كيف تنظر واشنطن إلى مسألة تسليح الجيش اللبناني بعد أحداث “العديسة”؟ النقاش الدائر الآن يعكسه دافيد شينكر، الباحث في “معهد واشنطن”، وكان قد عمل في البنتاغون لسنوات. في ما يلي الحلقة الأولى من دراسة دافيد شينكر.
*
“المرصد السياسي # 1692 هو الأول في سلسلة من جزئين يناقشان المساعدات العسكرية الأمريكية إلى “القوات المسلحة اللبنانية” (“الجيش اللبناني”). هذه المقالة تبحث إطار برنامج المساعدات الأمريكية، في حين سيتناول الجزء الثاني الإتجاه المستقبلي للبرنامج”.
أدى حادث إطلاق النار في 3 آب/أغسطس الحالي الذي ذهب ضحيته ضابط في “جيش الدفاع الإسرائيلي” على يد جندي من “القوات المسلحة اللبنانية” إلى إثارة النقاش حول الفائدة والحكمة من وراء برنامج المساعدات الأمريكية العسكرية إلى لبنان. وعلى الرغم أن مثل هذه المساعدات ليست جديدة، ازداد نطاق البرنامج بصورة كبيرة بعد “ثورة الأرز” (“الثورة”) عام 2005 التي أنهت 30 عاماً من الإحتلال السوري وأوصلت إلى السلطة الحكومة الوحيدة المنتخبة بصورة ديمقراطية والموالية للغرب في العالم العربي. ومع ذلك، عاد النفوذ السوري إلى لبنان في الأشهر الأخيرة، في حين أمن «حزب الله» ما يكفي من السلطة السياسية ليبطل بصورة فعالة ويعيد إلى الوراء الكثير من المكاسب التي حققتها “الثورة”. وحتى قبل وقوع الحادث في 3 آب/أغسطس، دفعت تلك التغييرات إلى قيام رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي النائب هوارد بيرمان (ديمقراطي من ولاية كاليفورنيا)، بتعليق حزمة المساعدات الأمريكية إلى “الجيش اللبناني” لعام 2011.
وتتركز حالياً المناقشات حول التصرف بالمساعدات السنوية البالغ قدرها 100 مليون دولار على علاقة “الجيش اللبناني” مع «حزب الله» وعما إذا كان باستطاعة القوات اللبنانية أن تصبح في وضع – عسكرياً كان أم سياسياً — تكون فيه قادرة في أي وقت، أن تحل محل الميليشيات الشيعية وترسخ سيادة الدولة في جنوب البلاد. لكن الموضوع الغائب إلى حد كبير من هذه المناقشة، هو سياق برنامج “التمويل العسكري الخارجي” الذي تقدمه الولايات المتحدة وأهدافه بعيدة المدى: فلدى واشنطن عقود من الخبرة في تمويل “القوات المسلحة اللبنانية”، بما في ذلك زيادة تلك المساعدة في إحدى المناسبات وتوقفها فجأة بعد ذلك.
الخلفية
أقامت الولايات المتحدة علاقات مع “الجيش اللبناني” بعد وقت قصير من حصول لبنان على استقلالها من فرنسا عام 1946. فبالإضافة إلى قيام واشنطن ببيع معدات إلى القوات الوليدة، قدمت أيضاً ما يقرب من 300 مليون دولار [مساعدات] مالية خلال الفترة 1946-2005، بما في ذلك منح مبلغ يقارب من 16 مليون دولار إلى برنامج “التعليم والتدريب العسكري الدولي” الذي جلب أكثر من 3,000 ضابط إلى الولايات المتحدة لغرض التدريب والدراسة. وخلال تلك الفترة قامت واشنطن مرتين بنشر قوات أمريكية في لبنان — في الأعوام 1958 و 1982 — بناءاً على طلب بيروت للمساعدة على تحسين الإستقرار. وقد أثبت الإنتشار الثاني بأنه كان مكلفاً للغاية، حيث انتهى بانفجار شاحنة ملغمة في عام 1983 أودت بحياة 241 جندياً من “مشاة البحرية الأمريكية”.
