كثيرا ما يركّز الخطاب العربي المعاصر على التحولات الطارئة في المجتمعات العربية التي تسود فيها الأغلبيّة المسلمة، ويتغاضى عمّا يجري من تغييرات في حياة الأقليّة المسلمة التي تعيش في بلدان غربية. ولعلّ ما يفسّر تهميش الحديث عن الحركات الفكرية الإسلامية الناشئة في أندونيسيا أو ماليزيا أو كندا أو أمريكا….. هيمنة تمركز الذات العربية المسلمة على نفسها، واعتقادها الجازم بأنّها الناطقة الرسميّة باسم المسلمين، والممثّلة لقضاياهم في حين يستبعد الآخر-الجواني/الداخلي ويقذف به في دائرة التغييب. فلا غرابة أن يشعر الجيل الأول والثاني من المهاجرين أنّهم مهمشون ثقافياً، وأن ترتفع الأصوات داخل أندونيسيا مثلا، وهي أكبر الدول الإسلامية، مندّدة بالتهميش الذي يمارسه المسلمون العرب.
إنّ المتابع لما يجري هنا وهناك ينتبه إلى الحراك الفكري والاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية في صفوف المسلمين سواء أكانوا من أصول عربية أو إفريقية أو غيرها. ولعلّ من أهمّ هذه الحركات اللافتة للنظر حركة ‘النسويّة الإسلاميّة’أو ‘الإسلام النسوي’، أو “الأنثوية الإسلامية” إلى غير ذلك من المصطلحات المتداولة في الخطاب العربي مقابل islamic Feminism) )،وهي وإن كانت حركة عالمية قد انخرطت فيها نساء وعدد من الرجال من بلدان متعددة(أمريكا الشمالية وبلدان آسوية وأخرى إفريقية، وأخرى عربية، وأخرى أوروبية وغيرها) إلاّ أنّ الخطاب الإسلامي النسوي بأمريكا له خصائصه التي تجعله مختلفا عن غيره من الخطابات.
من الواضح أنّ المنضويات تحت هذه الحركة العابرة للحدود يشتركن في عدّة نقاط، منها انتمائهن إلى الأجيال التي انتفعت من التعليم ونما وعيها الحقوقي، وإن بدرجات متفاوتة، ومنها إيمانهن بأنّ الفقه السائد لم ينصف المرأة وإنّما كان ولا يزال منحازا للرجال،ومعبّرا عن مصالح المجتمع الأبويّ، ومنها رغبتهنّ في التصدّي للأصولية المتشدّدة (خاصّة بعد ما فعله نظام طالبان بالنساء واستشراء الإرهاب)، ومنها أيضا مطالبتهن بتفسير جديد للقرآن يمثّل أساس إصلاح الفقه، وتجديد الفكر الإسلاميّ، هذا بالإضافة إلى تثوير المنظومة الفقهية، وممارسة الاجتهاد على أسس جديدة.
بيد أنّ نقاط الاختلاف بين المنتميات إلى حركة النسوية الإسلامية في ‘العالم العربي” والمسلمات الأمريكيات متعدّدة. ففي الوقت الذي ينصبّ فيه الجهد النسويّ داخل العالم العربيّ المسلم في الغالب،على مسائل عمليّة ذات بعد منفعيّ، كسنّ قوانين الأحوال الشخصية أو تعديلها لصالح تحقيق مكاسب للمرأة، مع الحرص على عدم تعارضها مع النّص الشرعيّ، تعمل الدارسات المسلمات بأمريكا على الانكباب على قضايا ذات صلة بإصلاح الفكر الدينيّ، والبحث النظريّ.
ثمّ إنّ ما يميّز أعلام الحركة في أمريكا، وهنّ من أصول مختلفة، (أمينة ودود محسن، و ليلى أحمد، وعزيزة الهبري، وأسماء بارلاس ونيره توحيدي….) تبنّي أكثرهنّ للمصطلح دون تردّد، ومجاهرتهن بذلك على خلاف أغلب المسلمات العربيات المقيمات في بلدان إسلاميّة إذ كثيرا ما تجد الدارسة حرجا في التصريح بأنّها تتبنّى فكر حركة ‘الإسلام النسويّ’ دون تحفّظ أو دون حرص على تغييره حتى يبدو أكثر ملاءمة مع البيئة الإسلاميّة. فهبة رؤوف عزت المصرية على سبيل المثال تقترح استبدال ‘ النسوية الإسلامية’ بـ’الحركة النسائية الإسلامية’.
