كنا وما زلنا وسنبقى بحاجة الى التجربة لتصحيح أفكارنا، والتي تستبد بنا في حالات التوتر خاصة، لما يشوبها من إطلاق وتعميم يغلقها على النقد والمراجعة. لقد كنا – مثلاً – بحاجة الى الدخول في تجربة مع رجال الدين عموماً. وحملة المشروع السياسي الديني او الديني السياسي منهم خصوصاً، سواء منهم اولئك الذين يستندون الى نظرية الخلافة العظمى من السنة (القاعدة – طالبان الخ) مع العلم انه بدءاً من خلافة ابي بكر “رض” وطريقة استخلافه تم الفصل بين الديني والزمني كمترتب منطقي على وفاة الرسول “ص” او اولئك الذين يستندون من الشيعة الولائيين على “ولاية الفقيه” المطلقة خلافاً للاغلبية الساحقة من فقهاء الشيعة، ويزينون أطروحتهم الدينية السياسية في بناء الدولة ومؤسساتها وتحديد مصادر شرعيتها الشعبية اللاحقة بشرعيتها الدينية او الالهية المؤسِّسة، يزينونها او يوشونها او يطرزونها بخيوط ملونة وناعمة، من الحرية والديموقراطية والتعددية، لذر الرماد في العيون، أو ريثما يتمكن المتمسكن، وتتكشف الحقائق والنيات إبان الاستحقاقات الكبرى (الحركات الشعبية او الطالبية المطلبية، حركات الاعتراض على نقص الحريات، او المغامرات العسكرية، الانتخابات النيابية او المحلية او الرئاسية الخ).
كنا بحاجة الى التجربة في السودان والصومال وأفغانستان وايران، لا لنتشبث بضرورة التمييز بين الديني والسياسي وبين الدين والدولة وبين الدين والفهم البشري له، وبين المقدس والتاريخي، وبين المطلق والنسبي، وبين الدين والإيمان، وبين الخلاص الفردي وتوهم الخلاص الجمعي او الجماعتي، الخ… من اجل الحفاظ على الدين والدولة وحفظ كل منهما للآخر وبالآخر من خلال هذا التمييز، حيث يؤدي الخلط الذي لا يكون الا عشوائياً بين الدين والدولة، بسبب اختلافهما المنهجي معرفياً وعملياً، الى الغاء الدين بالدولة والغاء الدولة بالدين، اي الغاء الضرورة (الدولة) بالحرية (الدين) على اساس بطلان الإكراه وكون الإيمان لا الإعلان معياراً حاكماً.
بل وأيضاً لنكف عن المراهنة على مدنية رجل الدين إلا اذا اختار السلوك المدني والتزم به، والا فهو غير مدني حتى يثبت العكس، وحتى لا نظلم فإننا نصدق بأن هناك مدنيين حقيقيين بين رجال الدين، منهم من كان كذلك اصلاً ومنهم من اصبح كذلك لاحقاً متحملاً النفي والإبعاد والحصار والنبذ والتكفير والقتل أحياناً.
وهناك مدنيون من رجال الدين، أي يحبون ان يدخلوا مع الدين الى المدينة كنظام قيم يحرسها ويحبون ان تذهب المدينة الى فضاء الدين لتستروح، أي لتكتسب في عمارتها وعمرانها ونظام علائقها روحاً يأتي من الغيب ليبعث في الحضور وفي الشهود نسيماً عذباً وضرورياً لجماليات الكون والحياة والإبداع… والمدنيون هؤلاء، كبار كبار عادة يبلغون غاية في العلم الديني فيكتشفون أهمية المدينة وعمومياتها القانونية التي تضبط الخصوصيات وتحولها الى مصادر حيوية، اي تحمي التعدد او الخاص بالوحدة او العام، وتثري الوحدة وتضمنها بالتعدد… (من يستطيع ان ينفي او ينتقص من مدنية السيد علي السيستاني المرجع الديني، الذي بلغ من الدين علماً وعملاً وتديناً انه اصح من ارفع وأسطع مصاديق المدنية وأبناء المدينة؟؟؟
حتى الآن اردت ان ينصب كلامي على رجال الدين المسلمين، لأن رجال الدين المسيحيين، فيهم نسبة كبيرة جداً من المدنيين الروحانيين، أما الآخرون فقد اصبحوا مدنيين طوعاً او كرهاً بموجب الدولة العلمانية، التي حررت المسيحية من الكنيسة وحررت الكنيسة من كهنتها وحولتها من الحجر الى البشر، لتعود العلمانية فترتكب موبقاتها من دون ذريعة دينية. وإن كان علمانيون كثر من الحكام (مسلمين ومسيحيين) يعودون الى الدين ليتذرعوا به في تغطية ارتكاباتهم.
وهذا لا يمنع من ان يكون عدد من رجال الدين المسيحيين يمارسون عنفاً غير مباشر بحجة الدينونة او دوافع محض ذاتية، ويبدون ميلاً غير عادي لإلغاء الآخر تعويضاً عن العنف السلطوي (الدولتي) الممنوع او المكبوت، بالعنف الايديولوجي الديني ومن خلال السلطة الطوعية التي يحصلون عليها من رعاياهم باعتبارهم طرقاً حصرية الى الله والآخرة!!!.
