حسن خضر
في أواخر السبعينيات عُرض على ألبرت حوراني العمل كمستشار أكاديمي لسلسلة برامج متلفزة بعنوان “العرب” تستهدف التعريف بالثقافة العربية. كان التمويل خليجيا، وأدرك حوراني بعد الموافقة أن القائمين على المشروع لم يكونوا معنيين في الواقع بالثقافة العربية، بل كان يعنيهم نقد المجتمع العربي الحديث.
وقد دأب مخرجو السلسلة على تصوير مشاهد كثيرة وعرضها عليه، وعندما يقول بأنهم أخفقوا في القبض على المعنى المطلوب في سلسلة كهذه، يرد هؤلاء: “فات الوقت، ولا نملك المزيد من الوقت، والمال، وينبغي الاكتفاء بما توفر حتى الآن”. لذا، يقول حوراني: سار كل شيء بطريقة خاطئة.
من حسن الحظ، طبعا، أن حوراني استفاد من الملاحظات والمسوّدات الكثيرة التي وضعها آنذاك في كتابة عمله الموسوعي الكبير “تاريخ الشعوب العربية”، ومن سوء الحظ أن ملاحظاته بشأن التلفزيون لم تحظ بما تستحق من اهتمام في أوساط المثقفين العرب. فلدى العاملين في التلفزيون، كما يقول، ممانعة مهنية لقول الأشياء بالكلمات، كل الأشياء لديهم مشاهد بصرية. الكلمات تُكتب على هامش المشهد في اللحظة الأخيرة، وهم يطلبون أقل قدر من الكلمات. وهكذا: “لديك ثلاثون ثانية لشرح الإسلام في خمس وعشرين كلمة”.. “إنني أشعر بنوع من الاحتقار للتلفزيون”.
هذه شهادة أكاديمي كبير. كلما فكرت في الأمر أجد نفسي مضطرا للبحث عن أسباب موضوعية تبرر الاحتقار. فمن عاشوا في زمن ثقافة الكتاب يجدون صعوبة خاصة في التأقلم مع ثقافة الصورة. وهذه مسألة موضوعية تتعلّق بالعمر والذائقة، وبالفرق بين الأجيال.
ولعل في احتقار كهذا ما يعيد التذكير بموقف الشعراء الرومانسيين في زمن الثورة الصناعية، عندما تحوّلت الآلة في نظرهم إلى وحش يهدد بابتلاع الكون، وتخريب العلاقة بين الإنسان والطبيعة. هنا، أيضا، نعثر على عامل العمر والذائقة، وعلى ما يميز جيلا عن جيل آخر.
بيد أن الخوف من الثورة الصناعية، وما رافقها من آلات واكتشافات، لم يوقف مسيرة التقدم التقني. وأشعار الرومانسيين في الوقت الحاضر لا تسعف، ولا تثير اهتمام، ملايين من الشبّان والشابات الذين يقيمون صلات عابرة للقوميات والحدود، وفي حالات كثيرة، للغات، على شبكة الإنترنت.
الاحتقار، بدوره، لن يعرقل سيرورة تحوّل الصورة إلى وسيط بين الإنسان والكون. هل سنفقد الكثير؟ الجواب: نعم، بالتأكيد. ولكننا سنربح الكثير أيضا. وهذا وذاك من طبائع الأمور.
بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الكبير، اقترح على المثقفين عدم الوقوع في غواية التلفزيون. فالجانب الأهم، والكلام لبورديو، أن الجانب المهني للتلفزيون يقوم على مبدأ التنافس، وهذا يبرر ضرورة السرعة، واغتنام الفرص للفوز بموضوعات قادرة على جذب اهتمام المشاهدين.
ولن نعثر على تحليل للآثار بعيدة المدى لثقافة الصورة على مجتمعات بني البشر أفضل من مقاربة مارشال ماكلوهان، التي تُختزل، عادة، في عبارة واحدة هي: الواسطة هي الرسالة والرسول. والواسطة، هنا، ليست ما نراه من صور فردية لأحداث فردية، ومن مشاهد مستقلة، بل كل الصور مجتمعة في شيء اسمه الصورة بالمعنى الحصري والمجرد للكلمة.
الخلاصة، وما زلنا نتكلّم عن ماكلوهان أن الصورة بهذا المعنى تؤدي إلى تبلّد الحس، وتسطيح المعرفة. وإذا أضفنا إلى ذلك تقنيات التسويق المستمدة من منطق العرض والطلب في السوق، وتسليع الواقع بعد اختزاله وتحويله إلى صورة تمحوها صورة أخرى، وهكذا دواليك، سنجد أنفسنا أمام ما يشبه نهاية التاريخ.
ومع ذلك، لا نهاية محتملة للتاريخ. فخلاصة كهذه تبدو وكأنها هبة من السماء لكارهي العولمة، والمذعورين من انهيار العادات والتقاليد، والخصوصيات الثقافية..الخ والكارهون قد يأتي بعضهم من أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
كل ما في الأمر أن عالما جديدا يتشكّل، وأن الأحياء الآن وهنا لا يدركون، بالضبط، ما الذي سيحدث بعد عقود قليلة، طالما أن السرعة الحالية للتقدم التقني غير مسبوقة. وغالبا ما تقع أخطاء كثيرة عند محاولة ربط التقدم التقني بفكرة التقدّم، التي كانت هاجس الأيديولوجيات الكبرى التي ورثناها من القرن التاسع عشر، والتي هيمنت على القرن العشرين من أوله إلى آخره.
الفترة ما بين الحربين الأولى والثانية تشبه بالمعنى الأدبي زمنا ذهبيا لليأس. في ذلك الزمن ظهر أورويل، وكوستلر، وهوكسلي. وربما نتمكن بفضلهم (وقد وضعوا فكرة التقدّم تحت ضوء ساطع، وأظهروا اهتماما نقديا ساخرا بالتقدّم التقني، خاصة الثاني والثالث) من فهم ما يشبه زمنا ذهبيا جديدا لليأس بطريقة أفضل.
في العالم العربي، إذا شئنا التخصيص، في الزمن الذهبي الجديد لليأس، ثمة أكثر من أخ أكبر يطل من شاشات كبيرة صباح مساء. وثمة جماهير عريضة وغفيرة تؤمن بأن الحرب هي الحب. وهناك، أيضا، فئات ثلاث من بني البشر، الأولى للحكم، والثانية للشغل، والثالثة للمنفى والنبذ. وفي الخدمة “مفكرون” يشرحون في ثلاثين ثانية ما هو الإسلام، وما هو السلام، ثم تتغيّر الصورة فتنتقل الكاميرا من غزة إلى دارفور، ومن دارفور إلى أفضل أنواع الشامبو والبخور. بعد الدوام يعود مقدمو البرامج إلى بيوتهم، وينام “المفكرون” بعدما ازداد الرصيد في البنك، ويرتاح المشايخ والزعماء، وعمّال النظافة، والأرشيف، والكافتيريا..الخ أما الكاميرا فلا تنام بل تجوس الليل والنهار مثل كلاب الصيد بحثا عن صور وعن جثث جديدة.
Khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني- باريس
جريدة الأيام