1-
في وصف كتاب بأنه غير مسبوق مجازفة كبيرة. فالكتب، كما يقول أمبرتو إيكو: كتبٌ تتحدّث عن كتب. ومع ذلك، وبقدر ما يتعلّق الأمر باللغة العربية، فإن كتاب حازم صاغيّة المعنون “مذكرات رندا الترانس” (دار الساقي 2010) غير مسبوق.
للتدليل على صحة هذا الوصف لا يحاج الأمر إلى طول عناء. في الثقافة العربية ثالوث محرّم يتكوّن من الجنس والسياسة والدين. هذا ما ذهب إليه محمد أركون، وما سبقه فيه بوعلي ياسين، الذي كرّس كتابا بعنوان “الثالوث المحرّم” لتحليل أضلاع المثلث المذكور.
للوهلة الأولى يبدو الكلام عن تحريم هذه الأضلاع نوعا من الإفراط في التأويل. فلا شيء، في الواقع، يشغل العرب، ويحضر في عالمهم، ويسكن نشاطهم اليومي، وينغّص سكينتهم، أو يروّح عنهم، أكثر من الكلام عن وفي الجنس والسياسة والدين، وهذا ما يتجلى في ما لا يحصى من الفضائيات، والجرائد، والكتب، والندوات، والأفلام، والأغاني، وغرف الدردشة على الإنترنت..الخ.
بيد أن هذا الحضور الكثيف، وفي النسق الثقافي العربي على وجه التحديد، ينم عن ذعر إزاء المحرّم يستدعي تجديد الرقابة بصفة يومية، ومحاولة ضبطه، وتفريغه من طاقة يُفترض بأنها قادرة على تدمير الفرد والجماعة، وهذا ما لا يتأتى إلا من خلال خطوط حمراء لا يُسمح بتجاوزها. وهذه الخطوط الحمراء هي الحد الفاصل بين المُعلن والمسكوت عنه، بين المُفكّر واللامُفكّر به. لذلك، لا يصعب الاستنتاج بأن في الحضور الكثيف للكلام عن وفي الجنس والسياسة والدين في حياة العرب ما يدل على غياب أشد كثافة.
على خلفية هذا الغياب الكثيف يُوصف كتاب حازم صاغية بأنه غير مسبوق. فقد منح كائنا بشريا، لا يحظى بالاعتراف، حق الكلام. وأنا استخدم في هذا السياق صفة الكائن البشري لأنها تصدق على الذكر والأنثى، ولأن هوية الراوية (الراوي) في الكتاب ملتبسة، بقدر ما يتعلّق الأمر بمفاهيم سائدة في الثقافة العربية، وهذا ما ينعكس على اللغة أيضا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمُعلن والمسكوت عنه.
ماذا نسمي، مثلا، أنثى وُلدت في جسد ذكر؟ الجواب لا يعتمد، هنا، على الخصائص التشريحية، بل على الهوية الجنسية للفرد، لا باعتبارها ما يُبنى على خصائص تشريحية، بل باعتبارها خيارا يُبنى على ميول ومشاعر فردية لا تنسجم، بالضرورة، مع الخصائص التشريحية نفسها.
إلتباس وازدواج الهوية الجنسية قديم قدم الإنسان على الأرض، وكلمة hermaphrodite المُستخدمة في اللغات الأوروبية لوصف شخص تجتمع فيه خصائص الذكورة والأنوثة بالمعنى التشريحي مدينة بوجودها للميثولوجيا الإغريقية، التي أطلقت اسم هيرمفروديتوس على ابن هرمس وأفردويت، وهما اثنان من آلهة الإغريق. وبالمقارنة بين هذا التاريخ السلالي للمفردة في اللغات الأوروبية، ومفردة خنثى العربية، التي لا تؤدي المعنى نفسه، بل ما يقترب منه، نكتشف أن الدلالات الكامنة في الفرق بين المفردتين ليست لغوية في المقام الأوّل، بل تطال المعرفة والفكر والمفاهيم.