وعلاوة على ما سبق تنطلق الدارسات المسلمات الأمريكيات في الدفاع عن حقوقهنّ في التعبير والتفكير والاعتقاد من موقع تتساوى فيه المرأة مع الرجل باعتبار أنّ هؤلاء يعشن في ظلّ أنظمة أقرّت بمواطنتهن، وهو أمر يشرّع طرح السؤال التالي:إلى أي مدى سيكون تماهي الدارسات المسلمات الأمريكيات مع الخطاب الإسلامي السائد في البلدان العربية؟ ألسنا إزاء قضيّة تعدّد الإسلام، أي اختلاف الإسلام الأوروبي أو الأمريكي عن الإسلام العربي؟
وبالنظر في كتابات ممثّلات هذه الحركة بأمريكا نتبيّن أنّهن قد تطرّقهن إلى قضايا ذات صلة بالمشاكل المطروحة في الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص كالعنصرية، والفقر، والتفاوت الطبقي بين الفئات الاجتماعية….ومن هنا كانت العدالة الاجتماعية والمساواة والتكافل الاجتماعي مطالب لجوجة هذا بالإضافة إلى التركيز على الثالوث: العنصر والطبقة و’الجندر’.
وتبدو أمينة ودود أكثر اهتماما بقضيّة العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، وهو أمر مفهوم باعتبار السياق الاجتماعي التاريخي الذي اثيرت فيه قضايا السود في علاقتهم بالثقافة المهيمنة التي عادة ما كانت تعالج المشاكل الاجتماعية والسياسية من منظور المثقف(ة) المعبّرين عن ثقافة البيض. ومن هنا ألّحت أمينة ودود على عالميّة الإسلام، وتوجه الرسالة إلى جميع الناس. فالقرآن يدعو إلى المساواة بين جميع المؤمنين، ويحرّم التمييز العنصري، ويضع الاعتبارات الأخلاقيّة معيارا للتفاضل.
ونظرا إلى شعور النِساء، وخاصّة السوداوات بالامتهان والحطّ من كرامتهن، فإنّ الخطاب الإسلامي النسوي “للأفرو-أمريكيات” المسلمات سيحاول التأكيد على قضية الهويّة الأنثوية.فيغدو هدف أعلام الحركة ‘إعادة تعريف هويتهن على نحو يعتبرنه تطويعا أكثر أصالة للحداثة لمتطلبات ديانتهن وثقافتهن’
(إيفون يزبك حداد وجون.ل.إسبوزيتو، الإسلام والجنوسة والتغيّر الاجتماعي، (ترجمة أمل الشرقي)، الأهلية، عمّان، 2003، ص 13.)ولئن بدت المنتميات العربيات المستقرات في البلدان العربية أكثر ارتباطا بالهوية الدينية فإنّ تركيز مسلمات المهجر سيكون على الهوية الجنسية ثمّ الهويّة الإسلاميّة،وهو أمر مفهوم باعتبار نشأة هؤلاء في مجتمعات تغلغلت فيها ‘الأيديولوجيا الجندرية’ و’ثقافة الجندر’.
وإذا تأمّلنا في القضايا المدروسة تبيّن لنا أنّ مناظير الدارسات المسلمات الأمريكيات متعدّدة كما أنّ زوايا الطرح مختلفة. فقضيّة تعدّد الزوجات لا توضع على محكّ الدرس باعتبارها قضيّة تشغل المسلمين الأمريكيين في حياتهم اليومية وتعاني النساء من تبعاتها بل إنّها قضيّة مثيرة للجدل إذ كثيرا ما يواجهها المسلم/المسلمة بأمريكا عندما يجبران على خوض جدل مع المناهضين للإسلام. ولأنّ الدارسات يؤمن بالتضامن مع سائر الأخوات المسلمات فإنّهن سيتبنّين هذه القضيّة، وسيحاولن البحث في جذورها التاريخية والاجتماعية، وسيجتهدن حتى يفضحن الفجوة بين مقاصد التعدّد، وما آلت إليه الممارسة. وبناء على ذلك ستعيدُ الباحثات النظر في تفسير بعض الآيات القرآنية أَو الأحاديث النبوية التي يتذرّع بها المدافعون عن النظام الأبوي لتَبرير سيادةِ الذكرِ وهيمنته، وسيقدّمْنَ تفسيراتَ بديلةَ مُناسِبة للَجنسَين من خلال التحليلِ اللغويِ البديلِ أَو التعمّق في السياقات التي نزلت فيها هذه الآيات القرآنية إلى غير ذلك من آليات البحث.
وتبدو الدارسات المسلمات الأمريكيات مشغولات بقضيّة تشويه صورة الإسلام والمسلمين، خاصة بعد أحداث 9/11 ومن هنا كان حرصهن على بيان ‘الصورة الحقيقية للإسلام’، ومواجهة الإعلام الغربي الذي يشن حملة على الإسلام والمسلمين، ويتحيّن كلّ الفرص للتشهير بما يفعله المسلمون مع نسائهم.
ومما لاشكّ فيه أنّ تشبّع المسلمات النسويات الأمريكيات بالحريّة الفكرية ومواكبتهن للتطوّر المعرفي في مختلف العلوم سيشجّعهن على طرق مواضيع بجرأة واضحة كالمطالبة بإلغاء عدّة المرأة المطلقة، وإمامة الصلاة. فالإمام حسب أسماء برلاس يختار بشكل ديمقراطي، واذا كانت المرأة هي الأكثر علماً بين المسلمين الحاضرين وبإمكانها إمامة الصلاة: فلم لا ؟وتغدو صلاة النساء المسلمات الراشدات وراء أبنائهن الصغار مثيرة للسخرية في العصر الحديث، وحجّة على فقدان المرأة الأهلية واعتبارها قاصرة.
ولا تتردد رفعت حسن الباكستانية الأصل في التشكيك بنصوص عديدة نسبت للرسول،ولذا فإنّها تصرّح “إنّ قراءة القرآن من خلال عدسة الحديث، هو برأي السبب الرئيسي في الفهم الخاطئ والتفسيرات والتأويلات الخاطئة لكثير من النصوص التي استخدمت في إنكار مساواة وعدالة النساء”.
أمّا الصحفية الأمريكية -الهندية الأصل إسراء نعماني فإنّها تندّد بكل الآليات التي يلجأ إليها عدد من الرجال للسيطرة على النساء، ومعاملتهن معاملة تحوّلهن إلى مواطنين من الدرجة الثانية. كما أنّ ‘نعماني’ تتصدّى للفكر الدينيّ التقليدي السائد الذي يعتبر ‘النساء قوارير زجاجية لحفظ الشرف والنقاء’ويتسرّع في إنزال أشدّ العقوبات عليهن إذا مارسن الجنس. وتنتقد ‘نعماني’استبعاد النساء عن المساجد أو تخصيص غرف خلفية لهن أو أماكن في زوايا المساجد في البلدان الإسلامية وحتى في أمريكا معتبرة أنّه آن الأوان لأن تأخذ المرأة مكانها باعتبارها كائنا مكلّفا بحمل الأمانة مثلها مثل الرجل.
ولا تكتفي ‘نعماني’ بالتنديد بكلّ أشكال العنف الممارس على النساء بل إنّها تعمد إلى فضح الممارسات الجديدة التي سوّقت الدين وحوّلته إلى بضاعة استهلاكية. فنحن إزاء صناعة أزياء إسلامية وعروض أزياء عالمية للعباءة العربية وملابس الإحرام (الحج) أو المايوه الإسلامي إلى غير ذلك من العروض التي تقام هنا وهناك وعلى شبكة الإنترنت لتسويق الموسيقى الإسلامية، والأدعية، والملابس. ولعلّ آخر ما ظهر في هذا المجال الملابس الداخلية الإسلامية؛’فهناك لباس داخلي نسائي كتب على ظهره “بسم الله”.
ولئن كانت النسوية الإسلامية في إيران وماليزيا والمغرب(بدرجة أقلّ) ذات طابع نضاليّ فإنّ النسوية الإسلامية في أمريكا،في الغالب، ذات طابع’أكاديمي” نظريّ. فهي لا توظّف مكاسب النسوية والمنظومة القيمية الإسلامية لخدمة قضايا النساء والمقاومة بقدر ما تؤثر التركيز على قضايا الاجتهاد من منظور نسائي/نسوي.وتوضّح أعمال كلّ من آمنة ودود ونيره توحيدي وأسماء برلاس بالخصوص هذا التوجّه.
أمّا على مستوى استقبال هذه الآراء في العالم الإسلامي فإنّها تتراوح بين الإعجاب، والانتقاد الشديد.فقد اعتبر خالد قطب في مقاله ‘مفهوم الإسلام النسوي اضطراب رؤية نساء المهجر ‘أنّ
‘الخطورة في أفكار هذا الجيل من مسلمات المهجر جاءت من الدعوة إلى ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» الذي يمكن إدراجه ضمن الأفكار الهدامة التي تريد هدم الثوابت العقدية والتشريعية في حياة المسلم والمسلمة والنظر إلى هذه الثوابت نظرة ساخطة بحجة أنها راكدة جامدة لا تليق بالمرأة المسلمة في القرن الحادي والعشرين.’
وبالرغم من سخط البعض واستهزاء البعض الآخر والشتم واللعن والاتهام بالجهل والتفصي من الإسلام ‘الحقيقي” فإنّ هذه الأصوات المحدثة ‘للضجيج”، والمعبّرة عن تراكم الخبرات قد لفتت الانتباه إليها باعتبار أنّها تنافح عن حقّها في الحضور في المجال الديني الذي ظلّ طيلة قرون حكرا على الرجال.وهي لا تفاوض المجتمع البطريكي بأسلوب مرن وبطريقة محتشمة بل إنّها تفضح المستور وتعري التناقض والرياء، و….
ولأنّ مدار الصراع التنازع حول السلطة فإنّ العنف سيغدو” سيّد الأحكام” في التعامل مع هذه الحركات التي يخشى تسرّب عدواها إلى بلدان ظلّت إلى اليوم بمنأى عن هذا ‘التلوّث’.
amel_grami@yahoo.com
جامعيّة تونسية
الحركة النسوية الإسلامية بأمريكا
maryam rashed — memo717@yahoo.com
I would be very grateful if the auther could supply us with more references. and thank you very much for this very interesting article.
Maryam