السليمانية.. مدينة الحب والجمال والثقافة والمصايف، تقع في شمال العراق، وهي احدى المحافظات التي تكون اقليم كردستان العراق، كانت عاصمة لامارة بابان تبعد عن بغداد شمالاً بنحو (330)كم، وتضم عدة اقضية، اهمها: قضاء بنجوين، الذي يعتبر منفذا الى ايران، وقضاء حلبجة، وقضاء جمجمال، كما انشئ في خمسينيات القرن الماضي، فيها، سدان كبيران،هما سد دوكان، وسد دربنديخان.
تمتاز المدينة بنكهة ثقافية متميزة فيلفت انتباهك فيها الكم الهائل من المكتبات والكتب المفروشة على أرصفة الطرقات ليلتهمها القراء من أهل المدينة الذين يمتازون عن أقرانهم الكرد في المدن العراقية الأخرى ببعد ثقافي ذو نكهة يسارية بقالب كردي منفتح على كافة الاتجاهات القومية والطائفية، الحيوية العالية للمدينة و اصرار أهلها على بلورة واقعهم البائس وتطويره رمى بهم الى قلب المعمعة السياسية على المستويين الكردستاني والوطني وشكلوا حالة تغييرية على كل المستويات وصولا الى خلق حالة اعتراضية داخل المجتمع الكردستاني احتجاجا على حالات الفساد المستشرية في صفوف الحكومة والحزبين الحاكمين الديمقراطي والاتحاد الوطني، مما شكل ضغطا ايجابيا على قيادتيهما ودفعتهما للكلام عن الاصلاح و التغيير ودفعتهما التي الاعترف بتلك التجاوزات ضمنيا، هذه الحيوية والقدرة على التغيير تفرض على الأحزاب الكردستانية تحمل مسؤوليتها امام جماهير تلك المدينة الجميلة ذات القلب النابض، حتى لا نصيبهم بخيبة أمل. الموضوع الطاغي على الساحتين الكردستانية والعراقية هو تشكيل الحكومة العراقية ونوع الخيارات والقرارات التي ستفضي الى تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، والزاوية التي سيقف فيها الأكراد وسط معادلات الحكومة الجديدة في ضوء تعقيد المشهد السياسي العراقي ما بعد الانتخابات، ونتائج الحراك الكردي – الكردي لاسـتعادة الـخـطاب المـوحـد، في هذا السياق نسجل مجموعة من الأحداث لنعلق عليها،
• قيادة رئيس الاقليم مسعود البرزاني لمفاوضات مع كل الكتل الكردية الفائزة بالانتخابات لتوحيد موقفها من المفاوضات مع الحكومة العراقية القادمة بموضوع الخلافات الكردية و حكومة المركز العراقية حول كركوك والنفط ومستقبل البشمركة والدخول الى البرلمان بكتلة كردستانية واحدة متراصة.
• التوافق الضمني على توحيد الموقف الكردي باتجاه بغداد والسماح بالتمايزات على الساحة الكردستانية.
• تأييد كافة المكونات الكردستانية على ترشيح مام جلال لفترة رئاسية ثانية وتميز عنها حركة التغيير باعطاء موافقة مشروطة برفع الحيف و الظلم الذي لحق بمؤيديها من قبل الاتحاد الوطني نتيجة تصويتهم لها.
المنطقة برمّتها مقبلة على التغيير، من فلسطين الى السودان ولا شك في أن المستفيد الأول من هذه التغيرات هو شعوب المنطقة، رغم ما يشاع عن تدخلات أجنبية تارة عسكرية وتارة تحت مسميات الديمقراطية وحقوق الانسان، ولكن على تلك الشعوب المساهمة بفعالية بذلك التغيير وتثبيت دورهم في تلك العملية التغييرية. بالنسبة إلى مستقبل الشعب الكردي فلا شك في أنه اجتاز سنوات القهر والإبادة وينتظره مستقبل زاهر إذا أحسن العمل وإذا استغل الفرصة المواتية له اليوم جيدا وإذا تجاوب مع المتغيرات الجارية،
ومن الواضح أن قبول التحالف الكردستاني الدخول الحكومة العراقية المزمع تشكيلها مرهون بمدى استجابة السلطات العراقية للمطالب الكردية. أما في حال عدم الاستجابة لهذه المطالب سيضطر التحالف الكردستاني الى الانسحاب من عملية تشكيل الحكومة ومن مجمل العملية السياسية الجارية في العراق، هنا تكمن ضرورة عدم وجود خرق للصف الكردي بأي جحوش جديدة (وهي تسمية كانت تطلق على الأكراد المتعاونين مع حكم صدام حسين ضد الثورة الكردية في حينه). ان ما يسعى الكرد إليه هو دولة عراقية موحدة غير مهددة بالتفتت وبالانفصال وهذا يستدعي ان تتمتع كل مكونات الشعب العراقي بكافة حقوقها المشروعة، كما أنه هناك مسؤولية تاريخية لكرد العراق اتجاه الأطراف الكردستانية الأخرى وذلك من حيث العمل على تقديم نموذج وصيغة تساعد على حل القضية الكردية في الدول الأخرى حيث ينظر ثلاثون مليون كردي الى تلك التجربة الصاعدة ليبنوا عليها مستقبل علاقاتهم بحكوماتهم من المؤكد أن السياسة الكردية العراقية هي فعلا المحور الذي يطالب ويلح اكثر من طرف على الاستفاضة في شرحه وكشف مكامنه واعادة غربلة تفاصيله، من منطلق ان الموقف الكردي يجسد النقلة الاكثر تأثيرا في لوحة شطرنج العراق والدول المحيطة به، والبيدق الذي تراهن اكثر من جهة على ان حركته هي التي تقرر الحسم والفصل فيما يخص التغيير في العراق والمنطقة. لم تعزف القيادة السياسة الكردية يوما على وتر الطلاق مع العرب ولم تسعى الى تقسيم العراق، بل بالعكس فان الاكراد منهمكون، وخاصة بعد انبثاق ادارتهم الاقليمية، في بناء جسور التواصل السياسي والثقافي مع المحيط العربي، رغم كل الآراء والافكار البعيدة عن الواقع والغارقة في الاوهام التي تطلق احيانا كثيرة من حناجر اعلامية عربية عديدة تجاه حقيقة التجربة الكردية في العراق، الا انه يبدو أن الحل الفيدرالي هو أكثر الحلول واقعية لتثبيت التمايز ضمن الوحدة.
أمام هذا الواقع تقع على حركة التغيير التي فرضت نفسها كشريك مواز للحزبين التاريخيين (الديمقراطي والاتحاد) مسؤولية تاريخية اتجاه كرد الداخل العراقي والخارج وهذه المسؤولية تفرض عليهم بعض التنازلات الآنية على المستوى الشخصي لمصلحة الكرد وكردستان، كوادر وقيادات التغيير ليست بعيدة عن هذا التفكير فزعيمها نيشروان مصطفى يساري ماوي بقي على تواضعه رغم كل الانتصارات التي حققها و لم تأخذه بهرجة السلطة والقيادة، بيته المتواضع محجة للمثقفين الكرد وابناء القرى وفلاحيها لأخذ المشورة والاستماع لرأيه، الا أن التسويات والتنازلات يجب أن تكون من كافة الأطراف وليس من طرف واحد وذلك يتطلب العديد من الخطوات كالتالي :
• استمرار رئيس الاقليم بلعب دور الراعي لكافة أبناء الاقليم بكافة توجهاتها و مشاربها.
• السماح بحرية العمل السياسي و الاعتراض الديمقراطي بكافة المدن الكردستانية و عدم اقتصار ذلك على مدينة السليمانية وذلك دون المساس بالأمن القومي الكردستاني.
• القبول بنتائج الانتخابات والاعتراف بحجم القوى الجديد وتشكيل حكومة وطنية تترجم تلك الأحجام وتراعي مصالح الكرد دون التمييز فيما بين انتمائهم السياسي والقبلي.
• توحيد الكتل الكردستانية المنتخبة في الانتخابات البرلمانية العراقية في كتلة واحدة تتساوى فيها الكتل من حيث الحقوق والواجبات وتقديم تنازلات متبادلة لتظهير موقف موحد من القضايا الكردستانية باطار الدولة العراقية.
مما لا شك فيه أن مام جلال بشخصيته المنفتحة ساهم بشكل أو بآخر ببلورة ذلك التمايز والقدرة على التعبير والتغيير لدى أهل مدينته السليمانية، وينظر الكرد في كافة أنحاء المعمورة اليه بفخركأول رئيس جمهورية كردي يحكم العراق ويسجل له مبادرته التاريخية باتجاه الحزب الديمقراطي لوقف الصراع الذي كان محتدا بينهما للمشاركة في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية آنذاك العام 2002 بجهود كردية موحدة للعمل على اسقاط نظام صدام حسين، وتثبيت حقوق الكرد، لذلك كله ينتظر منه انضاج مبادرة تؤسس لوحدة الموقف الكردستاني اتجاه قضاياهم المحقة و تسهيل عملية الاندماج الطوعي فيما بين الكتل الكردستانية عبر الغاء القرارات الحيفية بحق أنصار التغيير و التأسيس لحوار جامع فيما بين الاتحاد و التغيير خاصة و انهم ينحدرون من خلفية فكرية واحده.
لا فرصة أمام الأكراد باستعادة كركوك وتحقيق المطالب الكردستانية الا في حال تجاوز الخلافات الكردية ـ الكردية، وصل التنافس بين المجموعتين الكرديتين وزعيميهما (الاتحاد و الديمقراطي) خلال العشرين عاما الماضية الى قمته في الصراع المسلح الذي اندلع في مناطق الحكم الذاتي الكردية عام 1994 وأودى بحياة آلاف الاشخاص خلال السنوات الاربع التالية. وفي اغسطس (آب) عام 1996 دعا بارزاني قوات نظام صدام حسين لدخول المناطق الكردية مجددا، ودخلت بالفعل قوات عراقية يقدر عددها بحوالي 30 الف شخص لدعم حزب بارزاني. أسفر القتال عن تقسيم المنطقة الكردية الى قسم غربي عاصمته اربيل يسيطر عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني وآخر شرقي يسيطر عليه الاتحاد الوطني الكردستاني مركزه السليمانية. شكل الحزبان ادارات مدنية موازية وحكومتين لكل منهما رئيس، كاد هذا الصراع يسقط التجربة الكردستانية و تلحقها بتجربة سقوط ثورة الملا مصطفى البرزاني على أثر اتفاقية الجزائر، الا أن الرغبة الأميركية في اسقاط صدام حسين حتمت جمع الأطراف العراقية المعارضة ومنها الأكراد، الصدفة والرغبة الأميركية ووجود البشمركة في الأرض الكردستانية أسست للفيدرالية العراقية، استمرارها رهن بوحدة الأكراد فهل تستجيب القوى الكردستانية وتوحد جهودها أم تفرط بفرصة نحتاج الى قرن جديد من النضال والتهجير والتشرد لتتبلور؟
mammassoud@yahoo.com
كاتب لبناني