مؤتمر نظّمه «تجمع الباحثات اللبنانيات» حول «النسوية العربية. رؤية نقدية» في الجامعة الاميركية في بيروت الاسبوع الفائت (4 ـ 7 تشرين الاول). من العنوان نفسه يبدأ الإشكال: ففي اللغة العربية، عنوان المؤتمر، «النسوية»، هو بالمفرد. أما في اللغة الانكليزية (Arab feminims)، فهو بالجمع، أي غير مقتصر على نسوية واحدة. وتقول احدى عضوات اللجنة التحضيرية للمؤتمر عن هذا الاختلاف بأنه «إضطراري». لانستطيع برأيها ان نجمع «النسوية»، ونجعلها «نسويات». فعندها سوف تُفهم الكلمة «غلط». أي بصورة أوضح، اذا دعينا الى مؤتمر عنوانه «نسويات عربية»، فلن تفهم المدعوات اليه المعنى نفسه الذي فهمته اللواتي قرأنه بالانكليزية. والإشكال المتفرع منه ان اللواتي لا يقرأن الانكليزية، أو بالأحرى يقرأن الانكليزية، ولكنهن يؤثرن العربية، لن يفهمنَ بأن المقصود من هذا المؤتمر هو النسويات بمدارسهن وإتجاهاتهن المختلفة!
هذا التكاسل تجاه اللغة العربية، وعدم الخجل من عدم الإلمام بها، بل غرف الهيبة والشرعية العلمية من حصر الرطانة بالانكليزية فحسب… هو أول ما يلفتك في هذا المؤتمر. تكاسل لا يخفي إلا القليل من إحتقار اللجنة التحضيرية للغة العربية، وفي أية موقعة؟ في مؤتمر «النسوية العربية»!
إحدى منظمات المؤتمر قالتها صراحة في نهاية احدى الجلسات؛ هي المثقفة، العربية، «القومية»، «المقاوِمة»، المقيمة في بيروت منذ دهر، والمختلطة بأهلها، إنها لا تجد عيباً في ان تجهل العربية، لا ترى عيباً في ان تتضايق من كثرة تداولها في المؤتمر («fed up from Arabic!» صرخت)، أن لا تقول كلمتها بغير الانكليزية. وتعتز… مشجعة بذلك بعض الطموحات الى صورة أعلى عن انفسهن بأن يتكلمنَ بدورهن بالانكليزية بالرغم من اللكنة العربية «الفاضحة». يا جمال اللغة، أو اللغتين!
ولكن نحن هنا بإزاء نوع من «السنوبيسم» اللبناني البلدي الذي، لكثرة شيوعه بيننا، صرنا نراه «طبيعيا»، جزءاً من ثقافتنا اليومية… ونوعاً من التماهي الثقافي الذي وقعت في عدواه شعوب عربية كانت الى وقت قريب تحترم لغتها الأم وتحبها.
أما المثير والمدهش في موضوع اللغة هذا، هو النساء العربيات، ومن أجيال مختلفة، وقد غلبت عليهن الشابات، المهاجرات الى الغرب، والمدعوات الى المؤتمر بصفتهن يعلّمن في احدى جامعاته، المرموقة دائما، وعددهن كافٍ في المؤتمر لتلاحظ شيئاً غريباً: كلهن من دون استثناء يدرّسن في هذه الجامعات عن موضوعات الشرق الاوسط. وكلهن أتين الينا بهالة تلك الجامعات، لا يتكلمن بالعربية ولا يلقين أوراقهن بالعربية، بل بالانكليزية! ومن بينهن تستطيع التكلم بالعربية، تفعلها بالتأتأة والتلعثم والركاكة. وذلك من دون ان يرف لواحدة منهن جفن: «طبيعي…» أمرٌ طبيعي ان أولئك المتخصّصات بمنطقتنا والآتيات منها، لا يعرفن لغتها. أمرٌ طبيعي ان لا يكن قد بذلن في الماضي البعيد، أو القريب، جهداً فعلياً لتعلّم لغتهن الأم، التي يدرسن حول احداثها وتاريخها وبناها. هذا وقد كان في المؤتمر استاذة يابانية واخرى اميركية تتفاخران أمامنا بأنهن يعرفن العربية، ويتكلمنها بطلاقة وحماسة. والخلاصة: عندما تسأل: لِما الانكليزية، في حالة مهاجراتنا ومقيماتنا؟ يكون الجواب البديهي: لأنها لا تعرف العربية. والسؤال الاكثر بديهية من بعده: ولماذا لم تتعلم العربية؟ أو لماذا لا تباشر الآن بتعلّمها؟
من العنوان الى الافتتاح، إشكال آخر: كلمة الافتتاح لم تكن واحدة. كان هناك ثلاث كلمات إفتتاح، ولكل واحدة منها «عنوان»: «إفتتاح المؤتمر»، «كلمة الافتتاح» و«ترحيب». موزعة بالقسطاط على كل اعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر. وبعد ذلك، وما زلنا في «الافتتاح»، محاضرة لـ«مفكرة»، تريد الاجابة على سؤال «ماذا تريد النساء؟». والجواب على السؤال لا تلتقط منه شيئاً يُذكر…
