الى الآن لم تفرز الانتخابات النيابية اللبنانية الاخيرة حكومة تترجم نتائجها. فاز في هذه الانتخابات فريق بعينه، جماعة 14 آذار، ولكن الفريق الآخر الخاسر، فريق 8 آذار، قادر على إيقاف هذه الترجمة عن التنفيذ. والسبب خارج عن منطق الانتخابات: القيادة الميدانية لهذا الفريق، أي «حزب الله»، الذي «انتصر» على الجميع بالسلاح في تموز 2006 وفي حزيران 2008 لم يشأ التنفيذ. سلاحه أقوى من سلاح الجيش اللبناني، الذي أشرف بنفسه على هذه الانتخابات. وأيضا، لأن نفس هذا السلاح أخاف قطبا اساسيا من الفريق الفائز إنتخابياً، فصمّم هذا الاخير ان يحمي رأسه ورياسته ومعهما أبناء طائفته، على ما يعتقد، بأن يرفع للحزب الآنف راية البيعة… بعدما تبيّن له ان ليس هناك من يحميه حقيقة من غطرسة قوة سلاحه.
مع كل ما شابَ هذه الانتخابات الاخيرة من شوائب، والفريق الخاسر أحد الشركاء في صناعتها، فنحن الآن امام مفارقة تصيب مفهوم الديمقراطية من الصميم. فهي تعريفا تداول سلمي للسلطة، على اثر انتخابات. لكنها في صميم الواقع هذه الديمقراطية بحاجة الى أنياب تحميها من مطامع أصحاب الأنياب الأقوى منها. الفريق الفائز لا أنياب له، ولا يبدو انه بصدد الاستحواذ على انياب. وإن فعل الآن، فقد تأخر عن مجاراة أنياب من «إنتصر» على اسرائيل ومن ثم عليه… عدا عن كونه ينزع بذلك عن نفسه صفة «التداول السلمي». ولكنه في المقابل يراهن على ديناميكيات، كل واحدة منها تصيب في الصميم الفكرة الديمقراطية الضعيفة أصلا. ما يعزّز الخوف من الذي يهدّدها. وهكذا الى نهاية غير معروفة…
نحن هنا بصدد المثل اللبناني، الأكثر تعاطياً مع الديمقراطية والانتخابات، أو لنقل الأقل جموداً من بلدان عربية اخرى. ففي حين تُمنع في لبنان نتائج الانتخابات من ان تتجسّد في حكومة جديدة، وتحت تهديد نصف ضمني بالسلاح، فان الانتخابات لا تحصل، وتحت تهديد سلاح، أيضا، في بلدان عربية اخرى؛ واذا حصلت، فبسيف السلاح نفسه… وهذه أولى معضلات الديمقراطية في عالمنا العربي الراهن: انها أضعف من ان تقاوم جبروت أصحاب القول الفصل في الموت والحياة، في الحرب والسلم.
بعد السلاح القاتل لجسد الديمقراطية، هناك السلاح القاتل لروحها. انه سلاح الماضي. الديمقراطية من حيث كونها صيرورة نحو المستقبل، من حيث كونها صاحبة مفاجآت، أو حاضنة ميل جديد بزغَ أو طافَ على سطح المجتمع، أو وجه جديد، أو برنامج جديد. الديمقراطية هذه هي تطلّع متواصل نحو المستقبل، تجاوز لأخطاء الماضي وخياراته، أو محاولات تجاوز، وتقدم دؤوب في الزمن، أو هكذا يُفترض. أما في حالنا، فاننا نريد ان نمزج تداول السلطة بصراعات الماضي وأحقاده وانحيازاته، وقد فاتها الزمن. مثلا؟ كيف يمكن للصراع «السني-الشيعي» ان يخدم التداول السلمي للسلطة؟ حتى في ظل انتخابات؟ انك هنا بصدد عصبيات حتمية محمولة على الماضي، عكس المسؤولية الفردية المستقبلية. وهي تتغذّى من مذابح التاريخ ومظالمه، ومن طرق لتداول السلطة لم تتم يوما من غير توارث أو غَلبة، أومؤامرة، أو دسيسة أو ذبح أو صلْب الخ. هل نكمل…؟ وهي تفسّر الحاضر الآن على أساس ان «التداول» فيه بات جاهزا لهذه العصبية، وغير موافق لتلك. انه تداول للسلطة، ولكنه تداول إنقلابي، عنيف، يهزّ البنيان ويؤسّس لسلطة جديدة، ليست بالضرورة أكثر عدلا او حرية من سابقاتها.
وهذا الماضي، كيف نعرفه؟ كيف نوقنه؟ عبر التلفزيون، عبر الثقافة التلفزيونية. انه الماضي وليس التاريخ. يقولون لك انهم عائدون الى الماضي بفضل «الوعي» الجديد الذي باتوا يتمتعون به الآن. ولكن من أين أتاهم هذا «الوعي»؟ من أداة اللاوعي، من التلفزيون. وما أدراك…! أن يكون التلفزيون مصدرا للوعي الماضوي، لا التاريخي، فهذا ما أعطى للديماغوجيا دفعا لم تشهده العصور السابقة.