أحاول في ما يلي ان اقدم شهادتي في مسألة انزلاق رجل الدين الى قاع السلطة او التسلط من خلال معرفتي المباشرة بآليات التدريس في الحوزات الدينية.
في مناهج هذه الحوزات يُعتمد التدريس المتعدد المستويات والمراحل لأحكام الفقه الاسلامي، التي تطال كل شيء في تصرفات الفرد، على اساس ما تم التفاهم عليه من ان “لكل واقعة حكماً ومن دون استثناء – من العطاس وتقليم الأظافر والدخول والخروج من دورة المياه الى عدم جواز السلام او رد السلام على الكتابي الى أحكام الزواج والطلاق والمضاربة والمزارعة والتجارة – خاصة تجارة الرقيق)… وهذا الحكم هو حكم الله في حق الفرد (المكلَّف) وان كان الذي توصل اليه بشر يخطىء ويصيب سواء كان مجتهداً حقاً أو مدعياً للاجتهاد.
ومن دون ان يكون بإمكان اي فقيه او مدع للفقه أن ينكر ان لفقهاء آخرين رأياً آخر في المسألة نفسها. بلى يستطيع الفقيه ان يعمم رأيه الى حدود بعيدة ويغطي على الآخرين، اذا ما كان مدعوماً بسلطة علمانية او دينية قابضة وغنية تستطيع ان تحول موظفيها وأجهزتها الأمنية الى دعاة له. وفي العادة ان تكون مرجعية فقهاء من هذا النوع مرهونة برضا السلطة وتكرمها عليه، بينما عرف المسلمون مرجعيات لم تفكر بأن تكون مرجعيات، بل فكرت بالعلم والدين فقط، وفي لحظة من حاجة الناس الى المرجعية الأمثل اصبحت مرجعيات باختيار حر من المكلفين والمؤمنين، لا باختيارها، فرضخت لإرادة هؤلاء الناس الأبرياء من إملاءات الرعاية وإغراءات المكاسب، الذاهبين الى المرجع مقدمين لهم بعضاً من جنى العمر حباً ورغبة وثقة بوصوله الى المستحقين من الفقراء وطلاب العلم الحقيقيين.
ومن بداية المرحلة الاولى للدراسة في الحوزات والمعاهد الدينية، مرحلة المقدمات في اللغة والمنطق والفقه، يبدأ الطالب بتلقي او تعلم الأحكام الفقهية الأولية، ومن دون أي استدلال علمي بآية او رواية أو اصل او قاعدة فقهية (فتاوى خام) مع الاهتمام المميز بأحكام العبادات، اي الحرام والحلال والواجب والمندوب والمكروه في الطهارة والصلاة والصوم والحج الخ.
وهنا يقع الفتى المراهق المتعلم الآتي خالي الذهن وفي الأعم الأغلب من الأرياف او من طبقات مقموعة او مهمشة بشكل او بآخر وبفعل سلطة المال او سلطة السلطة، يقع على باب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من ابواب الفقه العبادي، ومنه يدلف الى مصاديقه في ممارسات الناس من ترك الصلاة سراً او علناً الى حلق اللحية وترك الصوم او التقاعس عن الحج او عدم تخليص المال بالخمس او الزكاة، الى تبرج النساء واختلاطهن بالرجال وتسامحن في حسن التبعل لأزواجهن، الى أحكام التعامل مع الشرطة وشركة الكهرباء والمياه حيث تلزم القواعد الفقهية بعدم المخالفة لأن من مقاصد الشريعة حفظ النظام العام، ولكن الشيخ الفتى يذعن لاصرار الأهل على المخالفة وينظر لها بأن مال الدولة، لأنها جائرة اي غير دينية، مجهول المالك، لأن هذه الدولة لا تملكه، فيجوز التصرف به بناء على رخصة من الحاكم الشرعي (اي المجتهد) في حين ان اخانا ما زال في مرحلة دراسة المقدمات، اي بينه وبين الاجتهاد عقدان من السنين، اذا ما جد جده. ويتعلم الطالب احكام التعامل مع الحاكم الظالم، وكل حاكم مدني ظالم، وإن جاز قبول هداياه وأعطياته او كان حليق اللحية او يتناول قليلاً او كثيرا من الخمرة ويصافح النساء، كما تجوز الوظيفة في مؤسسات الدولة قضاءً وافتاء والتعامل الزبائني مع المحاكم في الحصول على الوظيفة او الترقية فيها.