وقد طغى على كلمات الافتتاح الثلاث طقوس الشكر المتتالية، والتي لم نفهم مغزاها الا في اليوم التالي، في الجلسة الاولى، ورئيسها هو الذي نال القسط المبالغ به من الشكر. فكان لا بد من التعبير العملي عن هذه «التشكّرات» بإعطائه «رئاسة» الجلسة الاولى. ويا لها من رئاسة! منذ اللحظة الاولى، كان المشكور مرارا وتكرارا يفلش هيمنته الشكلية على النساء الشاكرات. يأمر ويمنع ويرفع الصوت ويأكل وقت الاوراق والنقاش بمحاضرة «إفتتاحية»، أيضا! استمراراً لإفتتاحية الامس. فيرسم لنا اطاره الضيق ويأكل علينا مزيدا من الوقت بمنع الحاضرات المدعوات من البوح «بأكثر من اربع كلمات…!». وهلم جرى من ممارسات تعرفها كل جماعة، انسانية او «نسوية»، اختلطت عليها الطقوس والاشارات وامتزجت بالـ«نقد»…
الاستاذ الباسط ريشه على الجلسة ليس وحده المسؤول عن نظام المؤتمر الهمايوني: مؤتمر الكلمات وغياب النقاش، أو سلقِه في افضل الحالات. الذي أكل الوقت ايضا هو عدد المداخلات في اليوم الواحد: 14 ورقة في اليوم الاول، 16 ورقة في الثاني، 18 في الثالث. واذا اضفتَ الى هذه الاوراق، المداخلات المكتوبة والشفهية التي ألقاها رؤساء الجلسات، فعليكَ ان تضيف ثلاث مداخلات لكل يوم، ليبلغ اجمالي الاوراق خلال الايام الثلاثة للمؤتمر: 57 ورقة، عدا كلمات الافتتاح الثلاث: أي 61 مداخلة! فكيف لك في هذه الحالة ان تفهم، أن تهضم، أن تستوعب، أن لا تضجر… ثم بعد كل ذلك ان تناقش او تسمع الاخريات يناقشن؟ لذلك بدا كأن الغرض من دعوة كل هؤلاء المستمعات هو حشد العدد الأكبر من الجمهور… ليس الا.
هذا كله كان يمكن ان يُحتمل لو ان هناك صلة تراكمية أو تكاملية أو تناظرية… للأوراق المختلفة. العناوين، الاسماء، الصفات، زوايا النظر والمناهج، كانت كلها خبطاً عشوائيا، لا تضاهي فوضاها غير المؤتمرات العربية، الذكورية، المشْبعة بالضجر والتثاؤب. لذلك، فان أي نقاش، أية كلمة تقولها حول هذه او تلك من الاوراق تأتي كالضرب في رمال الودَع: لا شيء جوهرياً، لاشيء جديداً، لا شيء نضِراً… يضيف الى وعينا أو مخيلتنا أو أحاسيسنا أو حدْسنا شيئا؛ أو يحرك في واحد منها ركوده المزمن. النقاش والكلمات كانت مثل الأسهم المتطايرة فوق رؤوسنا هنا وهناك، شمالاً ويميناً؛ وكأنك وسط عاصفة من الرياح العشوائية الضارب بعضها ببعض.
الورقة الغائبة عن مؤتمر النسوية هذا هي تحديدا تلك التي تجيب، او تحاول الاجابة، عن سؤال حول معنى النسوية، بعد «الجندرية» (gender) التي ازاحتها عن عرشها برهة من الزمن. وسمحت باختلاط الحابل بالنابل… فما الذي عدا مما بدى حتى عادت النسوية وغابت الجندرية مثلا؟ ما هو معنى النسوية المقصود؟ حتى جاءت الاوراق على هذه الدرجة من التخبّط المفهومي؟ وماذا تعني صفة «النقدية» لعنوان هذا المؤتمر عندما يكون النقد درباً من دروب تثبيت الثوابت؟ ثوابت الطبائع وثوابت الطُرق؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل – الاحد 18 تشرين الأول 2009 – العدد 3456 – نوافذ – صفحة 12
مؤتمر النسوية العربية يزداد ابتعاداً عن لغته الأم If I may respond with a story and a point. This is indeed a strange coincidence. I met an American in the US this past Saturday who went to ACS in the 1960s. He told me that he feels bad he never learned Arabic when he studied there. When I asked him why, he said they never taught it and added that the community at ACS “despised the Arabic language.” I asked him why. He said “they thought it irrelevant.” I assured him that this was no longer the case. I was… قراءة المزيد ..