وخلال الحرب الأهلية (1975-1990) والإحتلال العسكري السوري (1976-2005)، عانت “القوات المسلحة اللبنانية” فترة طويلة من الإضمحلال. فقد عجّلت الحرب إنحلال جزئي لتلك القوات، وما تبقى منها عانى نقصاً في التمويل والتدريب الكافي، وهبطت منزلته إلى القيام بمهمات غير عسكرية إلى حد كبير. وخلال تلك السنوات المظلمة واصلت واشنطن تمويلها لبرنامج “التعليم والتدريب العسكري الدولي” لـ “الجيش اللبناني” بمعدل 600,000 دولار سنوياً؛ بيد، لم تفعل تلك المساعدات شيئاً يذكر، وإذا كان لها أي تأثير، فهو الحد من شدة التدهور.
الوضع حوالي عام 2005
ليس من المستغرب أنه في الوقت الذي قررت فيه إدارة الرئيس جورج بوش إعادة تنشيط “القوات المسلحة اللبنانية” في عام 2005، كانت تلك القوات ضعيفة وعاجزة عن القيام بأعمالها. وقد تم تخصيص ما يقرب من 80 في المائة من ميزانيتها البالغة 900 مليون دولار لتغطية التكاليف المتكررة، مما لم يترك سوى القليل لشراء [الأسلحة] أو القيام بأعمال التدريب. ونتيجة لذلك، قيل أن التدريب السنوي لجندي واحد من “القوات المسلحة اللبنانية” تضمن إطلاق النار من مشط واحد فقط شمل إفراغ كامل رصاصه. كما أن معدات تلك القوات قد عفا عليها الزمن. ففي عام 2005، على سبيل المثال، كان لدى “الجيش اللبناني” أقل من عشر مروحيات صالحة للخدمة، وشملت طائراته الثابتة الجناح أربع طائرات فقط من نوع “هوكر هنتر البريطانية” من حقبة الخمسينات من القرن الماضي، وهي مجموعة كانت تستعمل في ذلك الوقت من قبل بلد واحد آخر فقط هو زيمبابوي.
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن “الجيش اللبناني” لم يكن يواجه تهديداً وشيكاً بالإنحلال بحلول عام 2005، استمرت القضايا الطائفية [بلا علاج ناجع] (وفي الواقع، لا يزال التكوين الطائفي لوحدات فردية معينة هو موضوع يمر اليوم بعملية تمحيص دقيقة). كما أن التركيبة المضخمة من ضباط “القوات المسلحة اللبنانية” في أعلى الرتب العسكرية قد أحدثت هي الأخرى مشاكل. فمن بين 56,000 رجل من حملة السلاح في لبنان، هناك حالياً 400 ضابط برتبة جنرال؛ وعلى سبيل المقارنة، هناك حوالي 538,000 جندياً فقط في الجيش الأمريكي، ولكن عدد الضباط برتبة جنرال — بغض النظر عن عدد النجوم المتمثلة على أكتافهم — هو 300.
لقد كان بالإمكان رؤية سوء حالة معدات “القوات المسلحة اللبنانية” واستعداداتها بكامل وضعها في عام 2007، عندما واجهت القوات اللبنانية جماعة “فتح الإسلام” في مخيم “نهر البارد”، تلك الجماعة التي تدور في فلك تنظيم «القاعدة». ورداً على قيام المجموعة المتطرفة بإعدام عشرات الجنود، قام “الجيش اللبناني” بنشر أفضل قواته لشن هجوم داخل المخيم. وأظهرت صور من الأيام الأولى للعملية، قيام القوات الخاصة لـ “الجيش اللبناني” بالقتال دون ارتدائهم دروع واقية للجسم أو خوذات، وقيام الجنود باستخدام هواتفهم النقالة الشخصية للإتصالات في ساحة المعركة. وربما الأمر الذي لا يثير الدهشة، هو استنفاذ تلك القوات لمعظم الذخيرة التي كانت في حوزتها في غضون الأسبوع الأول من الحملة. (وقد أعادت الولايات المتحدة تزويد القوات اللبنانية بما احتجته من الأسلحة بحيث مكنها من الإستمرار في الهجوم، بما في ذلك إرسال 40 طائرة نقل من طراز “سي 17” ممتلئة بوفرة من الأسلحة والذخيرة). وعلى الرغم من أن روح العمل الجماعي في صفوف “القوات المسلحة اللبنانية” كانت عالية، إلا أن القتال الذي استغرق أربعة أشهر ألحق بها خسائر فادحة. وفي نهاية العملية، كانت حصيلة الحملة مقتل 222 مسلحاً من جماعة “فتح الاسلام”، لكن وقع أيضاً 163 قتيلاً في صفوف “الجيش اللبناني”.
الماضي كمقدمة؟
منذ “ثورة الأرز”، قدمت واشنطن أكثر من 700 مليون دولار من “التمويل العسكري الخارجي” إلى لبنان. وقد سمحت تلك المساعدات قيام لبنان بشراء البنادق والرصاص والأسلحة المضادة للدبابات المحمولة على الكتف وعربات “همفي” ومعدات قناصة، من بين مختلف أنواع العتاد الأخرى. وحالياً، يبدو أن قرار الكونغرس بتعليق التمويل الذي تقدمه الولايات المتحدة هو قرار مؤقت. ولكن ما الذي سيحدث إذا أنهت واشنطن هذا البرنامج؟
في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، عززت الولايات المتحدة مساعداتها إلى “القوات المسلحة اللبنانية”، حيث بلغت 100 مليون دولار في عام 1983، أي ما يعادل حوالي 212 مليون دولار بالعملة الأمريكية لعام 2009. وكان المقصود من ذلك الإرتفاع في المساعدات الأمريكية هو التعهد بتمويل التوسع الطموح للقوات اللبنانية من 20,000 إلى 60,000 جندي. ولكن لم تؤت تلك الخطط ثمارها. ففي ظل الإحتلال السوري والإسرائيلي، تم تكليف “الجيش اللبناني” بالمهمة الحساسة التي تمثلت بتوفير الأمن الداخلي. ولم يكن من المستغرب، أنه عندما قام الجيش بالرد على هجوم الشيعة في شرق بيروت باستهدافه الضواحي الجنوبية، تضرر الشيعة الذين كانوا يخدمون في “الجيش اللبناني” — والذين يشكلون نحو 60 في المئة من المجندين — وبدأت تلك القوات بالإنحلال.
وفي عام 1984، قدمت الولايات المتحدة 15 مليون دولار فقط كمساعدات عسكرية، ولم تقدم شئ في عام 1985. ما الذي حدث لاستثمارات واشنطن؟ إن أشهر التطورات التي حدثت على أرض الواقع هي قيام اللواء السادس ذات الأغلبية الشيعية في “القوات المسلحة اللبنانية” — المدرب والمجهز من قبل الولايات المتحدة – بالفرار، آخذاً معه قواته وأسلحته وانضم إلى حركة «أمل» و «حزب الله». وفي عام 1987، قيل أن الوحدة التي أُعيد تشكيلها وقعت في النهاية تحت السيطرة التنفيذية لحركة «أمل».
ومن نواح كثيرة، يختلف الوضع اليوم بشكل ملحوظ عما كان عليه في الثمانينات من القرن الماضي — فبالإضافة إلى مهمتها بمكافحة الإرهاب، لا تشارك “القوات المسلحة اللبنانية” بصورة نمطية بالمواضيع الداخلية المتعلقة بالأمن والمحفوفة بالمخاطر، التي يمكن أن تكون حاسمة. ومع ذلك، فكما كان عليه الوضع في الثمانينيات وعلى الرغم من الإنقسامات الطائفية، فإن القضايا المتعلقة بالولاء وتماسك الوحدات لا تزال قائمة، ولا يمكن معالجتها عن طريق التمويل الذي توفره الولايات المتحدة.
الآمال التي تعقدها الولايات المتحدة مقابل رؤية «حزب الله»
لا تزال المساعدات الأمريكية إلى “الجيش اللبناني” هي بمثابة برنامج طموح بعيد المدى، يهدف إلى إعداد الجيش لممارسة السيادة على الأراضي اللبنانية يوماً ما. ومن المفارقات، يشير حادث إطلاق النار على جنود إسرائيليين في وقت سابق من هذا الشهر إلى أن “القوات المسلحة اللبنانية” قد تنظر في النهاية إلى طرح نفسها كقوة على الحدود. وكما ادعى ضباط في “الجيش اللبناني” منذ وقوع الحادث، تلقى “الجنود أوامر واضحة [من القيادة] بإطلاق النار”. وعلى أية حال، على الرغم من أن هذا الخبر ربما يكون أفضل من السيناريو الذي ذُكر في باديء الأمر عن تورط “وحدة مارقة” [من الجيش اللبناني في تلك الحادثة]، إلا أنه لا يثير الطمأنينة.
وعبر مسؤولون في إدارة أوباما عن ثقتهم بعدم استعمال أي معدات زودتها الولايات المتحدة إلى الجيش اللبناني في عملية إطلاق النار. ومع ذلك، وبغض النظر عن مصدر البندقية [التي استعملت في عملية القتل]، فعندما يُنظر إلى الحادث — جنباً إلى جنب مع فن الخطابة الحاد الذي تتبعه قيادة “الجيش اللبناني” بشكل متزايد ضد إسرائيل — يبدو أنه يعكس موقفاً أكثر عدوانية، وهي حالة إضافية أخرى تنسجم مع موقف «حزب الله» وتفضي إلى قيام المزيد من عدم الإستقرار على الحدود. وكما حذر الأمين العام للميليشيا الشيعية السيد حسن نصر الله في كلمة ألقاها بعد وقت قصير من وقوع حادث إطلاق النار، “في أي مكان سيُعتدى فيه على الجيش من قبل العدو الصهيوني ويكون فيه تواجد للمقاومة أو يد المقاومة تصل إليه، فإن المقاومة لن تقف ساكتة ولا صامتة ولا منضبطة”. وفي الواقع، وضع نصر الله رؤية للبنان يتصاهر بموجبها “الجيش اللبناني” مع «حزب الله»، حيث أن “الجيش يحمي المقاومة وللمقاومة شرف أن يحميها الجيش”.
ومن الواضح [أن هذه التطورات] لا تعكس الدينامية والحيوية التي أخذتها إدارة بوش في الإعتبار عندما زادت مساعداتها إلى “الجيش اللبناني”، وشجعت انتشار قواته في جنوب لبنان — التي يسيطر عليها «حزب الله» — بعد حرب عام 2006 مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، من الصعب تصور الظروف التي يقوم بموجبها “الجيش اللبناني” كمؤسسة بإقامة علاقة وثيقة وطويلة الأمد مع الميليشيات الشيعية. وبطبيعة الحال، يوحّد موضوع إسرائيل [الأطراف اللبنانية]، لكن الكثيرين في الجيش (وفي المجتمع اللبناني إلى حد كبير) ينظرون إلى «حزب الله» ويعتبرونه — على قدم المساواة [مع إسرائيل] — منظمة رهيبة وممقوتة، مما يجعل التعاون العملياتي المستمر بينهما اقتراح مثير للجدل — ويمكن أن يكون حاسماً — بالنسبة لـ “القوات المسلحة اللبنانية”.
ومما لا شك فيه أن إدارة أوباما ستبحث في الأشهر المقبلة، عن [إمكانية] قيام علامات عن زيادة التنسيق بين “الجيش اللبناني” و «حزب الله». إن اختبار رئيسي لقيام مثل هذا التعاون قد يأتي، كما هو متوقع على نطاق واسع، إذا قامت المحكمة الدولية التي تحقق في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، بإصدار لوائح اتهام ضد نشطاء بارزين من «حزب الله». إن استعداد “القوات المسلحة اللبنانية” — وبصورة أعم، الحكومة المركزية — على عمل شئ بموجب هذه الإتهامات، واعتقال المطلوبين، ونقلهم إلى الحجز القضائي تحت سلطة المحكمة الدولية، ستكون علامة واضحة عما إذا كانت مؤسسات الدولة قد تحولت إلى ملاحق لـ «حزب الله» أو بقيت مستقلة حقاً.
ديفيد شينكر هو زميل أوفزين ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.