والديمقراطية بطبيعتها تستطيع ان تتعايش مع الديماغوجيا ومع الوعي التلفزيوني، بصفتها حكم الاغلبية. ولكن، أيضا، تتطلب التحقّق ويضرّها الحماس والغموض. فمثلا كيف يشرح المرشح برنامجه؟ كيف يقنعنا بكيفية تنفيذه؟ هل تتوافق تعبويته مع الشرح والتفسير والتدقيق والارقام والخطط؟ ما الذي ينويه أو يخطط له أو يفعل، أن يشرّع من اجل بلوغ الاوهام التي ينثرها؟ ما هي خطته؟ حقا، كيف ينظر الى المستقبل؟ مستقبلنا، قبل مستقبله، لو فاز؟
كل هذا موصول بخيط سميك آخر: تعارض الديمقراطية مع الاستقرار في بلادنا. فالمستقبل الذي ينظر اليه المواطن المفترض، هو مستقبل بثياب ماض ديني. والمجموعات او الشخصيات او الاحزاب الدينية تعرف ذلك جيدا؛ هي التي تغرف من تربة الدين ما يمكّنها من كسب أية انتخابات قادمة. ولكن فوزها ليس مدعاة للاستقرار.
الطامحون، مجرد طموح الى السلطة، أصحاب الطبائع التي طالما أغرت الروائيين لوصفها… يجدون في هذه المناخات ضالتهم. انها ارض خصبة واضحة لكل من اراد تقاسم الحكم بناء على مجرد قوة عارية. ولو عُطفت هذه القوة على الماضي وثقافة التلفزيون وإقتران الديمقراطية بعدم الاستقرار…. فتجد النتيحة: وهي نقطة في بحر المعضلات العربية مع الديمقراطية.
والعصر ليس بالمؤاتي ولا الحال هو بالأفضل خارج الدائرة العربية. خذْ «النموذج» الصاعد الآن. الصين، ثاني اقتصاد عالمي، مرشحة أن تأخذ مكان اميركا بعد عقدين من الزمن على الاكثر. ماذا عن نظامها؟ انه نظام الحزب الواحد الهرَمي الممْسك بكل التلابيب، والمحارب العنيد لحرية الرأي ولحقوق الانسان. وشرعية نظامها القائمة على الاعتزاز القومي بغزو العالم، على الامة الصينية الواحدة المتراصة خلف قائدها الحزب الشيوعي. وذلك مع كل المشكلات والمأساة التي يتسبّب بها سوق عمل منْفلت من المحاسبة والحماية لملايين المهاجرين من جوع الريف الى الاستغلال الما بعد رأسمالي للمدن. اليقظة المطلوبة من دعاة الديمقراطية: قد يحكم العالم بعد سنوات قطب معاد من حيث المبدأ والممارسة لتداول السلطة والحرية والصحافة والتعبير الخ.
التدهور القادم لا يقف عند هذا الحد. اوروبا الجمهورية الديمقراطية صارت لها رموزها الملكية التوارثية. ساركوزري وابنه جان، البالغ من العمر 23 سنة، والذي اخفق في ثاني سنة حقوق، ومازال فيها، والحاصل على النيابة في احدى معاقل ابيه الانتخابية… ها هو الآن يستعد ليكون على رأس (epad) وهي اكبر مجمع تجاري في اوروبا من حيث المبالغ الاستثمارية والمساحات المعدة للبناء الجديد.
الانسان الغربي، انسان في النهاية. إغراءت السلطة لا تستثنيه، انها بنفس قوة الغريزة. والديمقراطية اختراع بشري جديد، حديث، لم يتحصّن بعد من شهوات القوة والسلطة، والشغف الانساني بهما. والفرق بيننا وبينه، أي الانسان الغربي، فرق بالدرجات فحسب. الماضي عنده، والقوة المسلحة والثقافة التلفزيونية والغوغائية… كلها عنده. ولكن يلْجمه الوقت الذي اخذته الديمقراطية لتتعزَّز. ولكن يبدو ان كل هذا التراث نفسه مهدّد كما هُددت في تواريخ عديدة ممالك وحضارات على يد بدو أو برابرة، وأحياناً حشاشين…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل – الاحد 25 تشرين الأول 2009 – العدد 3463 – نوافذ – صفحة 12
ضعف الديمقراطية في ضعف الديمقراطيينوالديمقراطيون هم من اعتنق الديمقراطية اختيارياً وإرادياً وعن علم ويقين، وبحد أدنى من الوعي، بأنها “أسوء نظام على الإطلاق، باستثناء سائر الأنظمة جمعاء” على مقولة تشرتشل. لكل ديمقراطية موجودة اليوم أنياب تحميها، هي اختزالاً دولة القانون. اختيار الديمقراطية، ونبذ أنيباها الحامية لها، أي دولة القانون، كاقتناء سلاح دون ذخيرة، أو سيارة دون محرّك أو دون وقود، إلخ… قصّرنا نحن اللبنانيون الديمقراطيون، أي الـ14 آذاريون (الفريق الآخر منه من يناصب الديمقراطية العداء عقائدياً وجهاراً، وهذا من حقه، إلى حد ما، ومنه من هو قاصر عن استيعاب تعقيداتها، بمنابعها ومصبّاتها التاريخية والمجتمعية، مروراً بممارستها المضبوطة نصاً وقانوناً، وهذا… قراءة المزيد ..