واليوم، بمساعدة الطب الحديث، أصبح التباس الهوية الجنسية قابلا للتعريف بمفردات علمية، أعلى من الدلالات الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، التي استمد منها بنو البشر في أزمنة مضت أدوات الحكم على أشخاص لا تنسجم هويتهم الجنسية، بالضرورة، مع السائد والمقبول، والمُتعارف عليه. وبالقدر نفسه أصبح في متناول هؤلاء الأشخاص الاختيار بين هوية وأخرى، بتغيير الجنس عن طريق الجراحة أو العقاقير الطبية، كما أصبح في مقدورهم، في الغرب بشكل خاص، التعايش مع خصوصيتهم في العلن، ومقاومة ما كبّل الخصوصية من ميراث تاريخي ثقيل في كل ثقافات الكون.
وهذا، بدوره، يجد تعبيره في اللغة، أيضا، فلم تعد المفردات التقليدية المُثقلة بذلك الإرث التاريخي الثقيل، وذات الطابع التحقيري، متداولة على نطاق واسع في الغرب، وحلت محلها مفردات جديدة، كما حّذفت من القواميس في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، التعريفات التقليدية لمفردات بعينها، واستعيض عنها بتعريفات جديدة. من المفردات الجديدة، مثلا (intersex/transsexual) ومفردات كثيرة لا يتسع المجال لحصرها، لكنها تدل على طبيعة ما طرأ على علاقة الإنسان بجسده منذ ما يُعرف بالثورة الجنسية في ستينيات القرن الماضي وحتى يوم الناس هذا. وما طرأ، وهنا نعود إلى فكرة الثالوث المحرّم، يعتبر نتاجا لما طرأ من تحوّلات في مفهوم الدولة، والمواطنة، والخصوصية، والهوية، وحقوق الإنسان، علاوة على منجزات الطب والعلوم والمناهج الحديثة، بما فيها علم اللغة.
وبالتوازي مع ما يحدث في الغرب، يعيش العالم العربي حالة تدهور مروّعة في كافة مجالات الحياة، وهي مصحوبة بحداثة مصطنعة تتجلى في استهلاك ما تجود به السوق الغربية من منتجات، وتوظيف بعضها (وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات والإعلام) في التحذير من مخاطر التحلل الأخلاقي والاجتماعي والقيمي في الغرب، وهي في الغالب لا تعني شيئا أبعد من الجنس.
والمفارقة أن الاتهامات الدراجة والرائجة في عالم العرب بشأن تحلل الغرب، وبهيميته، وغُلمته، وعبوديته لجسده، وافتتانه بما حُرّم وشذ من متع الجسد، هي نفسها التي أطلقها الغربيون في القرون الوسطى على عالم العرب والمسلمين.
في تحليل مُدهش وثاقب النظر لاتهامات غرب القرون الوسطى للعرب والمسلمين، يرى خوان غويتسولو أن تلك الاتهامات كانت نتاجا لفتنة سرية مكبوتة، واستيهامات غربية مسيحية غير قائمة بالضرورة في عالم العرب والمسلمين، لكنها تُسقط مكبوتها الذاتي على الآخر العربي والمسلم، الذي تشتهي حياة تشبه حياته، ومتعة تشبه متعته، وتلك الفتنة بالذات، وما تستنفر من مشاعر الذنب والخطيئة والذعر، هي التي تحض على إعلاء قيم الفضيلة الغربية مقابل غُلمة وشهوانية الشرق.
وعلى خلفية ذلك المكبوت، وما ينطوي عليه من فتنة وذعر، كتب غربيو القرون الوسطى عن عالم الشرق السحري، عن الحريم، والحمّام الشرقي، والجواري، الذي كان حاضرا في أذهانهم أكثر مما كان في الواقع. بهذا المعنى، كان الشرق، كما بيّن إدوارد سعيد كينونة مصطنعة.
وبهذا المعنى، أيضا، فإن غرب اليوم، كما يتجلى في خطاب المحذّرين في عالم العرب والمسلمين اليوم من غُلمته وشهوانيته، كينونة مصطنعة. ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من قلب المعادلة: لا يفعل المحذّرون العرب والمسلمون اليوم سوى ما فعله الغربيون في القرون الوسطى، ونتيجة للأسباب نفسها: إسقاط مشاعر مكبوتة على الآخر، تقوى في بلاغتها وعدوانيتها كلما قويت لدى أصحابها مشاعر الغواية والذعر.
