للمشهد العراقي صورتان؛ الصورة الاولى تظهرخلال مرحلة ما قبل عام2003 والصورة الثانية تـُظهر واقع العراق بعد عام 2003. فالصورة التي تلت حرب العراق واستبدال نظامه تمثّل واقعاً مريراً مرّ به الشعب العراقي وما زال، من الناحية الاجتماعية والسياسية. فالمرحلة الدموية وانعدام الامن ونهب ثرواته والمساعي الحثيثة للقضاء على حضارته وما يتمتع به من تاريخ طويل لعبه في حياة الامم من قبل البعض. بالاضافة الى ذلك الاصطفاف الطائفي الذي شهده العراق وتشحيذ رماح الطائفيين نحوالعلمانيين والاتهامات المتتالية لهم بحملهم أجندة غربية معادية للإسلام. رغم كل هذا وذاك يظلّ المخاض العسير يواجهه العلمانية في العراق، ورغم ذلك إستطاعت أن تواجه وتتحدى وتخرج بتكتيكات والى حد ما باستراتيجية موفقة لإدارة الازمة العراقية، وعملت على لملمت أوراقها من أجل خوض الانتخابات العراقية القادمة بنجاح. ولكن تظل الاشكاليات على حالها نحاول دراستها في هذا المقال بشكل موجز.
هل يعني فوز العلمانية مكافحة للطائفية؟
مما لا شك فيه أنّ القوى التي تحمل لواء الدين خدمة لأهدافها السياسية وتوصف بـ”الطائفية” تحمل في طياتها أجندة خارجية تغلغلت الى العراق مباشرة بعد الاحتلال وإستطاعت أن تثير وتستغل مشاعر السواد الاكبر من العراقيين وخاصة القوى التي تحمل لواء الشيعة. لكن، وبعد مرور الاعوام الخمسة، إستطاع الشعب العراقي أن يقف على نوايا هذه الجهات الطائفية ويكشف قناعها. ومن هذا المنطلق، أصبحت القوى السياسية الدينية في موقف متخبّط لا تُحسَد عليه. فالإشكالية التي تمر بها هذه القوى إضافة الى الإنكفاء والقوقعة الطائفية ـ وهذه نقطة تستطيع أن تستثمرها القوى العلمانية العراقية لصالح الحركة العلمانية العراقية برمّتها ـ ضد القوى الطائفية و أصبحت تتشبث بالوطنية من ناحية وبالطائفية في وقت أخر مما يجعلها عرضة للإنقضاض العلماني بسبب عدم وجود برنامج محدد للجهات الطائفية وتعثّرها بين الوطنية والقومية من جهة والمذهب والدين من جهة أخرى. فالثورة العلمانية العراقية يجب أن تكلل بالنجاح لأن نكستها سوف لا ينحصر ضررها بالعراق وحده بل سيتجاوز الحدود العراقية وسيصيب الاحباط جميع العلمانيين في الشرق الاوسط، وعلى رأسهم علمانيوا إيران. وإن فوز العلمانية سيكون مقدمة للإنقضاض على الطائفية المقيتة التي عانت منها شعوب المنطقة والشعب العراقي على وجه التحديد.
العراق بين صراع الأيدلوجيات
تعدّ المواجهات الجارية بين القوى الطائفية والقوى العلمانية في العراق في السباق نحو البرلمان نقطة بداية المواجهة والتحدي الذي يواجهها وسيظل يواجهها العراق كعيّنة لما يدور من صراع مرير بين هذه الايديولوجيات في الشرق الاوسط برمّته. ففي الوقت الذي تحاول فيه المرجعية الشيعية التقليدية أن تكون صاحبة مبادرة وهي تشهد إنقساماً على نفسها بين الشيعة العرب والشيعة غير العرب- وينقسم أيضاً كل من الشيعة العرب وغير العرب الى تيارات مختلفة ومتصارعة في بعض الاحيان (الشيعة العرب بين تيارين، شيعة قوميين وعلمانيين من ناحية وشيعة تقليديين. والشيعة غير العرب بين شيعة علمانيين وديمقراطيين وشيعة موالين لولاية الفقيه) تسعى القوى العلمانية في وحدة شكلية بين القوميين الشيعة والقوميين السنة والعلمانيين الشيعة والعلمانيين السنة. وهذه الحالة من الانقسامات تطفو على السطح في العراق. وهذا البلد يشهد إنتخابات برلمانية حاسمة تحدد مسار الحكومة: هل سيتغلب العلمانيون أم الطائفيون؟
إذاً، ماهو دور الحركة العلمانية في العراق؟ هل، كما يرى المراقب، أن تحركات علمانيي العراق والمنطقة عموماً تأتي على استحياء واحيانا اخرى لا تأتي متناسقة مع الحدث الدراماتيكي الذي تمر به المنطقة من ظروف مستعصية؟ وهل أنهم ليسوا بقدر المسؤوليات و كما يتساءل البعض؟ فما سر ضعف الحركة العلمانية في العراق ومنطقة الشرق الاوسط؟!
إنّ من المؤكد ان علمانيي المنطقة عموماً يختلفون عن بقية علمانيي العالم. وما ذلك الا بسبب الجذور الدينية للعوائل التي يتحدر منها هؤلاء وعدم إلمامهم الكامل بالحركة العلمانية وأيضاً خوفهم من مواجهة المجتمع المتشدد، أي خوفهم من التكفير الذي تمارسه المؤسسات الدينية المسيطرة على واقع الشعوب في المنطقة، وعدم إيمانهم الكامل وجديتهم ومتابعتهم الناجعة في هذا الاطار. الرابح الاكبر بصراع الايديولوجيات في الوقت الراهن أصحاب النظرة الدينية، ولكن الغد سيكون مشرقاً للحركات العلمانية في المستقبل المنظور إذا ما تركت هذه الحركات التراكمات الماضية وجابهت الطائفية بجرأة كما عليها مجابهة الشوفينية المتحدرة في مجتمعاتنا.
إشكالية الخطاب العلماني الشرق أوسطي وضرورة عقلنته
بادئ ذي بدء، لا يمكن الفصل بين العلمانية العراقية عن نظيراتها في الدول الشرق أوسطية الاخرى ومن بينها إيران. فإذا أخذنا بعين الاعتبار ما نقله علماء الاجتماع العرب في مجال العلمانية حيث يؤكد و يكرر إبراهيم غليون في أكثر من موضع من كتابه (المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات) كون العلمانية إشكالية مصطنعة وهي منقولة عن عقل مرفوض. أمَّا د. محمد عابد الجابري فيدخل الى هذا المفهوم من بوابتهِ العتيقة المنسوبة في الإنجيل للسيد المسيح (مالله لله وما لقيصر لقيصر) ليبني عليها كون العلمانية جزءا من تشكيل حضاري غربي يعني (فصل الكنيسة عن الدولة) ولهذا فهي مفهومٌ غريبٌ عن الإسلام لأنه ليسَ كنيسة لكي نفصلهُ عن الدولة. وهنا ثمة إشكالية في نظرة الجابري للتاريخ وعلاقته بالواقع لأنَّ تسليمَه بمقولةِ فصلِ الكنيسة عن الدولة يعني إفتراضه الضمني تواشجَ نصوصِ الإنجيل وواقعَ الحياة المسيحية. وكذا يدعو الجابري الى ضرورة إستبعاد مصطلح العلمانية من قاموس الفكر العربي لأنَّه لا يعبِّرعن الحاجات العربية الموضوعية وتعويضه بالديمقراطية والعقلانية لأنهما تعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي. فإن الفارق بين هذا الفكر وذاك يجب أن لايعيق تقدم العلمانية الى الامام رغم إختلافها وإخلاف التفسير والقراءة الموجودة حيالها.
لكن مهما يكن فإنّ العلمانية العربية التي واجهت المد العروبي بتشكيلته السابقة، والدين السياسي بمن يمثل التيار الديني في الشرق الاوسط من أنظمة أو حركات، لابد أن يأخذ بعين الاعتبار إنتهاج عقلانية عدم معاداة الاثنين وعدم الدخول في حرب مفتوحة قد يخسرها المد العلماني بسبب عدم تركيز أسسه والتريث الى أن تسنح الفرصة لكي يقوم بخطاب لا يستعدي ولا يواجه تلك الأطر التي أصّلت حركتها في وجدان الشعوب في فترة معينة سبقت بها الحركة العلمانية شئنا أو ابينا. وإنّ خطاب العلمانية يجب أن يتمحور حول فصل الدين عن السياسة وعدم معاداة الدين وتغيير مسار اللعبة مع الاسلاميين وعدم إثارتهم خلال خطاب إستعلائي مستورد. فالافضل لملمة الاوراق ونقد الذات والتعرف على الاشكاليات الحقيقية التي تعتري طريق العلمانية وتقف وراء عدم تنميتها في منطقتنا ليس فقط في العراق بل بناء جسور بين العلمانية برمتها في الشرق الاوسط والظهور بخطاب جديد يجد له قبولاً واسعاً بين أوساط الشعوب الشرق الاوسطية برمتها.
مامدى نجاح التجربة العلمانية العراقية في الانتخابات القادمة ؟
لنلق نظرة على ماتعانيه الحركة العلمانية العراقية في الوقت الراهن إضافة الى الاقصاء والتهميش الذي إنتهجته لجنة العدالة والمساءلة والاحرى تسميتها لجنة الاقصاء والتهميش الطائفي والتي يترأسها الجلبي الذي لم يحصل على مقعد واحد في الانتخابات البرلمانية السابقة فمن أعطاه الحق في إقصاء الاخرين ؟ ومن سمح له بلعب دور هام جداً كهذا وهو ينفّذ أجنده إقليمية بالضرورة وليست وطنية . وإذا نظرنا الى دور الاقصاء والتهميش الحالي في العراق فإننا نتذكر ما يحدث في إيران من تهميش وإقصاء وإستبعاد من قبل مجلس صيانة الدستور ولجنته التي تعمل لإبعاد كل شخص لا يوافق الاطر الحاكمة في إيران. وهكذا نتعرف بسلاسة بما يجري في العراق والفارق المسميات فقط.
وهذه عينات لما تتعرض له الحركة العلمانية العراقية من عنف حسبما نقله “ميدل ايست اونلاين” قبيل الانتخابات البرلمانية العراقية لإعاقة إكتساحها للمقاعد البرلمانية:
ـ تفجيرات بالقنابل تستهدف مقار أحزاب علمانية عراقية
ثمانية جرحى بهجمات على مكاتب انتخابية.
ـ قنبلة ثانية تستهدفت المكتب الانتخابي للنائب مثال الالوسي، واوقعت جريحين.
ـ اما القنبلة الثالثة فاستهدفت مكتب تجمع الوحدة الوطنية الذي يترأسه نهرو عبد الكريم وجرح جراءها شخص احد.
ـ وانفجرت القنبلة الرابعة في مكتب “حزب العلماء والمثقفين” في حي المنصور، واوقعت جريحين.
ـ ولم تسفر القنبلة الخامسة التي استهدفت مكتب حزب الشعب العراقي عن وقوع اصابات.
رغم كل ذلك فإنّ أفاق نجاح الحركة العلمانية في العراق والشرق الاوسط تلوح في الأفق رغم جميع التحديات والاخفاقات التي منيت بها. وهذا النجاح سيبدا من العراق، وحتى إذا فشل فإن هذا المشروع العلماني سوف يولد من رحمه مشروع أخر يأخذ بزمام المبادرة.
falahiya25@yahoo.com
* طهران