لو أن حدودا برية تربط مصر بالجزائر لما وجد قادة البلدين صعوبة في إعلان الحرب، ولخرجت مظاهرات حاشدة تأييدا لقرار استعادة الكرامة الوطنية، وتلقين الآخر درسا في حسن السير والسلوك.
هل في خلاصة كهذه ما ينم عن مبالغة؟
ربما. ولكن ما شهدناه في الآونة الأخيرة من حملات وشتائم وتعبئة، تتبادل فيها الدولة و”الشعب” في البلدين لعبة التضامن في مجابهة تحظى بالإجماع، يبرر الكلام عن سيناريوهات متطرفة. وفي أقل تقدير، فإن ما حدث يمثل نوعا من الحرب خارج الميادين التقليدية للقتال.
وبما أن كل منّا يرى ما يريد، حسب عبارة شائعة لمحمود درويش، فإن ما يعنيني، بشكل خاص، يتمثل في الكلام عن تلك الفئة من البشر، التي يمثل أفرادها جنود المشاة، وهم الغالبية العظمى من الأشخاص الذين حرصوا على الذهاب إلى مدرجات الملاعب، وتظاهروا في الشوارع، وتبادلوا الشتائم، وأحيانا اللكمات، مع أشخاص يشبهونهم في الطرف الآخر. وهم، أيضا، الذين حرصت سلطات الدولة في البلدين على نقلهم بالطائرات، وحمايتهم، ورأت في الاعتداء عليهم ما يمس الكرامة الوطنية.
هؤلاء، بكلام آخر، هم “الشعب”، أو شريحة منه أضفى عليها الانخراط في المجابهة صفة تمثيلية جامعة ومانعة، فهم مصريون وجزائريون، في لحظة نادرة يتجلى فيها التماهي المذهل بين المواطن والوطن، فيصبح هذا ممثلا لذاك، بشهادة الدولة نفسها، في لحظة نادرة، أيضا، من لحظات العناق بينها وبين “الشعب”.
ولكن، هل صحيح أن الدولة في البلدين، وفي البلدان العربية، تقيم وزنا لتلك الشريحة من مواطنيها؟
لا أعتقد أن المهندسين والأطباء والمحامين ورجال الأعمال والمثقفين هم الذين تظاهروا في الشوارع، واحتشدوا في مدرجات الملاعب، وتبادلوا الشتائم واللكمات مع الطرف الآخر. فهؤلاء، وإن وجدوا يمثلون أقلية ضئيلة. وليسوا هم، بالتأكيد، من قذف السفارة الجزائرية في القاهرة بالحجارة والزجاجات الحارقة، ولا هم من هاجم مواطنين مصريين في الجزائر العاصمة، أو اعتدى على منشآت عامة نتيجة الفشل في الحصول على مقاعد في الطائرات المتجهة إلى السودان.
لا توجد لدينا، للأسف، دراسات سوسيولوجية حول الخلفيات الاجتماعية والثقافية لجمهور كرة القدم، مثلا. وغالبا ما يقوم الأدب بسد الثغرة المعرفية بطريقة غير مباشرة. في “عمارة يعقوبيان”، مثلا، يمكننا قراءة التحوّلات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على القاهرة من خلال التاريخ الحافل لبناية سكنية. وفي الأدب الجزائري لا يصعب العثور على أفق مسدود في مدن تعج بالعاطلين عن العمل والأمل. وما يصدق على القاهرة والجزائر ينسحب على بقية المدن العربية.
الذين تظاهروا، وتبادلوا الشتائم، وتنادوا للذود عن كرامة الوطن، هم ما كان يوصف في الأدبيات الماركسية، في زمن مضى، بالبروليتاريا الرثة. ومع ذلك يحتاج هذا التعريف إلى إعادة تدقيق، فالتكوين الطبقي للمدن والبلدات العربية في مطلع القرن العشرين، يختلف عمّا كان عليه الحال في المدن الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وحتى كلمة البروليتاريا، نفسها، تبدو مضللة إلى حد ما، فقد أسهم انهيار وتقليص حجم الطبقة الوسطى وهبوط شرائح كبيرة منها إلى أسفل، وتضخم بيروقراطية الدولة، وتوّسع اقتصاد الخدمات، وظهور اقتصادات هامشية، طفيلية، وموازية، وتلاشي الفلاّحين كطبقة ذات خصائص اقتصادية واجتماعية وثقافية ثابتة، إضافة إلى الانفجار السكاني الهائل، في خلق وتكوين شرائح اجتماعية جديدة، فقيرة وهامشية، تفتقر إلى ملامح أو تقاليد طبقية ثابتة، لكنها تمثل الغالبية العظمى من سكّان المدن.