2
كانت هذه المقدمة ضرورية، فقط، للتدليل على معنى غير مسبوق، الذي وصفنا به كتاب حازم صاغية. وبالتالي يمكن التقدّم خطوة إضافية، والكلام عن الكتاب نفسه. الكتاب عبارة عن سيرة رندا، التي وُلدت ذكراً باسم فؤاد لعائلة جزائرية عثمانية الأصل، ثم قررت بعد صراع مع الذات والعائلة والمجتمع، الإعلان عن هويتها كأنثى بعدما هربت من الجزائر إلى بيروت، وهي في انتظار إجراء عملية جراحية لاستئصال الأعضاء الذكرية في جسدها، كخطوة أخيرة على طريق التحوّل إلى أنثى.
في كل ما تقدّم الخطوط الرئيسة للسيرة، ولكن السيرة لا تكتمل خارج تفاصيلها الكبيرة والصغيرة، خاصة إذا كانت تعني العبور من هوية جنسية إلى أخرى، وكانت تتموضع في سياق علاقات عائلية واجتماعية، وتقاليد ثقافية، وأعراف ومفاهيم سائدة، ورحلة في النفس طويلة، مضنية، ومؤلمة، ومُكلفة بالمعنى الجسدي والمعنوي، منذ الميل الفطري الأوّل في مرحلة الطفولة المبكّرة، وحتى مجابهة الذات والآخرين في مرحلة لاحقة من العمر.
وهذا ما لا يتجلى بقدر ما يستحق ما لم نضع في الحسبان: أن العائلة الجزائرية، العثمانية الأصل، تنتسب إلى حكّام الجزائر في عهد الاحتلال الفرنسي، وما ينطوي عليه أمر كهذا من رغبة عائلية دفينة وسافرة في الحفاظ على تقاليد بعينها تستمد مبرراتها لا من واقع الحال، بل من ارستقراطية مفترضة تساور أوهامها ما لا يحصى من عائلات قديمة.
وقد كرّس صاغية جزءا لا يُستهان به من السيرة للخلفية العائلية، إذ وضع السيرة في سياقها التاريخي والاجتماعي، وتعزز هذا المنحى من خلال ملاحقة ما آل إليه وضع العائلة بعد الاستقلال: تدهور مكانتها الاجتماعية، ميولها الوطنية، وموقفها من النظام الجديد.
بمعنى آخر تتخلّق السيرة كحدث في الزمان والمكان، فنعثر في السيرة على تاريخ جزائر ما بعد الاستقلال، وما طرأ على المجتمع من تغيّرات اقتصادية وسياسية صاحبتها ونجمت عنها تحوّلات اجتماعية وثقافية وقيمية وصولا إلى زمن الحرب الأهلية.
في ظل تلك التحوّلات عاش فؤاد طفولة في كنف عائلة تعد ابنها لحمل اسم العائلة، وحماية ميراثها الواقعي أو المُتوّهم، لكن امتيازات الذكورة وأولويتها في عائلة ومجتمع يحتفيان بالذكور لم تنسجم مع مشاعر داخلية أدركها في وقت مبكّر، فهو أميل إلى ملابس البنات، والتصرف كبنت، منه إلى الذكورة والذكور، رغم سخرية الأم، وسلوك التلاميذ العدائي في المدرسة، وخيبة أمل الأب.
المهم أن ميول فؤاد العاطفية في فترة المراهقة تتمحور حول الشبّان لا حول البنات، وأن علاقاته الغرامية تأخذ هذا المنحى، بما فيها قصة حبه الكبير، التي حاول في سياقها إقناع شريكه بأنه ليس مثليا بالمعنى الجنسي، بل هو أنثى، وثمة أكثر من فرق بين الحالتين. بيد أن الدلالة المأساوية لمحاولة الإقناع تلك تتجلى في حقيقة أن فؤاد لم يكن مزودج الجنس، رغم ملامحه الخارجية وتصرفاته الأنثوية، بل كان ذكرا بالمعنى التشريحي، وأنثى بالمعنى العاطفي والنفسي.
