دلال البزري
المشاة في بيروت أنواع: الذين لا يملكون سيارة، وأحيانا لا يملكون أجرة السرفيس أو الفان أو الباص، ناهيك عن التاكسي. والذين يملكون سيارة، ولكنهم «يتريّضون»، يمشون أو يركضون أو يهرولون على الكورنيش البحري، القصير، الذي لا يزيد كثيراً عن الكيلومترين. قليلون منهم يحضرون الى هذا «الخط» مشياً من بيوتهم القريبة. وغالبيتهم، الساكنون بعيداً، يأتون بسياراتهم، يوقفونها الى جنب الرصيف، ثم يروحون بالمشي المضبوط. هؤلاء هم مشاة الواجب، يمشون بنصيحة من الطبيب، أو طلباً لخفض وزن. ولا يسرّ المشي المبرمج هذا الا النادرين منهم، من الساعة كذا الى الساعة كيت. تجد من بينهم ايام الآحاد والاجازات، مشاة النزهة المكتفية بالكعكة «العصرونية» أو الذرة المشوية… نظراؤهم من الطبقة الأيسر عثروا على لقيتهم بعد الحرب واعادة البناء: وسط البلد، مساحة محددة ايضا، يرمون عليها، مع أولادهم، ضجر القعود، يبسطون أطرافهم ويفردون أجنحتهم، ويقفلون عائدين الى سياراتهم. مشيهم ايضا مضبوط ومحدّد. مثل مشي هواة الكورنيش.
وهناك من يجدون في المشي لذة، علاقة يومية بفضاء المدينة، بطوبوغرافيتها، طلعاتها ونزلاتها، بزواريبها وعمارها المحموم، بناسها، بوجهتهم ووجوهم وهندامهم ومزاجهم، بالمعاني التي تحاول هذه الوجوه اخفاءها. «كيف أستطيع ان أعيش في مدينة، أن أحبها أو أكرهها، من دون ان أمشي في شوارعها؟ من غير هذا الاحتكاك المباشر واليومي بعناصرها، من بشر وحجر؟»… يتساءلون بلا كللْ، متنهدين، متجاوزين السماجة العمرانية للمدينة: «ياجمالك يا بيروت!» بالرغم من كل شيء. هذه الفئة من المشاة تمشي في أي وقت، وأينما كان. تحسب ان المشي حالة طبيعية من حالات الانسان. تتساوى بطبيعتها بالنوم والقعود. متعة طبيعية لا مجرد واجب صحي او جمالي او ترفيهي، شبه مبرمج، محدود الوقت والمساحة.
ولكن طلب المتعة وحده لا يكفي ليستمر المشّاء على طبائعه. فالمتعة يسهل ارتطامها، وبسرعة، بامتناع شوارع بيروت على المشي. الشغف بالمشي هو الذي يضمن للمشّاء الابقاء على رغبته. الشغف يجعله مستعدا لتجاوز كل «العوائق»، يجعله دؤوباً، صابراً، جلوداً.
فعلى المشّاء ان يهّيء نفسه في كل مرة لمجابهة المشهد الذي ينتظره في الشارع: السيارات. سيارات فحسب. سيارات متوقفة على صف واحد أو اثنين وقريبا ثلاثة. لا ضرر صحياً من هذه الكومة من السيارات، فقط ضرر بصري: مع المباني المحيطة بها مشهد من الكتل المعدنية الباطونية. «ما علينا… بسيطة…» يقول المشاء في سريرته. لكن غير البسيط هو السموم التي تبثّها هذه السيارات عندما تتنقل. سائقوها يعرفون ما تنفثه مركبتهم، وهم يؤثرون السلامة باغلاق نوافذها ويختبئون خلف زجاجها، حتى في الخريف او الربيع، حيث يحلو الهواء ورائحته. كم من المشاة قد يصيبهم المرض الخبيث؟ يتفرّس المشاء في الوجوه التي قد ينال منها يوماً ثاني اوكسيد الكاربون. ولكنه يستمر بالمشي. فالمشي له أولوية على الصحة. أو بالاحرى يحفظ الصحة. يتفاءل المشاء، تهويناً للذة يريد لها الدوام.
المشكلة الحقيقية، العملية، الأكثر الحاحاً من «المناخ» والانبعاثات، يطرحها المشاء على نفسه في كل دقيقة: أين يمشي؟ على ماذا يمشي؟ يفترض به، لأنه في مدينة، والمدن عمران وشوارع وأرصفة… ان يمشي على رصيف. ولكن أين الرصيف؟
الرصيف «الرسمي»، أي الرصيف بمعنى الكلمة، يتأكل تدريجياً. ليس معروفاً متى بدأت الجهات «المعنية» بتكسير أرصفة بعينها في شوارع بيروت، ثم تزفيتها، لتتحول الى طرقات تعبرها السيارات أو تتوقف فوقها أمام متجر «قوي». فقد تمشي على رصيف بعرض متر، لتعود فلا تجد منه أكثر من 20 سنتمترا. الرصيف يضيق مع الايام…
هجوم الاسفلت عليه لا يكفي، يليه هجوم المحلات التجارية الملاصقة له. وبدعة البدع، سمّتها العبقرية اللبنانية الـvalet parking ؛ وهي عبارة عن استيلاء أنيق على الرصيف وبتعريفة مرتفعة، من قبل مطاعم ومقاه وصيدليات ومكتبات، لكل واحدة منها «الفالي باركنغ» الخاص بها، أو بالأحرى الخاصة بزبائنها. تأتي السيارة الى واحدة من هذه المحلات، فيأخذها من صاحبها «الفالي باركنغ»، ليرتب صفتها على الرصيف المحاذي، وأحيانا الرصيف البعيد، بحسب «الضغط». ويسمونها «باب رزق»: «هل تريد ان تمنع وقف السيارات على الرصيف وتسدّ باب رزقنا؟» يجيبك من تسأله…
هناك محلات أخرى لا تحتاج الى الرصيف من اجل صفة زبائنها. بل لتعرض عليه بضاعتها: سيارات… أيضا، دراجات، هوائية ونارية. وعرض السيارات على الرصيف للبيع يشير الى المستقبل القريب للرصيف؛ المزيد من تضاؤله.
وهناك من لا يُبقي على أي أثر لرصيف. مثل محطات البنزين، التي تزفّت رصيفها وتضمّه الى محطتها. واذا بقي شيء من رصيف في واجهتها خصوصا، فتنصب عليه جوائزها واعلاناتها ومسابقاتها. وزارات بعينها لم تخرج عن هذه «القاعدة»: كسرت رصيفها وحولته الى اسفلت يستقبل سيارات موظفيها الكبار. بقي قادة الدراجات النارية الذين يعاملون الرصيف كما يعاملون الاسفلت… يتسللون اليه فارين او لاحقين من غير نظر ولا قواعد. وأبطال حوادث التحرّش الفظّ على الرصيف هم قادة هذه الدراجات…
ما تبقى مما يُمشى عليه، هل يمكن تسميته بالرصيف؟ انه عبارة عن منحنيات ومطبّات وانحدارات وطبقات عالية ومنخفضة وحفر وبالوعات ومرتفعات وانزلاقات وتلال من رمل وبحص وبقايا ورش عمار أو بقايا أعمال صيانة… فلا يبقى أمام المشاء في هذه الحالة الا المشي على الاسفلت. حيث تهون الحياة احيانا والكرامة غالبا. فسائقو السيارات، «عفاريت الاسفلت»، المستعجلون والمتوترون دائما وابدا، لا يعترفون لا بشرطي ولا باشارة سير، ويرون في المشاء العقبة الاولى امام تقدمهم، بعد السائقين المنافسين لهم في ركضهم. يعبرون عن ضيقهم بالمشاء، بالالفاظ، بالتشفيط، بالنظرات… كأن المشي نوع من انواع الانحطاط الطبقي. والمشاء مواطن من الدرجة الثانية.
تعثّرتُ يوماً وأنا أمشي على الاسفلت في احد شوارع بيروت. ولشدة السقطة، اعتقدتُ حينها انني سقطتُ في حفرة ضخمة. وبعدما شفيتُ، ذهبتُ الى المكان فلم أجد سوى تعرّج بسيط، انحناءتين لا تُحسبان ضمن قائمة المهاوير المألوفة للاسفلت. «هذه المليميترات القليلة… هي التي طحنت كوعي؟« كلا. بل انني كنت أمشي فوق واحد من الارصفة الضيقة، وعندما كاد هذا الرصيف ان يختفي، قررت «النزول» الى الاسفلت؛ قدرت ارتفاع الرصيف عن الاسفلت بنفس الارتفاعات «الستاندارت» الاخرى. ولكنه كان أكثر، لسبب من الأسباب…
عدتُ وتعثّرتُ ثانية وثالثة، وكل مرة يكون للرصيف شأن في ذلك. وعندما يسألني الطبيب والاصدقاء «لماذا تقعين؟»، اود ان أجيب مرة واحدة: لأنني أمشي في بيروت. هل حاولتم المشي؟ المشي الحق أقصد؟ امشوا، وسوف تلاحظون نسبة المشائين الذين يربطون أذرعهم بالجفصين…
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية