فيما يدور التناظر، في شأن إلغاء الطائفية السياسية، على النصوص والنفوس وأيهما يسبق الآخر، يخطر لي أن أتساءل عما أراده المشترع: هل وضع النص في مواجهة النفس يناصبها الخصومة والمشاكسة أم العكس هو الصحيح؟ أم أن أحدهما، في بال المشترع، يكمل الآخر، فتبدأ المعالجة، إذا صَدَق العزم، في آن واحد؟
أحسب أن المشترع سواء في دستور 1943 وروحه الميثاق الوطني، أم في دستور 1990 وروحه وثيقة الوفاق الوطني – الطائف، كان ينظر إلى الطائفية على أنها مرض يمكن الشفاء منه، فأمل بأن تكون حالة موقتة، يشفى منها الجسم اللبناني ويتعافى بزوالها.
وماذا يعني الشفاء من مرض الطائفية في ذهن المشترع وهو يضع إلغاء الطائفية السياسية في طليعة الأهداف المتوخاة؟ ترسيخ النظام الطائفي أو الانتقال إلى المذهبية أي تفشي المرض أكثر فأكثر في الجسم؟ أم الانتقال ولو خطوة في الاتجاه المعاكس، أي في اتجاه المجتمع المدني العلماني الديموقراطي؟
ويخطر لي أن أستمر في التساؤل: ماذا يريد طارحو إلغاء الطائفية السياسية اليوم: من رئيس مجلس النواب، بصفته رئيساً لمجلس النواب، أو قائداً لحركة “أمل”؟ إلى “حزب الله”، إلى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى(•) أي القيادة التي تملك السلطة السياسية والعسكرية والدينية للطائفة الشيعية اللبنانية؟
هل تريد هذه القيادة من طرحها أن تذهب بالمجتمع اللبناني ونظام الحكم فيه من الطائفية إلى المذهبية (أي الانتقال إلى حكم الأكثرية العددية السافر، بدلاً من السيطرة المقنَّعة من خلال تفسير غير برلماني ديموقراطي لمفهوم التوافق في السلطة بعد أحداث 7 أيار 2008، وهو القاعدة التي رست عليها حكومة “الوفاق” الوطني الحالية؟ أم تريد من طرحها أن تتقدم نحو بناء المجتمع المدني العلماني وتطوير نظام الحكم فيه في هذا الاتجاه؟
طبعاً، من السذاجة أن ننتظر جواباً عن هذه التساؤلات، فـ”المكتوب يقرأ من عنوانه” كما يقال، والعنوان واضح حتى يكاد “المريب … ينطق”.
صحيح أن هذه القيادة كانت وحدها القوة الوازنة الطارحة والمدافعة بحماسة عن إلغاء الطائفية السياسية. لكنها ليست وحدها في السياسة اللبنانية “المريب” الذي يقول “خذوني”، فأطراف النظام جميعها بكل دياناتها وطوائفها تتشارك في المسؤولية – على قدم المساواة ويدها وعقلها – عما بلغه مجتمعنا من تردٍ طائفي ومذهبي لا مثيل له في تاريخنا القصير والمتواضع منذ الاستقلال. ولعل هذه إحدى المرات النادرة التي يبلغ فيها مجتمعنا هذا الحد من صفاء الانقسام ووضوحه: السنّة تكتلوا حول شعار: “لبنان أولاً” لأنه سبيلهم للمحافظة على “السنة أولاً”. والشيعة يتكتلون حول سلاح يظنون أنه قادر على فرض “الشيعة أولاً”. والمسيحيون منقسمون بين زعامتين تحت شعار “لبنان أولاً” الذي يضمر شعار: “المسيحيون أولاً” على أساس أن هذا الشعار وحده “قد” يحمي القلة من المسيحيين الباقية في المنطقة العربية بعد أن طغى في مجتمعاتها إسلاميون متطرفون يمارسون في أكثر من بلد عربي وإسلامي رفض العيش مع “الآخر” حتى لو كان هذا الآخر عربياً من دين غير دينهم. وإذا كان رؤساء السلطات بمن يمثلون – حكام لبنان اليوم بنسب متفاوتة – يريدون حقاً وفعلاً إلغاء الطائفية السياسية كخطوة أولى نحو المجتمع العلماني فإن بإمكانهم التوجه لإلغاء الطائفية السياسية، بعد تحقيق الإصلاحات التالية:
1) إحياء المؤسسات الإصلاحية التي أسسها الرئيس الراحل فؤاد شهاب وإعادة تفعيلها.
2) إعادة مشروع قانون الانتخاب الذي أعدته لجنة فؤاد بطرس إلى طاولة البحث الجاد في مجلس النواب.
3) احترام المطالب المسيحية المشروعة والمبررة (بسبب الإرهاب المنظم تحت شعارات إسلامية) وأولها تجنيس المغتربين وتثبيت المناصفة حتى قيام الدولة العلمانية. لا أعرف ضمانة أكيدة لهذا “التثبيت” فإذا كان بالإمكان المحافظة على المناصفة اليوم، فمن يضمن ذلك غداً وسط الطغيان العددي للأكثرية الإسلامية المتضاعف بلا ضوابط ولا حدود؟
4) تكليف لجنة، تتمتع بالعلم والصدقية، بإعداد قانون أحزاب تُحَل بموجبه أحزاب الطائفة الواحدة والمذهب الواحد الحالية، بحيث يتواطأ تقسيم الدوائر في قانون الانتخاب الجديد مع قانون الأحزاب العصري على فرض تأليف أحزاب مختلطة.
5) وضع شعار اللامركزية الإدارية و”الإنماء المتوازن” موضع التنفيذ الفعلي وعدم الاكتفاء بتعليقهما زينة على صدر الحكومات المتعاقبة.
6) تشكيل لجنة من تربويين موثوقين وذوي خبرة، لإعداد برامج “تربية مدنية” لجميع الصفوف من الروضة إلى الثانوية العامة، تكون مادة إلزامية بأهمية اللغات والرياضيات والعلوم في الامتحانات الرسمية. وعلى الصعيد الاجتماعي إقامة دورات تدريب خاصة، يُختار من خريجيها لجان أحياء لإشاعة ثقافة التسامح والتعاضد والسعي إلى تجسيد مصالح الناس في هذا النهج. وإدخال مواضيع التربية المدنية، بتنوعها، في البرامج السنوية للنوادي الثقافية والاجتماعية.
7) إلغاء جميع القوانين والأنظمة التي تعوِّق مشاركة المرأة بصورة كاملة وفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية… الخ.
عند إقرار كل هذه الإصلاحات، وترسيخها في الممارسة لفترة لا تقل عن خمس سنوات، يصار إلى تشكيل لجنة إلغاء الطائفية من أشخاص مشهود لهم بالعلم والوطنية والاستقلال الفكري النظري والعملي (وخصوصاً من البعيدين، التزاماً باقتناعاتهم الفكرية، عن بلاطات أرباب الزبائنية والزعامات الطائفية) لإعداد خطة متدرجة لعشرين سنة مثلاً تبدأ – إضافة إلى الإصلاحات أعلاه – بالزواج المدني الاختياري وتنتهي بالعلمنة الكاملة.
هذا هو المجتمع الذي تريد الأجيال اللبنانية الشابة أن تعيش فيه، حيث تكون السياسة والتشريع والتربية وسواها من شؤون المجتمع شغل الناس، وتكون العبادة مسألة بين المواطن وربه بالطريقة التي يريد دون إكراه أو تبشير أو ترغيب أو ترهيب.
ترتبط عملية التطوير الملحة للمجتمع اللبناني ارتباطاً صريحاً بمحنة المسيحيين في الشرق العربي والإسلامي. ولو صدقنا القول لقلنا إنها محنة الأكثرية الإسلامية في هذه المنطقة وأن المسيحيين (والأكراد، والبربر وغيرهم من أقليات دينية أو اثنية في البلاد العربية والإسلامية، بل وحتى الأقليات الشيعية في بلدان ذات أكثرية سنية، والأقليات السنية في بلدان ذات أكثرية شيعية) هم أول ضحاياها، وليس المسلمون العلمانيون آخرهم.
لو كنت مسيحياً لبنانياً يراقب ما يجري حوله من تطرف إسلامي يخترق مجتمعات بلداننا ويمارس رفض “الآخر” بأبشع أساليب الرفض، (يبلغ إحدى ذراه حالياً في العراق) لقلقت. وأنا المسلم العلماني قلق على مستقبلي ومستقبل أولادي في هذه البلاد.
فإلى أية هاوية تقذف بنا “البنلادنية” وإخوانها وأخواتها من التنظيمات السنيّة، والجمهوريات الإسلامية القائمة بـ”الفعل” أو بـ”القوة” وهي تجتاح مصائر الناس وتقودهم رغماً عنهم إلى “الجنة” بالسلاسل؟ فليس “المجتمع الإسلامي” هو الذي تتطلع إليه الأجيال اللبنانية والعربية الصاعدة والذي يمثل المستقبل العربي، إذا أراد العرب أن يدركوا التطور العالمي لا أن يسيروا عكس التطور (De-développement)، كما يفعلون اليوم في كل دولهم ومجتمعاتهم. ولطالما كان المجتمع اللبناني ونظام الحكم فيه – لا كما هو اليوم بل بما يملك فعلاً من إمكانات على صعيد الحرية والديموقراطية والثقافة، والفكر والعلم – حلماً لبنانياً، وعربياً في آن واحد. ولطالما نظر شبان العرب ومثقفوهم إلى لبنان كرائد ومثال لما يرغبون أن تكون عليه مجتمعاتهم. لكن الحلم لا يزال حلماً بعيد المنال. فمنذ انتهاء سلطة الوصاية وعودة الحكم إلى أيدي اللبنانيين، برزت عوامل تعود بهم إلى أجواء حرب أهلية باردة مقنَّعة، فالطائفة الثالثة (بعد السنّة والمسيحيين في الحرب الأهلية 1975- 1999 – من المارونية السياسية إلى السنيّة السياسية) تريد أن تخوض تجربتها دون النظر إلى الدرس الأول للحرب السابقة: إن طائفة واحدة لا تستطيع أن تحكم وحدها، مهما سما هدفها، وأن تحتفظ، في الوقت نفسه، بلبنان الواحد المتعدد والمتنوع.
إن حكم الطوائف قد بلغ نهايته، ويتحدد مستقبل لبنان اليوم، ضمن البدائل التالية: العلمنة الكاملة، الفيديرالية، الانفصال وهذا يعني نهاية الصيغة اللبنانية، ونشوء كيان مسيحي على أنقاضها يشبه إسرائيل، وتلتحق بقية القبائل الإسلامية بسوريا.
ولو أمعن المسلمون، لبنانيين وعرباً، النظر في حقائق مصالحهم ومستقبلهم، لأدركوا أن المسيحيين العرب والشرقيين هم حاجة عربية وإسلامية، وأن المساعدة على إنجاح “التجربة اللبنانية” هي مصلحة عربية وإسلامية للدفع في اتجاه النهوض والتقدم، وأن التعددية في لبنان هي نعمة يجدر المحافظة عليها وحمايتها، لأن المجتمع اللبناني الحر والديموقراطي والمختبر الثقافي والعلمي، هو مستقبل العرب، ومعينهم على تجاوز معوقات التخلف.
وإذا سقط المسلمون اللبنانيون والعرب في امتحان الاعتراف بـ “الآخر” العربي والشرقي مثلهم، والعيش معه في مجتمع واحد على قدم المساواة الكاملة، فبأي اختبار سيثبتون أهليتهم لاستحقاق العيش في هذا العالم الذي مضى بعيداً جداً عما نتخبط في تحقيقه دون نجاح، والذي يحقق في اليوم الواحد من معجزات التطور العلمي ما يوازي أو يفوق عشرات السنين السالفة.
أما المسلمون اللبنانيون جميعاً فقد آن لهم أن يدركوا أن وطنهم الصغير إذا أتيح له أن يقوم فعلاً، هو رافعة للعرب وليس عبئاً عليهم. وأن لبنان الحرية والعدالة والمساواة والثقافة والديموقراطية والعلمنة والانفتاح هو تماماً العروبة كما ينبغي أن تكون، وهو القادر على مجابهة إسرائيل الصهيونية العنصرية وهو السلاح الأمضى في الحرب القومية المصيرية مع هذا العدو.
إن قَدَر المسلمين اللبنانيين أن يندمجوا مع إخوتهم المسيحيين اللبنانيين لبناء “الحلم” اللبناني الرائد والصعب وليؤسسوا معاً ويحملوا عالياً مفهوماً متطوراً حضارياً وثقافياً للعروبة، يكون امتداداً للنهضويين أمثال ابن رشد، وابن خلدون، والمعتزلة، وطه حسين، وقسطنطين زريق، وللتنويريين الإسلاميين أمثال الكواكبي وعبد الرازق ومحمد عبدو وغيرهم.
(•) “… وحينما طالبنا بإلغاء الطائفية السياسية اهتزت الموازين وتحركت النعرات الطائفية…” الشيخ عبد الأمير قبلان في رسالة عيد الأضحى إلى اللبنانيين (الصحف 27/11/2009) وكان الرئيس بري هو الذي طرح الموضوع، فهل تبناه سماحته ليقضي على نعرات الطائفية السياسية أم خطوة شجاعة في اتجاه إلغاء الطائفية بكل أبعادها؟
(كاتب)