الى أحكام الحدود والتعزيزات الشرعية – العقوبات البدنية – على الجرائم والجنايات المالية والاخلاقية والجسدية والدينية. وهنا يشعر الطالب بأنه في مدرسة (كادر) او كلية حربية او معهد قضائي، ومنذ شهوره الاولى يبدأ بالتفكير بالعودة الى قريته ليمارس سلطانه على امه وابيه وجدته وخالته وجارته ومختار الضيعة ورفاق طفولته فيها وعلى مختارها ورئيس بلديتها ومعلمها ومعلمتها خاصة باعتبارهم سلطة بديلة غاصبة او موازية لسلطته الشرعية… وهم جميعاً قد قالوا له عندما ودعوه انه من الضروري أن يمكث عدة سنوات ليعود على مقدار من العلم يفرض به هيبته عليهم وهم يعتزون به، ويكون أقدر على الاندماج بهم او العودة الى الاندماج كما كان عندما كان شريكاً في حقول التبغ والحنطة زراعة وقطافاً وحصاداً… وعتابا وميجانا وحباً ومطاردة للحساسين. ولكن السلطة بمعنى التسلط او التغلب تقوم على الانفصال والفصال، اي انفصال الحاكم عن المحكوم والفصال الدائم معه لأن الوئام يقرب المسافة ويقلل من السلطة. وهكذا يقيم شيخنا الذي لتوه قد بان على صدغيه ريحان عذاره الاسود، والذي لم يتعلم بعد لف عمامته اذا ما انفلشت او فلشها طفل عابث، يقيم سلطته على مزاجه وإن لأشهر معدودة، وفي حدود ما يتيسر له مع امتعاض معلن أو مكتوم من أهله وأهل ضيعته. ويظهر عليه الضيق والتبرم والحنق والغضب لأن يد الشرع غير مبسوطة، أي إن الفقيه لا يستطيع أن ينفذ الأحكام بالمخالفين جلداً أو رجماً أو تعزيراً أو مقاطعة للمقترف في دكانه أو منزله أو عائلته الخ. ما يقتضي أن يكون هناك دولة إسلامية يبدأ التفكير بإقامتها ويبدأ بالبحث عن حزب سياسي يحمل أطروحتها لينتمي اليه باعتباره طريقاً مؤدياً الى الآخرة مروراً بمزرعتها في الدنيا.
وقد منّ الله علينا بأحزاب تحمل هذه الاطروحة وتملك كل الإمكانات واللياقات التي تجعلها وعداً حقيقياً بدولة إسلامية قادمة وإن كانت مؤجلة في لبنان لظروفه الخاصة التي تملي التسامح في كثير من الاساسيات الفقهية بسبب التحالفات الضرورية والسلوكيات التي تقتضيها ما يؤدي في النهاية الى الفصام التام بين الغاية والوسيلة. مبرراً ومسوّغاً ذلك بفلسطين ومصلحة المسلمين أو مصلحة الطائفة. وقد أصبحت الأطر الحزبية مكاناً طبيعياً لمعاقرة الاحلام وتحقيق الآمال وأصبحت السياسة غالبة وتراجع منسوب الموعظة في الخطاب الديني لأولوية السياسة على الدين من أجل الدين طبعاً!!! وهذا ليس مسّاً منّا بالمقاومة والتحرير، والذي نخشاه أن تصبح المقاومة ذريعة للمس بنا، بأفكارنا وعلاقاتنا وخياراتنا وحرياتنا وعباداتنا الخ.
عود على بدء… كيف يمكن أن نقنع من ينشأ على هذه الحال أن لا يشتهي السلطة، وأن يطرد السلطان الذي ارتدى جبته؟ ليكون مدنياً، مواطناً مدنياً، ليستريح ويريحنا، ولا يغتر بأدب المجتمع الأهلي واحترامه للرموز الدينية، فيقفز من ذلك الى شهواته السلطوية او التسلطية. هذا أمر يتصل بثقافة مجتمعية وافية من هذا المرض القاتل، وبالتالي ثقافة تفضي الى دولة تحترم الدين وتحميه كمكون، من دون ان يعني ذلك ترخيصاً لرجال الدين أن يتدخلوا في السياسة باسم أديانهم وطوائفهم، بل كأفراد مواطنين ذوي حقوق سياسية كغيرهم.
إن تسامحنا او تراخينا في هذا الشأن، مضافاً الى قصور وتقصير مؤسساتنا المدنية وأحزا بنا السياسية وانكشافاتها التي أكدت انها ناقصة المدينة، وجاهزة للإلتحاق والإنسحاق أمام الأحزاب المذهبية عندما تقوى او تستقوي أو تغلب أو تتغلب، الى قصور الدولة وتقصيرها وطائفيتها وزبائنيتها، الى أسباب معرفية وأسباب سياسية، خارجية وداخلية، كل ذلك أوقعنا في محذور اخطر وأدهى. فقد انتهينا الى أن مجتمعنا الاهلي الذي كفّ عن ان يكون اهليا، بمعنى المودة والرحمة والتراحم والتواصل، قد أصبح (“سوبر مذهبي”).
وارتضى، المجتمع الأهلي، المذهبي الآن، أن يكون رجل الدين، أي رجل دين، ولأنه رجل دين، وبصرف النظر عن علمه وتقواه، هو المقدم والأول في التراتب السياسي، وان يكون هو، أي المجتمع الأهلي، بكل حساسياته وثقافاته وراء رجل الدين هاتفاً ذاهباً في الانقسام الاجتماعي الى وديانه السحيقة.