ثمة تفاصيل ذات دلالة، منها تعرّضه للاغتصاب، والملاحقة من جانب ذكور “طمعوا” فيه، وهي أشياء تحدث لعدد لا يحصى من الإناث، ولا نعرف عنها الكثير. على أية حال، التحق فؤاد بالجيش الجزائري كممرض، في زمن الحرب الأهلية، وفي تلك الفترة شرع في تناول عقاقير تعزز صفاته الأنثوية، لكنه أقلع عن المحاولة بعد تعرّضه للملاحقة، ثم اتجهت حياته، بضغط من العائلة، وجهة راديكالية تماما عندما تزوّج وأنجب بمساعدة العقاقير المنشّطة.
كان فؤاد يتسلل إلى خزانة الزوجة عند غيابها عن البيت، ويرتدي ملابسها، ويستخدم أدوات زينتها. وفي تلك الفترة بدأ عن طريق الإنترنت في الحصول على معلومات عن أشخاص يشبهونه في العالم، فعثر على أشخاص وعلى جمعيات تُعنى بهذا الأمر، ويتبادل أعضاؤها المعلومات والنصائح والأفكار، وفي تلك الفترة، أيضا، عثر على اسم لهويته المُحيّرة (transsexual) والمفردة تفيد بأن الشخص يختار لنفسه هوية غير تلك التي التصقت به بعد الميلاد، وفي السياق نفسه عثر على اسمه الشخصي والأنثوي الجديد: رندا.
الواقع لا يصبح واقعها إلا بقدر ما ننجح في تسميته. لهذا السبب كل الأسماء مشحونة بدلالات يتقاطع فيها السياسي بالثقافي، والفردي بالجمعي، والخاص بالعام. وغالبا ما تكون تلك الدلالات في حالة حرب وحراك، وغالبا ما تظهر على القشرة الخارجية للتسميات آثار ندوب عميقة، أو بقايا أقنعة قديمة.
رندا، التي أصبحت قوية عندما عثرت على اسمها، وعلى معنى ما تكون، قررت الهرب من الجزائر بمساعدة جمعيات وأصدقاء في مناطق مختلفة من العالم، للابتعاد عن خطر يتهدد حياتها من جانب متشددين يرون في وجودها تهديدا للقيم والأخلاق، بعدما انكشف أمرها. وهي تعيش الآن في بيروت، تتلقى مساعدات ضئيلة، وتحلم بجمع ما يكفي من المال لاستئصال أعضاء الذكورة بعملية جراحية باهظة التكاليف.
3-
بلغة صافية، ونثر جميل، دون ثرثرة ولا افتعال، كتب حازم صاغية نصا أدبيا بديعاً لا ينسلخ عن الواقع، ولا يعوزه الخيال. وقد اختار منطقة غير مطروقة، ولا آمنة، فكان على اللغة القبض على الواقع بمفردات، وأخيلة، لا تمكن المشكلة في ندرتها، فهي على قارعة الطريق كما يُقال، بل تكمن في حقيقة أنها تُستخدم ضمن قوالب كتابية وتعبيرية شائعة وثابتة، وضمن علاقات تحظى بالاعتراف، وبالتالي تكتسب إذا خرجت عليها قوّة الصدمة. وهذا ما نجح فيه.
كتب صاغية سيرة رندا بصوت صاحبة السيرة. لم يقدّم للسيرة بمعلومات إضافية عن كيفية الالتقاء بها، مثلا، وعمّا حرّضه على اختيار هذه السيرة دون سواها، وهذا الموضوع دون سواه. وهي أشياء تشكّل، في العادة، عتبة للنص، أو مرجعية للتوثيق. وأفترضُ بأنه فعل ذلك للقول بأن تلك الأسئلة وغيرها تسكن النص نفسه، وتبرر وجودها بما يتجلى فيه لا بما يتصدّره، أو يسبقه من كلام. الألم، واكتشاف الذات، ومغامرة الذهاب إلى ما وراء الآمن والمألوف، والخروج على المُعترف به، كلها أشياء يصعب وصفها من خارجها.
