ثلاثة عقود مرّت، 28 عاما تحديداً، على الغزو الاسرائيلي للبنان والخروج الفلسطيني المسلح منه. خروج بدا في حينه مؤقتاً، ومبكْيا أيضا… ولكن لأسباب مختلفة. ثلاثة عقود وعشرات من المآثر المقاوِمة، تلتها المئات من المآسي الانسانية والتراجعات السياسية والتآكلات الاجتماعية والبنيوية. فيما العقلية المقاوِمة ما زالت هي هي: على أمجاد «المخاطر والمؤامرات»، على أطلال ما استطاعت تدميره بعد الذي دمّره الاسرائيليون، ما زالت رافعة رأسها، تكرّسها مؤتمرات دورية وإنتفاضات ومقاومات ومقاطعات والغاء اتفاقيات دولية، كان أصحابها «المقاومون» أطرافا في التوقيع عليها، تحت إلحاح هزيمتهم المسْكوت عنها.
حسن نصر الله في ملتقى «دولي لدعم المقاومة» ما زال شاهراً إنتصاراته المتوالية وسلاحه المستدام الباقي الى ما بعد «إلغاء الكيان الصهيوني»، ما بعد إلغاء «الشر المطلق» من البسيطة. نصر الله لا ينتبه بعد الى حجم التغيرات الحقيقية التي احدثها سلاحه في وجه المنطقة، قبل تهديده بـ«تغيير وجهها» لاحقاً… أكثر مما لَحقها. أو أبو موسى، أمين سر حركة «فتح الانتفاضة»، ولاّدة «فتح الاسلام»، الذي يزور صيدا منذ ايام ويتحفنا، الى جانب نصر الله، بأنه باق على العهد، محتفظ بسلاحه خارج المخيمات وداخلها. والهدف المعلوم: «لمواجهة العدو الصهيوني في حال كان هناك عدوان جديد على الجنوب اللبناني». هل يتركه «حزب الله» يصول في الجنوب مسانداً اياه في حربه الابدية، هو الآخر، مع الصهيونية؟ ألأمر ليس مطروحا الآن، طالما ان إبقاء ابو موسى على سلاحه هو «خط دفاع متقدم» عن سلاح هذا الحزب؛ وذلك بالاعلان عالياً عن دفنه للقرار الدولي 1559 في «مقبرة موازين القوى الجديدة التي أفرزتها التحولات الاقليمية والدولية». فالآن «التكتيك» هو المتكلم، وليس «الاستراتيجية» كما يوحي الخطباء المتحمّسون للمؤتمرات المؤدلجة. فاقتضى الامر غضّ الطرف عن هذا الشريك المضارب في الجهاد ضد الصهيونية والامبريالية.
ولكن هذا موضوع آخر. موضوعنا الآن هو تلك المعاندة «الفكرية» التي تجمع بخيطها الغليظ كافة المقاومين لإسرائيل بالسلاح، من الكلاشنكوف الروسي … الى الصاروخ الايراني. والفرصة هي ذاك الكتاب الصادر منذ ايام، أيضا، عن دار رياض الريس «بيروت… مدينتي» للقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بسام ابو شريف. كتاب يروي الغزو الاسرائيلي للبنان، ويصف في كل صفحة منه «حب» مؤلفه لبيروت، «عشقه» لها، لعطرها وهوائها ومناخها ونسائها الخ.
