وبما أن استجابة (السيد الرئيس) للمطالبة بإحداث التغييرات السياسية الملحة، وتشكيل لجنة للمصالحة الوطنية، قد جاءت متأخرة كثيراً، فقد انفجرت الأوضاع في العاصمة، ولم تنتظر حتى تسمع إعلانه عن تشكيل لجنة للمصالحة، واستعداده للالتزام بجميع قراراتها. وفي اليوم التالي لم يحظَ إعلانه عن استعداده تقديم استقالته، بالتفاتة من قبل جبهات المعارضة المسلحة التي كانت تخوض حرباً ضارية عليه وعلى أسرته وعشيرته، وكانت طلائعها قد وصلت إلى محيط قصر الرئاسة، واقتحمته بعد يومين فقط من إعلانه عن عزمه على الاستقالة، وتكشَّف يومها أنه كان على استعداد أكبر للفرار، وقد فر من قصره في جوف عربة مصفحة في جنح الظلام، مع أفراد حاشيته وأسرته، إلى مسقط رأسه، ثم إلى خارج البلاد، ليقضي آخر أيامه وأعوامه.
وما كان لذلك أن يحدث إلا في بلاد تعرضت فيها السياسة لعملية تجريف واسعة ومريعة، وتحولت فيها الأحزاب والجبهات إلى أقنعة للعصبيات، وصارت الجبهات مرادفة لكلمة القبائل، وسارعت القبائل التي كانت بلا جبهات، إلى إنشاء جبهاتها المسلحة، وصارت كل قبيلة تسمى جبهة: “جبهة التحالف الديمقراطي”، و”جبهة الاتحاد الوطني الديمقراطي”، و”الحركة الديمقراطية”، و”الجبهة المتحدة”، و”الجبهة الوطنية”، و”الاتحاد الوطني الديمقراطي”، وغير ذلك من الجبهات التي كانت قائمة بحق وتتحرك في الميدان، وكان أمرها لا يخفى على بعضها.
وكان معروفاً أن جبهة التحالف الديمقراطي الصومالي، هي جبهة قبيلة عذبورسي، والجبهة الوطنية هي قبيلة مريحان، والحركة الديمقراطية هي قبائل الدغل والمزولة، وجبهة المؤتمر الموحد هي قبائل الهوية وأقاربهم، والحركة الوطنية هي قبائل إسحاق في الشمال الذين صاروا جمهورية صومال لاند، وهو اسم جمهورية الشمال من أيام الاستعمار البريطاني.
وفي حمى التقاتل كانت كل جبهة تنقسم إلى أجنحة، وكل جناح إلى مذبحة، وصارت الجبهات تزيد عن عدد أمراء وجنرالات الحروب، وفي حالات كان الجنرال الواحد يحمل اسم جبهة.
وما كان بمستطاع “العقلاء” الذين وصلوا متأخرين قبل 20 عاماً بالضبط، أن يصلحوا ما أفسد “السيد الانقلاب” وحكم الحزب الواحد، ثم الفرد الواحد المستبد والعائلة والفساد والانسداد السياسي.
ولم ينفع “المانيفيستو” الذي تنادت إلى صياغته 114 شخصية من السياسيين والمهنيين والمثقفين ورجال الأعمال الصوماليين، في 30 مايو 1990، وأوصت فيه الرئيس بالاستقالة وتسليم السلطة إلى لجنة خاصة تقرر أن تتحمل مسؤولية سلامته وسلامة أسرته.
ورد الجنرال محمد سياد بري على “المانيفيستو” بإجراء التفافي مكشوف و”أهبل”، تمثل بتعديل وزاري مع وعد بالتعددية السياسية، وخطاب نوايا بالتحول إلى الديمقراطية، وكان سيف الوقت أسرع، إذ لم ينصرم أكثر من نصف عام إلى مساء 26 يناير 1991، إلا وقد صار في جوف المصفحة المسلحة.
وما كان من الجبهة التي كانت سباقة في الوصول إلى القصر الجمهوري بعد الساعة التاسعة والنصف من مساء 26 يناير، إلا أن تسارع إلى الإعلان عن الرئيس البديل، ما أثار غضب وهياج الجبهات -القبائل- الأخرى، فاشتعلت النيران في ما بين القبائل، ولم تنطفئ حتى الآن.
وانعقدت الكثير من المؤتمرات، وتشكلت الكثير من اللجان في الصومال وخارجه. وشهد هذا البلد الذي تمتد سواحله على مسافة تصل إلى 3300 ميل، 7 رؤساء جمهورية، و11 رئيس وزراء و37 حكومة. ولا يتسع المجال لحصر عدد الأحزاب والجبهات التي كانت قبل الاستقلال شاطحة في التقدمية والأممية والاشتراكية، وجانحة في القومية، وكانت الصحافة المرادفة لها تحمل أسماء “الطليعة” و”نجمة أكتوبر” و”صوت العمال”، إلى أن كان اغتيال الرئيس المنتخب الدكتور عبدالرشيد علي شرماركي، في 15 أكتوبر، وصعود سياد بري إلى سدة الحكم من صهوة دبابة، وإعلان حقبة الحزب الاشتراكي الواحد، ثم الانتقال إلى عهد الدكتاتور الواحد الفاسد وعائلته، وحالة الطوارئ، وما استدعى كل ذلك من نشوء جبهات على تلك الشاكلة التي سبقت الإشارة إليها، ووصولاً إلى طغيان طوفان الدم والصراعات بين الأجنحة القبلية الإسلاموية، وانفساح ساحة الصومال لحركات الجهاد العالمي و”القاعدة” والمقاتلين الأجانب الذين وصل عددهم إلى 3000 أكثرهم من الباكستانيين، وجميعهم تحت قيادة مجاهد باكستاني محترف ومعمد بتوقيع أسامة بن لادن، ليقود حركة شباب المجاهدين.
هكذا يتلوى الصومال على الوتر المشدود من “حزب وحدة شباب الصومال” الذي رفع لواء توحيده مطلع الستينيات، إلى حركة الشباب المجاهدين التي تعمل فيه تقطيعاً وتمزيقاً في هذه الأيام… وما أحوجنا اليوم لأن نقرأ تاريخ هذا الجار الشقيق، وهو “اللاتاريخ” بامتياز، وأن نتعقل هذه الرواية التي تبدو وكأنها ستكون: المستقبل
رواية بحاجة إلى قراءة إجبارية
اين بداية المقال؟؟