وهؤلاء، بالتحديد، هم أقل الفئات والشرائح الاجتماعية استفادة من خدمات الدولة، وأقلها حظا بالمعنى الاجتماعي والثقافي والسياسي، فإمكانية الحراك الطبقى إلى أعلى تكاد تكون معدومة، ولا توجد لديهم، أو لدى أطفالهم، فرصة حقيقية للخروج من مهانة الفقر ومخاطر الجهل والمرض، وليس في جعبتهم ما يكفي من المؤهلات لمجابهة النخب السائدة، وكسر احتكارها للسلطة والثروة.
هؤلاء، في الواقع، هم الذين تخشاهم الدولة أكثر من غيرهم، خاصة بعدما أصبحت دولة بلا مشروع بالمعنى الاجتماعي والأيديولوجي، وبلا هدف سوى تأمين وتأبيد بقاء النظام القائم.
لم يكن الأمر، دائما، على هذا النحو. فالدولة الناصرية، وجزائر بومدين، رفعتا شعارات اشتراكية، وانخرطتا في مشاريع إنمائية، وأعلنتا الانحياز للطبقات الشعبية والفقيرة. ولا يهم في الواقع حجم ما تحقق من إنجازات، أو مدى صدق أصحاب الشعارات، المهم أن باب الأمل كان مفتوحا أمام الناس، وأن الكلام عن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والتخلّف كان عنوان الخطاب السائد، وأن الوعد بغد أفضل كان جزءا من العدة الأيديولوجية لأنظمة تبحث عن شرعية أعلى وأكثر تعقيدا مما توفره أجهزة الأمن، وبيروقراطية الدولة، وشطارة الإعلام الرسمي.
تبدو الدولة العربية في الوقت الحاضر، بعد نهاية عصر التحوّلات الكبرى، والهموم الإنمائية، والآمال العريضة، بلا مشروع، وحتى غياب المشروع لا يستدعي قليلا من الخجل، بل يستنفر ممارسة للسلطة عارية حتى من ورقة التوت. وفي هذا المناخ بالتحديد، ونحن، هنا، نتكلّم عن سياق بدأ منذ ثلاثة عقود على الأقل، يبدو الهامشيون وفقراء المدن، ومن هبطوا من الطبقة الوسطى، وصغار موظفي الدولة، والعاملون في الخدمات والاقتصادات الموازية والطفيلية، والحرفيون، والنازحون الجدد من الريف، بمثابة الحاضنة الطبيعية للإسلام السياسي، ويختزنون طاقة من العنف تكفي لتدمير مجتمعات وتقويض دول. وهم قوّة سلبية في جميع الأحوال.
وقد بلور هؤلاء على مدار سنوات كثيرة ثقافات فرعية، وفي زمن الفضائيات، والخلجنة الناجمة عن الصعود المالي والأيديولوجي والإعلامي لدول النفط، أصبحوا “الشعب” الذي يصوّت في استطلاعات “الجزيرة”، ويرفع الأحذية في المظاهرات، ويُعادي الغرب والحكومات، ويرى في عصابات القاعدة والطالبان أخوة في الجهاد والإيمان.
المصريون والجزائريون، الذين تبادلوا الشتائم واللكمات، متشابهون في أشياء كثيرة، لا تنحصر في خلفياتهم الاجتماعية، ولا في ثقافاتهم الفرعية، بل تتعداها إلى قابليتهم للاستغلال في السرّاء والضراء من جانب الدولة نفسها، التي تصادف هذه المرّة أنها لم تطلق عليهم الكلاب البوليسية، بل عانقتهم، لتحقق مكسبا سياسيا صغيرا، وفي المقابل منحتهم شرف المواطنة، ووسام الدفاع عن كرامة الوطن. هذا ما حدث في مصر والجزائر، وما يمكن أن يحدث في بلدان عربية أخرى.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام