يعتقد المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد أن الآليات التي تحكم مجمل الخطاب الديني هي واحدة سواء عند الخطاب المعتدل أو المتطرف، ويؤكد أن تلك الآليات تتداخل مع المنطلقات الفكرية للخطاب إلى درجة التوحد بحيث يستحيل التفرقة بينهما، وأهم هذه الآليات في نظره هي:
– التوحيد بين الفكر والدين، وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع.
– تفسير الظواهر كلها بردها جميعا إلى مبدأ أو علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية.
– الاعتماد على سلطة “السلف” أو “التراث”، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية، التي هي نصوص ثانوية، إلى نصوص أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل في كثير من الأحوال عن النصوص الأصلية.
– اليقين الذهني والحسم الفكري “القطعي”، ورفض أي خلاف فكري إلا إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول.
– إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل، يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة وعصر الخلافة التركية العثمانية.
إن آلية “التوحيد بين الفكر والدين”، تشير إلى تأكيد الخطاب الديني على عدم التمييز بين نصوص دينية لها مجالاتها الخاصة وأخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، وهو تمييز، حسب أبو زيد، كان موجودا في اللحظات الأولى للتاريخ الإسلامي خلال فترة نزول الوحي وتشكّل النصوص. ويرى أبوزيد أن المسلمين الأوائل كانوا يفرقون بين تصرف للنبي محكوم بالوحي وبين تصرف آخر له محكوم بالخبرة والعقل. ففي المسائل المتعلقة بالخبرة والعقل كان المسلمون في الغالب يختلفون مع النبي ويقترحون أمورا أخرى. ويعتقد أبو زيد أن الخطاب الديني تجاهل تلك الفروق ومد فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات ووحّد بين النصوص وبين فهمه لها، ومن ثم ألغى المسافة المعرفية بين الذات وبين الموضوع، وادعى قدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق والوصول إلى القصد الإلهي، ودخل منطقة “الحديث باسم الله”. فالجميع في الخطاب الديني يتحدثون عن الإسلام دون أي تردد في أنهم يطرحون فهمهم للإسلام أو لنصوصه، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى امتلاك الحقيقة في الخطاب الديني.
إن الإصرار على رفض التعددية في فهم الإسلام، يؤدي إلى نتيجتين وفق ما يرى أبو زيد. الأولى أن للإسلام معنى واحدا ثابتا لا تؤثر فيه حركة التاريخ، ولا يتأثر باختلاف المجتمعات وتعدد الجماعات داخل المحتمع الواحد. والثانية أن هذا المعنى الواحد والثابت يمتلكه جماعة من البشر هم علماء الدين، وهم مبرأون من الأهواء والتحيزات الإنسانية والطبيعية. ومن ثم، يؤدي مثل هذا الإستنتاج بالخطاب الديني إلى إيجاد كهنوت يمثل سلطة ومرجعا أخيرا في شؤون الدين والدنيا ويوظفه على أساس أنه أحد المسلمات التي لا تناقش.
يمكن شرح آلية “رد الظواهر إلى مبدأ واحد” في الخطاب الديني، بالقول بأن الخطاب يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية بردها جميعا إلى ذلك المبدأ الأول. فرغم أن العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أولى، فإن الخطاب الديني يقوم بإحلال الله في الواقع من خلال السلطة الدينية لرجال الدين ويرد إليهم كل ما يقع فيه، وهو ما يؤدي إلى نفي الإنسان والقوانين الطبيعية والاجتماعية التي لا سند لها في سلطة رجال الدين. وهذه الآلية، وفق أبوزيد، من شأنها أن تقود بالضرورة إلى الحاكمية الإلهية في مقابل حاكمية البشر. فبفضلها تبدو أجزاء العالم مشتتة وتبدو الطبيعة مبعثرة إلا من الخيط الذي يشد كل جزء من العالم أو من الطبيعة إلى المبدع الأول. ومثل هذا التصور لا يمكن أن ينتج أي معرفة علمية بالعالم أو بالطبيعة ناهيك بالمجتمع أو بالإنسان. والخطاب الديني يقوم بتوظيف هذه الآلية في هجومه على كثير من اجتهادات العقل الإنساني في محاولته لتفسير الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهمها. ويطرح أبوزيد مثالا على ذلك مفهوم “العلمانية”، إذ يرى أن الخطاب الديني يختزلها في صفة واحدة هي مناهضة الدين.
إن آلية “الاعتماد على سلطة التراث والسلف”، تعني عند أبوزيد تحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى نصوص لا تقبل النقاش، بل أكثر من ذلك، أي التوحيد بين تلك الأقوال وبين الدين في ذاته. والخطاب الديني يتعمد تجاهل ذلك الجانب من التراث الذي يناهض توظيف هذه الآلية ويردها إلى أصحابها، وهو ما يمثل موقفا نفعيا أيديولوجيا للخطاب من التراث. وفي نظر أبوزيد فإن الموقف النفعي من التراث يساعد الخطاب الديني في إهدار البعد التاريخي للنصوص.
أما آلية “اليقين الذهني والحسم الفكري”، فإن أبو زيد يربطها بآلية أخرى هي آلية “التوحيد بين الفكر والدين”، حيث يعتقد أن التلاحم بين الآليتين في الخطاب الديني يقود أصحاب الخطاب إلى المسارعة في تجهيل الخصوم أحيانا وتكفيرهم أحيانا أخرى لأنهم – أي أصحاب الخطاب – لا يتحملون أي خلاف جذري في ظل زعمهم امتلاك الحقيقة الدينية المطلقة. ويطرح أبوزيد مثال “تعريف التطرف”، مؤكدا بأن الخطاب الديني يقول بأنه جهة الاختصاص الوحيدة في التعريف، في حين أنه – أي التطرف – ظاهرة معقدة تحتاج لتعاون مجموعة من المتخصصين في مجالات مختلفة. وبالتالي من الطبيعي خروج آراء متطرفة من الخطاب الديني تجاه قضايا مثل الحجاب وإطلاق اللحية والامتناع عن مصافحة النساء والغناء والرسم والتصوير. فامتلاك الخطاب الديني للحقيقة الدينية ينتج عنه عدم قبوله الخلاف في الرأي إلا في الجزئيات. لذلك، يتسع صدره للتشدد والتطرف، مستندا في ذلك إلى لغة الحسم واليقين والقطع. فوصف الآخرين بالكفر هو من أسس الإيمان عند الخطاب الديني.
يعتقد أبو زيد أن آلية “إهدار البُعد التاريخي” – وهي الآلية الأخيرة في هذا الإطار – توضح وهم التطابق بين الاجتهاد الفكري أو المعنى الإنساني وبين النصوص الأصلية التي تنتمي إلى الماضي. فعلى سبيل المثال، يؤدي التوحيد بين الفكر والدين إلى التوحيد بين الإنساني والإلهي وإضفاء قداسة على الإنساني والزماني، ومن ثم لا يكتفي الخطاب الديني، كما يؤكد أبو زيد، بإهدار البعد التاريخي الذي يفصله عن زمان النص، بل يزعم لنفسه قدرة على الوصول إلى القصد الإلهي، وهو ما ينطبق أيضا على تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وبين مشكلات الماضي وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ويرى أبو زيد أن نتيجة كل ذلك تصب في تعميق اغتراب الإنسان والوقوف جنبا إلى جنب مع التخلف ضد قوى التقدم ومن ثم العيش خارج التاريخ.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com