والسؤال إذن:
ما الوَهْم؟
الوهم هو إدراك كاذب سببه ما يضاف إلى الإدراك من عوامل ذاتية. وهذه العوامل مردودة، في رأي فرويد، إلى رغبات دفينة ليست من نتاج التجربة أو العقل، وإذا كان كل من التجربة والعقل على علاقة مع الواقع فإن هذه الرغبات هي بالضرورة منفصلة عن هذا الواقع، والانفصال عن الواقع نوع من المرض العقلي اسمه “شيزوفرينيا”، أي الفصام، ومن أهم ملامح هذا المرض التجول الذهني في عالم الخيال والوهم مع اعتقادات باطلة وأفكار الاضطهاد والعظمة.
وقد مرت أوروبا بشيء من ذلك المرض العقلي، فمنع العقل من التطور في فترة العصور الوسطى، حيث تحريم الكتب التي يظن أنها ضد الدوجما، أي ضد المعتقد، أما العالم العربي فأظن أنه ما زال يعاني من ذلك المرض، ودليلنا على ذلك سببان:
السبب الأول مردود إلى مواصلة تحريم الكتب وتكفير المفكرين بلا انقطاع.. والسبب الثاني مردود إلى رفض التطبيع الثقافي في مسار السلام. والذي يعنينا، في هذا المقال، هو السبب الثاني، وذلك بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، وما يقال عن هذا السلام من أنه في أزمة، وإذا كانت الأزمة تنطوى على تناقض فأين يكمن التناقض في ذلك السلام؟
ونجيب بسؤال:
ما السلام؟
علينا التفرقة بين معنيين للسلام، أحدهما سلبي والآخر إيجابي. السلام بالمعنى السلبي عندما نقول عن دولة ما إنها تحيا في سلام مع دولة أخرى. هذا المعنى يعني غياب حرب راهنة، أما السلام بالمعنى الإيجابي، فهو عندما نقول إن السلام قائم بين شعبين يحيا كل منهما في مجتمع علماني وتحت حكومة علمانية، ومن ثم فهو لا يستند في حكمه إلى “دوغما”، أي إلى ما هو مطلق، وإنما إلى ما هو نسبي.
والسؤال إذن:
أي سلام هو المقصود في معاهدة ١٩٧٩؟
أظن أنه السلام بالمعنى السلبي، لأن تلك المعاهدة لم تتم بين شعبين بل بين رئيسي دولتين، هما بيجن والسادات. بيجن هو رئيس حزب أصولي يهودي هو الليكود، والسادات رئيس مصر، الذى اصطنع تدعيم أحزاب وحركات أصولية، ومعنى ذلك أن المعاهدة تم عقدها في مناخ أصولي إقليمي، ولكنه محاصر، وفي نفس الآن، بمناخ أصولي كوكبي. فقد أصدر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في بداية عام ١٩٧٩ قراراً بتدعيم طالبان الأصولية في حربها ضد الاتحاد السوفيتي، وفي نفس ذلك العام اشتعلت الثورة الإسلامية الأصولية في إيران.
والسؤال بعد ذلك:
هل كان في الإمكان تحويل سلام بالمعنى السلبي إلى سلام بالمعنى الإيجابي، أي تحويله من سلام قابل للبتر بسبب الأصولية إلى سلام غير قابل للبتر؟
إذا كانت العلمانية نقيض الأصولية فالمطلوب إذن توليد تيار علماني يزيح الأصولية ويدفع الشعبين إلى العلمانية. وكان هذا هو رأيي الذى أعلنته في “حوار لويزيانا” بكوبنهاجن فى نهاية شهر يناير من عام ١٩٩٧، والذي كان قد جرى بين مصريين وفلسطينيين وأردنيين وإسرائيليين، وقد أدين هذا الحوار من قبل المثقفين العرب استناداً إلى قرار الجامعة العربية برفض التطبيع الثقافي.
والسؤال إذن:
ماذا يعني التطبيع الثقافي؟
التطبيع يعني إحداث تغيير في شيء ما بحيث يعود إلى حالته الطبيعية، فإذا أضفنا صفة “الثقافي” إلى التطبيع يكون معنى ذلك أن الحالة الثقافية بين الشعبين العربي واليهودي حالة مرضية والمطلوب عودتها إلى الحالة الطبيعية، أي الصحية، وهي لن تعود إلا بفضل الأطباء، والأطباء هنا هم المثقفون، ولكن ماذا يكون الحال إذا كان المثقفون أنفسهم مصابين بوهم اسمه “شيزوفرينيا ثقافية” أي بوهم أن ثمة ثقافة ينبغي رفضها وهي الثقافة اليهودية.
والسؤال إذن:
كيف نرفضها ونمتنع عن التعامل معها ونحن نحيا في مسارها؟
إن الفيزياء النووية التي نشأت فى ألمانيا مع بداية القرن العشرين وأسهمت فى تفجير الثورة العلمية والتكنولوجية هي من إبداع نفر من العلماء معظمهم من اليهود من أمثال أينشتين ونيلز بوهر وهيزنبرج، والوضعية المنطقية التى نشأت في فيينا في عام ١٩٢٤ وأسهمت في تغيير الرؤية الفلسفية هي من إبداع نفر من علماء الفيزياء والرياضة معظمهم من اليهود من أمثال شليك وإير وكارناب.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى ذلك أن مصطلح “تطبيع ثقافي” هو في أصله وهم تم إدخاله في مسار السلام، فإذا أردنا السلام فعلينا بإخراجه من مسار السلام.
نقلا عن المصري اليوم