بداية ان من احقاق الحق ان يفعل المرء ما يجب فعله في وقته دون النظر الى ما قد يتسبب ذلك من آثار جانبية تعود على المرء سلبا. ومن الشهامة الا يتأخر تصحيح الخطأ، لذا فإن اطلاق سراح الضباط الأربعة هو خطوة محمودة بالتإكيد وهو خطوة في الطريق الصحيح لا جدال.
سمعت الخبر اول ما سمعته من “البي بي سي” الإنجليزية يوم إعلان النبأ. و سررت لسرعة تنفيذ القرار. ثم واكبت الأحداث التالية لإخلاء سبل الموقوفين الأربعة ولاحظت سيل الإتهامات و الحملات المضادة للحكومة واركانها و من ثم صيحات المحاسبة والتصحيح والإقالة و غيرها كثير من المواقف المشابهة.
التصحيح واجب، و متأخر ولبنان يطلبه قولا ويعز على هذا البلد الصغير ان يبلغه فعلا.
في لبنان ليس هناك ساسة للوطن. هناك ساسة للمصالح الشخصية والطائفية والخارجية – والأخيرة لعلها الأهم- وهذا ملاحظ ولا يكاد يكون موضع جدل.
ما يعنيني هنا هو الحملة لمضادة العنيفة من قبل احزاب المعارضة ضد الحكومة، والتي ستستعملها لتستثمرها سياسيا قدر الإمكان – وهذا في حد ذاته غير مستغرب البتة لأن السياسة تدار هكذا – ما يعنيني في هذه الحملة ان تعم ولا تخص. كيف؟ اقول لكم..
مشكلتي مع هذه الحملة اننا في لبنان – كما يبدو لي – بلا ذاكرة. فجأة المحاسبة و التصحيح و الإقالة مطالب المعارضة وكأن القوى التي كانت بالأمس القريب – قبل ١٤ شباط ٢٠٠٥- لم تحبس او تعتقل او تظلم و لم ترم بعض الناس في غياهب السجون. وكأنها حكمت بالمنهاج المستقيم والصراط القويم . وكأنها لم تخرج السياسة من اروقتها السليمة الى الشارع وتغلق وسط المدينة وتخرج الكثير من اصحاب العمل من مصالحم، تفقرهم! ثم كأنها لم تشن قبلها حربا مدمرة جزءا لا يستهان به من هذا البلد الصغير ومكلفة الإقتصاد ما لا يحتمل، وكأنها لم تنقلب على اهل البلد في ايار المنصرم وتروع اهلها.
نعم للمحاسبة والتصحيح. تحاسَب المعارضة على ما سبق ذكره وغيره، وتحاسَب الحكومة على التقصير وقرارات خاطئة واهمال وتسيب، وتحاسب على انعدامها للحكمة و للعمل الموجه الذى يجنب البلد مواجهة لا يخرج منها الا منهكا مشتتا، يئن اهله كل يوم سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و صحيا..
فلنحاسب الجميع، علّنا نفوز بطبقة سياسية اهدأ نفسا واقل تورطا في هذه الثارات السياسية القذرة.
سرعان ما ينسى المرء ذنوبه و عنجهيته ونزواته حين يعلو عليه غيره ويتحول بقدرة قادر الى مظلوم برئ خالي من العيوب والأخطاء. والناس تنسى لأنها بلا ذاكرة او لأنها تنساق خلف القائد الفذ وخلف شعاراته -ايا كان حزبه و تقريبا بلا استثناء – لأنه قائد معصوم يوشك ان يكون اماما.
من ظلمَ الضباط حق له ولنا كشعب ان يعاقب ويقتص منه شرعا و قانونا. و من ظلمهُم الضباط حق لهم ان يُعاقبوا ويُقتص منهم شرعا وقانونا، لكن العدل عزيز للأسف مفتقد. وفي احسن حالاتها، عدالتنا عرجاء.
قبل ان ننسى، اطلاق الضباط لم يكن تبرئة رسمية لهم من التهم، انما كان عملا وفق اصول القانون الذى يفترض البراءة حتى يتم الدليل وكما ظهر لنا من يومين ان الدليل القاطع لم يتم، فتم إطلاقهم و حسنا فعلوا دون ادنى شك. كذلك لا يجب ان ننسى ان التحقيق مستمر و كما سحب بعض الشهود افاداتهم بنيت عليها قرارات التوقيف، فإن المحكمة قد تصل الى ما يستدعي توقيفهم مستقبلا – و ان كنت آمل الا يكون هذا ابدا فلا يسعدني شئ اكثر من يكون المجرم الذي اغتال رفيق الحريري خارج قمة هرم السلطة اللبنانية، لأنني آمل الا تكون الدولة -ممثلة برؤساء بعض مرافقها – قد إغتالت من كان يوما رئيس حكومتها. فذلك انحطاط لا يبغيه مواطن لوطنه ابدا.
اتمنى حقا ان تكون المحكمة غير مسيسة و ان تكون هذه احدى دلائلها، لكن الله وحده العالم.
…….
هل يعرف ما لا نعرف؟
يتسائل روبرت فيسك وهو الكاتب المخضرم الذي ناصر قضيتنا اللبنانية -والفلسطينية- عبر اكثر من ثلاثة وعشرين عاما ساكنا أكثرها في بيروت مراسلا لإحدى اهم الجرائد السياسية الرصينة البريطانية -ذي اندبندنت- في عنوان مقاله المؤرخ ٣٠ نيسان ٢٠٠٩ وبمناسبة الإفراج عن الضباط: “هل هذا هو الثمن لصداقة اميركا الجديدة مع سوريا؟”
مقلق هذا السؤال.
doctor.nassar@googlemail.com
* كاتب لبناني