ولا تلبث ان تباشر صفحات هذا الكتاب حتى يلحّ عليك السؤال: هل يا ترى، كتب بسام ابو شريف هذا الكتاب، أو فكر نفس هذا التفكير أثناء هذا الغزو، أو بعيده بقليل؟ أم انه كتبه الآن، بعد عقود على حصوله؟ لماذا هذا السؤال؟ لأنه متولّد من سؤال آخر: هل ما زال بسام ابو شريف «يفكر» كما كان «يفكر» عام 1982، ليكتب هذا الكتاب الذي يضج بالـ«ثوابت» المقاوِمة، ثقيلة الظل؟ الاجابتان المحتملتان تنطويان على معضلة: في حال نعم، كتبه عام 1982 وقرر نشره الآن، عليه ان ينبهنا الى ذلك: «كنت أفكر هكذا…»، «كنت مؤمنا بما افكر… صادقا به…». ونفهم من ذلك ان ابو شريف، مثله مثل المئات الآلاف من المواطنين البسطاء في هذه المنطقة كان يفكر كذا وكيت… علما بأن ابو شريف ليس بالمواطن العادي: انه «مسؤول»، «قيادي»، «نجم» الخ. أي ان مسؤولية التفكير عنده مضاعفة. اما في الحال السلبي، أي ان ابو شريف كتب هذا الكتاب بعد عقود من التجارب والتعقيدات والتبدلات و«الانتصارات»… فهذا هو الخيط الغليظ الذي يجمع ابو شريف بنصر الله وخالد مشعل وابو موسى… وغيرهم. المقاومة المسلحة هي السبيل المقدّس لاستعادة الارض والحقوق والمقدسات الخ. لا مجال للتطاول على هذه «الثابتة» الذهنية المكرّسة، مهما انقلبت القيادات والايديولوجيات.
بعد الاحتمالات اذن، السؤال الذي يليها: كيف «يفكر» ابوشريف؟ بماذا «يفكر»؟ ما هو مجال «تفكيره»؟ وهل يفكر بالأساس؟ والمقصود هنا بالتفكير، ليس فكر المفكّرين، المناطة بهم مهمة إسنتباط الافكار من المواد الفكرية أو الميدانية الخام المتوفرة بين ايديهم. لا! ليس هذا. ابوشريف ليس بمفكر، بل «قيادي» و«مسؤول» الخ. أي ان السؤال يدور حول المصير الذي «قادنا» اليه أبو شريف، وأمثاله من «قياديين» آخرين من طرازه؟ بأية أدوات أو آليات ذهنية غير الايديولوجيا؟
وهذه الايديولوجيا المقاوِمة بالذات، بماذا تفكر؟ او بالاحرى، بماذا لا تفكر؟
مدينة بيروت هي حبه الأكبر كما أسلفنا. «بيروت حجر الرحى في صمودنا» يقول. بيروت هي المفتاح. بيروت مدينة لا أهل لها، لا سكان فيها، لا عمارات أو حيوات أخرى غير تلك التي تترك له حرية تنفيذ مهمته السياسية والعسكرية عشية الاجتياح الاسرائيلي واثناءه. أرض حفراء نفراء هي تلك المدينة. يقرر مصيرها ابو شريف وعرفات وخلفهما القوات المسلحة الخادمة للمقاومة؛ يحيلونها بعد ذلك الى «القوى اللبنانية الوطنية» الحليفة، بعدما ان يكونوا قد استوفوا كافة شروط قراراتهم الحربية.
الحرية التي يتمتع بها ابو شريف في بيروت، حرية «الجد والحب»: «تتحرك فيها بحرية لا حدود لها، الا بعض القوانين، كقوانين الصحافة». سلاح ومخازن وذخائر تستطيع ان تُدخل اليها. بلا حسيب ولا رقيب. الاهل، الناس، السكان، المواطنون البسطاء، لا يراهم هذا المقاوم الصلبْ. شرارات النار على المدينة لا تقلقه، حتى على اهله الاقربين، طالما ان السلاح «صاحي».
مدينة لا تثير فضوله؛ تصوَّر ان هذا المناضل العاشق لبيروت، فوجىء عشية حربها الاهلية عام 1975، والاستعار الطائفي على أشدّه، بأن في لبنان «بنى طائفية»، «صراع طائفي»، وصعوبة حصول تزاوج بين ابناء الطوائف المختلفة. واكتشافه لا يحصل نتيجة سعي معرفي لهذه المدينة المعشوقة، بل لإصطدامه بعائلة خطيبته المسيحية التي قاومت في البداية فكرة زواج ابنتها من فلسطيني ومسلم. تصوَّر ذلك عشية تلك الحرب؟! معرفة لا تحصل الا «بالمناسبة»..
بالمناسبة ايضا، وعلى فكرة… هدّمت اسرائيل اثناء غزوها للبنان عمارة عكر في حي الصنائع وقتلت فيها 400 مواطن لبناني وفلسطيني. يهرع ابو شريف الى مكان العمارة للسؤال عن «الرئيس عرفات»، للاطمئنان عليه وحده. فيجد هناك أحد رجال أمن الرئيس الفلسطيني يجمع بعض الملفات: «إقتربتُ منه فحياني وهمس في اذني قائلا: نقلنا الرئيس الى مكان جديد قبل قصف الطائرات بساعة تقريبا، فقد كانوا يستطلعون المنطقة منذ الصباح الباكر». فقط امن الرئيس، فيما الـ 400 الباقون المجهولون، لا حاجة الى تنبيههم؛ انهم الشهداء الوقود.
على المنوال ذاته، يحضر أبو شريف الى المنزل والقصف على أنواعه شغّال. لا يجد زوجته، ولا «ينشغل باله عليها»، الا بعد ان يلاقيها مرة اخرى. يشعر بضجرها وقلقها، فيقترح عليها، بـ«المناسبة»…»على فكرة»: «قلتُ لها ان مجموعات من السيدات يقمن بتجهيز مستشفيات ميدانية في النوادي والمدارس ويحوّلن المدارس الى غرف سكن للعائلات المهجرة. وان بامكانها ان تساهم». مهمات تأتي على البال بمناسبة ضجر امرأة…
آخر هموم «القائد المقاوِم» مصلحة شعبه وأمنه ورزقه وحياته. فما بالك بشعب مدينته المعشوقة، المدينة السائبة، مفتوحة لكل صاحب حق يريد ان يتمتع بالوقت الذي يناضل خلاله من اجله. بيروت مدينة المقاومة الممتعة، التي بلا ثمن باهظ. مدينة لا تحاسب ولا تقاصص. مناضلها الباشا المبخِّر لسيرته المعطّرة.
«الانتصار الحتمي» ثانية حلقات السلسلة «الفكرية» الطويلة للمقاومة، بعد إخلاء مجال هذه المقاومة من البشر والحجر. على نفس النغمة «الفكرية» لـ«لانتصار الالهي» الذي تلاه، يغني أبو شريف النصر! النصر…! قبل انجلاء غبار المعركة: «الا ان الخسائر لا تذكر بل تنسى عند الانتصار. لَمَعان الانتصار وضوؤه يبقيان رغم الدماء التي غطّت ارض القلعة وارنون»! (حيث جرت أولى المعارك بين الجيش الاسرائيلي و«مقاوِمي» الجيل السابق).
فاذا كانت نتائج الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 انتصارا، يعود السؤال ملحّاً: «إنتصار» في لحظة الغزو أم «إنتصار» بعد ثلاثة عقود من حصوله؟ أي ان كان أبو شريف يفكر هكذا؟ أم انه ما زال يفكر هكذا؟ والسؤال ليس موجها، هذه المرة، لبسام ابو شريف وحده، الذي هو ليس في النهاية غير وجه من وجوه «مقاومة» السبعينات والثمانينات. بل السؤال موجّه للأجيال التي بقيت من بعده على «النهج المقاوم». من «إنتصارات» 1982 وحتى «إنتصارات» غزة العام الماضي، مرورا بـ«الانتصار الالهي»… الخ. ماذا جنى الشعبان اللبناني والفلسطيني؟ أين حصتهما من تلك «الانتصارات»؟ انها امور لا تهمّ، لا تدخل في نطاق الادراك «المقاوم»، أو الرغبة بالادراك. فطالما بقي «السلاح صاحي»، كان الدماغ غافي.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل