين الدين والفن(والأدب جزء منه). وتستشهد الدكتورة سهير دفاعاً عن هذا الفرق بالناقد وعالم اللغة المشهور (عبد القادر الجرجاني) الذي يقول: ” لو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي النواس من الدواوين… ولكن الأمر متباين والدين بمعزل عن الشعر”. وهذا ما أكده بقوة فيما بعد طه حسين حينما دعا إلى الفصل بين العلم والدين وكذلك بين الدين والأدب.
ثم يقول محمود الشرقاوي: “من يقرأ شعر أبي النواس، ورسالة الجاحظ “المفاخرة بين الجواري والغلمان” يدرك إلى أي مدى كان أجدادنا المسلمون قبل ألف عام أو أكثر، حينما كانوا أصحاء وأقوياء، يؤمنون بكلمة الجرجاني هذه: الدين بمعزل عن الشعراء وأن الشعر لون من ألوان الفن.
وبعد ذلك ينتقل الكاتب ليتكلم على فيلسوف المعرة (أبو العلاء) الذي بلغ في شعره، وخاصة في “لزوم مالا يلزم”، شوطاً بعيداً في شكه وجرأته؛ فيقول: “رغم إمعانه وشططه في الشك نجد الناس والعلماء يحفظون شعره هذا ويتداولونه ويتدارسونه ونجد صاحبه عزيز المكانة بارز الصدارة وافر الحرمة عند أهل عصره”. ويستشهد هنا بما قاله ناصر خسرو الرحالة الفارسي: “كان في المعرة يوم زرتها رجل اسمه ابو العلاء المعري، ومع أنه أعمى فهو سيد مدينته”.ويقال ان المعري لما مات مشت في جنازته جموع غفيرة، وقام على رثائه أربعة وثمانون شاعراً.
وفي الوقت الذي نرى في أيامنا هذه فتاوى غريبة حول إرضاع الكبير، أو حرمان المرأة من النوم قرب الجدار لأنه مذكر، أو اعتبار كامل جسد المرأة من شعر رأسها إلى أصابع قدميها عورة بالتمام والكمال، يكلمنا محمود الشرقاوي في مقاله المنشور في تموز 1968، نقلاً عن منصور رجب أستاذ الأخلاق في كلية أصول الدين الذي سمع بدوره الأستاذ (محمد عمران الزغواني) وهو من كبار جامعة الزيتونة في تونس وهو يلقي محاضرة موضوعها “أدب المسألة الجنسية”. ويقول منصور رجب أن المحاضرة كان يسمعها الرجال والنساء معاً، وأن هذا العالم الكبير في جامعة الزيتونة لم يكن يلامس المسألة الجنسية من أطرافها وإنما يتكلم بكل صراحة في أداب الفراش والخلوة بين الزوجين بكل تفاصيلها…
يبدو من هذا العرض أن أسلافنا كانوا أكثر رحمة وسماحة من علماء وفقهاء هذه الأيام، وأنهم أكثر قدرة على الفصل بين الدين من جهة والأدب والفن والجنس من جهة أخرى. وهذا يدفعني لأن أؤكد مجدداً نقطة منهجية هامة وهي أن السلفية والأصولية مفهومان مفارقان للتمامية. فهنالك أسلاف لا يزال منتوجهم الفكري راهناً، وهنالك أصول قديمة لا تزال واقعية وعقلانية رغم قدمها؛أما التماميون (Integrstes) فهم لا عقلانيون ومتطرفون سواء كانوا يعيشون في الماضي أو معاصرين، و القضية هنا تتعلق بمنهج التماميين القائم على عبادة النص وتقديسه بكامله وتمامه دون زيادة أو نقصان؛ وهم لا يقبلون له نقداً ولا تأويلاً ولا تبديلاً. وفي نظرهم أهم جريمة ارتكبها نصر حامد أبو زيد هي نظرته الجديدة إلى النص المقدس باعتباره نصاً لغويا يمكن إعادة قراءته وتأويله مع تغيرات المكان والزمان. والتهمة التكفيرية ذاتها كانت قد وجهت للمفكر الجزائري محمد أركون الذي رحل منذ يومين، الذي كان يركز دائماً على مشروعية إعادة قراءة النص المقدس ومفاعلته مع الواقع المتغير زماناً ومكاناً.
دمشق في 18/9/2010