إستراتيجية السرد، هذه، التي تمنح الأولوية والتفويض للنص، تستدعي غياب صوت المؤلف. فالصوت الوحيد المسموع هو صوت السارد، صاحب الحكاية. يفترض قارئ السيرة، في العادة، بأن المؤلف يكتب عن أشياء وقعت بالفعل، وهذا ما يُعرف بالعقد الضمني بين كاتب السيرة والقارئ. بيد أن القارئ يفترض، أيضا، بأن اللغة والمفردات والأخيلة من صنع المؤلف.
وبما أن صاحبة السيرة ليست شخصية عامة، يمكن التدقيق في تفاصيل حياتها استنادا إلى مراجع أخرى، فإن السرد، والتخييل، والمفردات، وتسلسل الأحداث، واصطفاء أحداث بعينها دون غيرها، تظل ملكية حصرية للمؤلف، فليس ثمة ما يثبت بأن صاحبة السيرة “تذكّرت” بهذه اللغة، وبتلك المفردات.
بهذا المعنى يخرج النص على المفهوم التقليدي للسيرة، ويقترب أكثر من جنس الرواية. فلو أطلقنا، مثلا، على “مذكرات رندا الترانس” تسمية رواية فلن تتجنى تسمية كهذه لا على جنس الرواية، ولا على النص نفسه، خاصة وأن جنس الرواية، كما يعرف المختصون في علوم الأدب، لا يتقيّد بأعراف معيّنة، ولا تحكمه ضوابط للقياس، كما هو الشأن في أجناس كتابية أخرى.
وإذا كان ثمة من ضرورة لوضع النص في سياق جنس محدد، فإن “مذكرات رندا ألترانس” تندرج دون كثير عناء في ما يُطلق عليه في اللغة الألمانية (bildungsroman) وهي تسمية شائعة في النقد الأدبي الإنكليزي، أيضا، وتصف النمو النفسي والعاطفي للفاعل الروائي منذ الطفولة وحتى بلوغ سن النضج.
وقد حازت رواية تنتمي إلى الجنس نفسه نُشرت قبل ثماني سنوات بعنوان (Middlesex) لجيفري يوجينيدس، على جائزة “بوليتزر” الأدبية المرموقة، وتصدّرت قائمة أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة. وفيها يختفي، أيضا، صوت المؤلف، فيحضر صوت السارد، صاحب السيرة، الذي يكتب وهو في الحادية والأربعين من العمر كيف عاش أول عقدين في حياته باعتباره أنثى، وكيف عاش مزدوج الهوية بالمعنى الجنسي.
والمفارقة أن السيرة الشخصية في هذا العمل تتجلى، كما في مذكرات رندا الترانس، على خلفية التاريخ العائلي، الذي يحضر هنا من خلال سيرة ثلاثة أجيال في عائلة يونانية، وكذلك تحضر الأحداث السياسية والاجتماعية، والتحوّلات الثقافية، التي عاشها هؤلاء، في محاولة لرصد كيف تطوّرت ظاهرة معروفة في علم الجينات، على مدار عقود طويلة، وعلاقات ملتبسة، وصولا إلى إنجاب طفل مزدوج الجنس.
ثمة الكثير من التجليات الفنية والأدبية لازدواج أو التباس الهوية الجنسية في الغرب منذ ما يُعرف بالثورة الجنسية في الستينيات وحتى يوم الناس هذا. ولا يتسع المجال، هنا، لرصدها، بل للتذكير بحقيقة أن حازم صاغية يبرهن في “مذكرات رندا الترانس” على أن المسكوت عنه يظل مسكوتا عنه طالما لم يتكلّم عنه أحد.
نحن، بدورنا، وعلى الرغم من التابوهات اللغوية والأخلاقية والثقافية، المدعومة بسلطة الأنظمة الدكتاتورية القائمة والمعارضات العائمة على أيديولوجيا النفط، والنائمة على ريش هويات أصلية، يمكن أن نتكلّم عن وفي الجنس، بلغة ومفاهيم جديدة، ونصوص جميلة، لا تخرج على السائد وحسب، بل وتقض سكينته. وهذا بمعنى ما كلام في السياسة، أيضا.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام