نحن في العام 1880 ميلادية. السلطان عبد الحميد، المعروف بإستبداديته، غاضبٌ من صحافي شاب نشرَ قصيدة لم يأنس لها. لازمة القصيدة تقول: «ألن يحضر الربيع؟ ألن يحضر الربيع اذن؟». يأمر السلطان إذن حاجبه الكبير بإحضار الشاعر الصحافي وتلقينه درساً في الطاعة والولاء. الصحافي جُلب مرغماً من مكتب جريدته شبه المغمورة، وبقوة أمر الحاجب الكبير. وفي لقائه الهادر مع هذا الاخير، وبالرغم من خوفه الشديد، ينتبه الصحافي الى أن القصيدة المعنية ليست من تأليفه. فيمرّر بطاقته ويضعها على الطاولة التي امامه وهو يرتجف… يفهم الحاجب غلطته، يكاد يعتذر، ويعفيه من فصول التأديب أو التطويع.
بطل هذه السالفة والشاهد عليها هو الكاتب التركي احمد رسيم. أوردها في مذكراته «صحافي وشاعر وأديب»، بعد اربعين عاما من حدوثها. وقد خلص منها الى «حكمة»، أو قلْ «طريقة» في التعامل مع الكتابة واختيارات مجالات الكتابة. وقوامها: «اذا لم تجد موضوعا للكتابة، بسبب القيود والممنوعات السياسية، فاهتم بمشكلات البلدية وبالمدينة في عيشها اليومي. وهذا كفيل بأن ينجح في جميع الاحوال!». فكان نتاج احمد رسيم عن اسطنبول، مدينته، ما ندر إيجاده في نتاجات ادبية او صحافية اخرى. فقد وصف من غير كللْ سكارى اسطنبول وشحاذيها وعطاريها ومهرّجيها وموسيقييها ومشعوذيها. فضلا عن جمال ضفاف البوسفور والحوادث والجرائم والمسائل المالية، واماكن اللهو… الخ. كل جديد، كل غريب، كل زيغ ناجم من ثلاث: التغريب سريع الخطى في المجتمع نفسه، والهجرات، الداخلية خصوصاً، واخيرا التقلّبات والتبدّلات التي تسبّبت بها نزوات التاريخ. أي كل ما كانت تتّسم به عاصمة الخلافة العثمانية منذ 130 عاما. (القصة أوردها الاديب التركي اورهان باموك في كتابه «اسطنبول»).
الآن، المقارنة مغرية: بين احوال الكتابة والسلطة ومجالات الكتابة في العاصمة التي حكمتنا في أواخر العام 1880، وبين ما نحن عليه اليوم من عواصم انفصلت عن الحكم العثماني منذ 83 عاما، واستقلت عن الاستعمار الاوروبي من بعده، وبمعدل نصف قرن تقريباً. والمعني بهذه المقارنة ليس الكتابة الروائية او الادبية؛ بل الكتابة في الصحافة اليومية أو الاسبوعية سواء عبر زاوية او تحليل او تقرير او خواطر او مراقبة او حتى قصص قصيرة، من النوع الذي يستطيع القارئ المتعجّل انهاءه.
القيود والممنوعات اولا: ما زالت الحياة طويلة امامها. ومجالاتها الراسخة في الثلاثي الشهير الدين والجنس والحاكم. وتسميات الممنوعات لا تحصى: فهي الخطوط الحمر والسقوف والمحرّمات (الدينية وغير الدينية) والمقدسات والحدود القصوى الخ. تخرقها احيانا هجمات لامعة، تلفزيونية خصوصا، تصف نفسها بالـ«جريئة» (هناك برنامج تلفزيوني فضائحي عنوانه «الجريئة»). وهي اشبه بالغارات المدوية او المفرقعات، نادرا ما تراكم لمعرفة جديدة، لرؤية اخرى. أحيانا تثير هذه الهجمات الرغبة في ردعها من قبل الحاكم او السلطة، فتخرسها؛ وتنام الغارة او تخمد. لكن لا تطفئ شهوة الخرق المدوّي والمثير، مجرد الشهوة. وهي في النهاية هجمات عشوائية واستهلاكية. مثلها مثل الاعلانات او البرامج المنسوخة الحاملة لهذه الإيماءت… مما سهّل اختلاط الحدود بين الممنوع والمسموح. وصرتَ ترى أنظمة عريقة في خرقها لحقوق الانسان تعرض جائزة «حقوق انسان» في الأدب او النضال، جائزة مكلّلة باسم رئيس هذا النظام. بل جوائز لحرية الصحافة تمنحها جهات «مستقلة» لمن يخرق هذه الحقوق يوميا في مراسه المهني. وهو عادة على رأس هذه المهنة، صاحب السلطة الأعلى فيها، «حاكمها».
والناقد للإستبداد او المناهض له لا يبتعد عن هذا المناخ: من الرائج في عهدنا الراهن ان تكون نفس القصيدة التي أقلقت السلطان عبد الحميد هي بقلم واحد من ملمِّعي الاستبداد. فان تقول اليوم: «ألن يحضر الربيع؟ ألن يحضر الربيع اذن؟»، فذلك لم يعد يشكل خطراً من بطش حاكم. بل قد يصدر مثل هذا القول عن واحد من هذه الاقلام المعروفة بالولاء له؛ وذلك لشدة ما فقدت الكلمات نداوتها وصار المستبدون وسندتهم يلوكون الأفخم منها، ومن أعلى منابرهم.
والذي أحيا هكذا إلتواء هو نوع المربّعات السياسية-الفكرية التي يحيا فيها الكاتب. هو حر، من داخل هذا المربع ان يتناول هذا النظام أو ذاك؛ شرط ان لا يكون نظام مربّعه، شرط ان لا يقترب من الاسس التي استقرت عليها توجهات مربّعه. اما ما يثيره مربَعه هو من شجون استبدادية، فقد تدرّب الكاتب مطولا على إسكاتها… حتى في سرّه. وهذه إشارة ذكاء ودليل وفاء من قبله.
البساطة العثمانية في مجال البلديات واليوميات لا تقلّ عنها في مجال الحريات. المجتمع العثماني كان سائرا باتجاه واضح: التخلّص من الماضي والسير بالمستقبل عبر تبنّي حضارة الغرب الاوروبي بمجملها؛ وبالقدر الذي كان يسمح به ضعف التقاليد وتهافتها. والبساطة هنا لا تعني حسن السبيل. والدليل العودة عنه وبقوة التقاليد التي بدت آنذاك بالية. لكن القصد ان حركة المجتمع ذات الخط الصريح كان يمكن مراقبتها بنوع من المنهجية، كما فعل احمد رسيم.
اليوم، أيضاً، الحركة اكثر تعقيدا عما كانت ايام العثمانية. لم نعد في زمن الابتهاج بالحداثة الغربية والاقتداء بها. ولا تحقّقت رؤى الخائبين منها او الناقمين عليها، من اننا عائدون الى زمن الرسالة المحمدية الاولى. المجتمع غائص داخل عالمين وخارج عنهما في آن. عالم الغرب المعوْلم بسوقه ورقميته وإعلامه وابحاثه الجينية، والذي يشير الى المستقبل. وعالم الشرق الغيبي، المعوْلم ايضا، والأبعد عمقا من التاريخ الجاهلي. الاثنان من عوالم اخرى غير عالم «اليوميات والبلديات» الذي نصح احمد رسيم بالانكباب عليه. الاثنان ينطويان على تقدّم وتأخّر في الحركة نفسها. والحركتان من غير هدف منظور محدّد ومعقول. من غير قرار نهائي. تتعدد بداخله الاتجاهات ويتبعثر فيه الزمن. فلا نفضي الى اي مكان، ولا نستطيع ان نتوهّم الى اين نفضي. مثل رقصة فالس لا تنتهي. شيء يبعث على الدُوار.
ربما لهذا السبب تلجأ الكتابات الى الموضوعات التي لا تجسيد لها الا في مستقبل غامض وغير منظور. دولة أو مقاومة. حرب أو سلم. خلافة أو ديمقراطية الخ… وكل ما يندرج تحت هذه الموضوعات من خصومات وسجالات ومواجهات فكرية، مكرّرة غالب الاحيان، وبأقصى اللغة العمومية الممكنة.
تتطلّب الديناميكية الخاصة بالكتابة في هذه الاحوال إعادة إختراع موضوعاتها، أو مجالات إهتمامها ومتابعتها. وقد تجد في هذه المجالات كل ما هو: غير ذي معنى، هامشي، غير مفيد، شخصي، عابث، متقلّب، زائل، زائغ الخ. قد يكون في هذه الاشياء الفاقدة للهيبة او الوزن، معاني للكتابة، تنتظر من يسمّيها. معان حجبتها فتنة الموضوعات والمجالات التي يهتم بها الجميع، الموضوعات-النجمة… فلا ننسى ايضا اننا في عصر النجومية، عصر الآلهة المجسَّدة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل