لقد ظهرت على السَّاحة السياسية منذ أوائل القرن الماضي مجموعة من القضايا الفكرية والمسائل السياسية فرضها الواقع الجديد الذي حصل قبيل الحرب العالمية الأولى وما بعدها في المنطقة العربيّة التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية المعتمدة على نظام الخلافة الإسلامية وقد أصبحت المنطقة العربية وشعوبها بلا سقف لنظام سياسي يجمعها بعدما صارت خاضعة للإنتداب الأجنبي الذي حمل معه الكثير من الأفكار والقضايا المختلفة عن عادات المنطقة وشعوبها واحتدم الجدل حول العلاقة بين الإسلام والعروبة; ومن الأسباب التي أدت الى الجدل في هذه المسألة التي لم تكن مطروحة في الماضي، نشوءُ أحزاب إسلامية تريد عودة الحاكمية السياسية الى الإسلام بعد سقوط نظام الخلافة العثمانية، وأحزاب أخرى اتخذت من فكرة العروبة المشتركَ الذي يجمع الأمة العربية لإقامة كيانها الجديد بعد مواجهة الإنتداب وزواله وامتد ذلك النقاش إلى مسألة الهوية التي تحملها الأمة العربية والمواطن العربي فهل هو عربي أولاً ومسلم ثانياً ؟ أم العكس هو الصحيح؟.
وقد نشأت بعد ذلك دول حكمتها أحزاب وتنظيمات تبنت مسألة العروبة ورفعت رايتها وإن اختلفت الآراء والأفكار في النظرة اليها والمقصود منها واستمرت الأحزاب الإسلامية على موقفها وتجدد هذا النقاش وتصاعد بعد وصول بعض الحركات الإسلامية الى السلطة في بعض الدول ومشاركتهم فيها في دولٍ أخرى .
وما يعنينا في هذا البحث فعلاً وفقاً للعنوان المطلوب هو الحديث عن مسألة الهويَّة التي برزت في ظل هذا الجدل المحتدم بين الفريقين حول الاسلام والعروبة.
والذي نراه في هذا المجال أن الدين لا يعمل على إلغاء الهويَّة التي تكتسبها كل أمّة من خلال تاريخها ولغتها وعاداتها وتقاليدها وتجاربها في الحياة المشتركة التي تشكل بمجموعها مكونات ثقافتها وشخصيَّتها وإنما يحاول الدين أن يوجه تلك الروابط التي جمعت بين أفراد الأمة والجماعة نحو الأفضل والأحسن وأن يضيف إليها من خلال بعثة الرسل والأنبياء جملة من التعاليم التي ترشدهم سواء السبيل وهذا ما يشير اليه الحديث المشهور عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).
وهذا يعني أنّ التغيير المطلوب دينياً ليس في هويّة الأمّة والإنتماء إليها وليس موجّهاً إلى سلخ المكوّنات الأساسيّة للهويّة القائمة.
وقد اعتبر القرآن الكريم أنّ اختلاف الألسن واختلاف الأمم والشعوب من آيات الله الباهرة ومظهر من مظاهر حكمته وقدرته سبحانه وتعالى على التعدد والتنوع كما في قوله تعالى:
(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَّ في ذلك لآياتٍ للعالِمين ) – سورة الروم-.
وقد أراد من هذا التعدد والتنوع الذي تنشأ عنه الهويَّات المختلفة أن يكون مورداً للتواصل والتعارف الذي يحصل منه تبادل الخبرات وتراكم المعلومات مما يغني المسيرة البشرية ويعطيها المزيد من أسباب القوة والبقاء والارتقاء والإستقرار والتقدم والإزدهار كما في قوله تعالى:
( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)
وهو لم يقل جعلناكم شعباً واحداً بل جعلناكم شعوباً وكما جاء في قوله تعالى:
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ) – سورة هود – .
ولأن الدين لم يكن يريد إلغاء الهوية الخاصة بقومٍ وشعب وأمة، كانت الرسل تأتي بألسنة متعدّدة بتعدّد أممها وأقوامها كما في قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه)
وقوله تعالى (وإن من أمة إلاّ خلا فيها نذير) – سورة فاطر-.
وقوله تعالى (ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولاً) -سورة النحل-.
واللسان بمعنى اللّغة هو من أهمِّ مكونات الهوية التي نتحدث عنها ولذلك خاطب القرآن العرب بلغتهم:
(لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربيٌّ مبين) – سورة النحل -.
(وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً ) – سورة الأحقاف –
(إنَّا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) – الشعراء –
(نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسانٍ عربيٍّ مبين ) وغير ذلك من الآيات التي أشارت الى المعنى الذي ذكرناه.
وقد تمكن النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام من خلال القرآن الذي جاء بلغة العرب أن يجمعهم بعد أن كانوا مختلفين في قبائلهم ومناطقهم ومعتقداتهم رغم الهوية الواحدة التي كانت تربط بينهم ورغم التباعد والإختلاف والإحتراب أيضاً .
ولا شك في أن عوامل اللغة والنسب والأرض والتاريخ كانت من أسباب ذلك الإرتباط الكامن الذي يحتاج الى المصلح الذي يخرجه الى عالم الحقيقة والواقع وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة بقوله تعالى:
(واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءاً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) – آل عمران –
وقد حصل هذا التحول الكبير عند العرب بفعل الدين الذي لم يغير هويتهم وانما أظهرها وأعطاها المضمون الإضافي الذي أخرجها من ظلمات الفرقة والإنقسام الى نور الهداية والوحدة والإنسجام وأبعدهم عن عروبة العرق والعصب والإفتخار بالنسب،الى عروبة جامعة اتسمت بالوعي والانفتاح استوعبت التعاليم الجديدة وحملت الذكر الذي جاءها كما في قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك) – الزخرف –
وقد تغيرت أفكارهم ونظرتهم الى الحياة ولم تتغير هويتهم وأصبحوا خير أمةٍ أخرجت للناس بحملهم لقيم ومبادىء الرسالة الجديدة واستجابوا لنداء الله والدعوة للحياة التي أعطاهم الرسول صورتها الجديدة كما في قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم ) – الانفال- .
فلم تعد الأعراق المختلفة والأنساب المتباعدة في الثقافة العربية الجديدة من أسباب الفرقة بين العرب أنفسهم ولا بينهم وبين غيرهم ممن يعيشون معهم في نفس البلاد والأوطان ومع سائر الشعوب في الأوطان الأخرى لأن العرب قد أصبحوا حملة رسالة الى العالم بأسره ومن يحمل رسالة الى غيره فلا بد له من السعي للتواصل والتعارف وبناء أحسن العلاقات معه ولهذا خرجت الهوية العربية عن القومية العنصرية ولم تزعم لنفسها ما زعمته بعض القوميات العنصرية لنفسها من امتيازات في الخلق والتكوين لأن المعرفة الدينية الجديدة التي أصبحت جزءا من ثقافة العرب جاء فيها (كلكم لآدم وآدم من تراب ) ( ولا فضل لأحمر على أصفر ولا لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ) .
وهذه التعاليم فيما نفهمه لم يكن المقصود منها إلغاء الهوية كما أسلفنا بل هي تخاطب الهوية السابقة في وجودها على دعوة الرسل والأنبياء كما جاء في قوله تعالى:
( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) – البقرة-
(وما كان الناس الا أمة واحدة فاختلفوا) – يونس-
ولا شك بأن هذه الوحدة التي كانت قائمة هي تعبير عن هويتها الموجودة السابقة على دعوة الرسل والأنبياء وكانت قائمة على عوامل الإرتباط التي ذكرناها سابقا من اللغة والتاريخ والجغرافيا والثقافة مما يجمع بين أفرادها ويجعلهم أمة واحدة وشعباً واحداً وقد أرادت تلك التعاليم إخراج تلك الهويات المتعددة من دائرة الصراع والتّنافر والتّعصّب،إلى دائرة التعارف والتعايش والمصالحة والتواصل فأعلنت المساواة فيما بينها وأنها نشأت من نفس واحدة كما في قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) وزرعت في نفوس أصحابها حبَّ التنافس على الخيرات وأنه لا فضل لعرق على آخر ولا للسانٍ على آخر الا بالتقوى وهذا مما يجعلها مستعدّة لقبول الآخر الذي لا يحمل هويتها ولم يتحدر من أصولها وأصلابها وأرحامها كما قال الشاعر :
كانت مودّة سلمانٍ لهم رحماً ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ
وهذا ما مهد لفكرة المواطنة التي قام على أساسها مجتمع المدينة المنورة والتي انبثقت عنه الوثيقة التي عقدها النبي مع مكونات المجتمع المتعدد آنذاك في بداية العهد المدني الجديد وإقامة الدولة وتنظيم شؤونها على ذلك الأساس وقد كانت المدينة المنورة في تلك المرحلة موطناً للأوس والخزرج واليهود والنصارى والمهاجرين والأنصار وقد كانت الهوية الدينية مختلفة بين هؤلاء وكان هناك تعدد في الهوية القومية حيث كان هناك وجود لغير العرب أيضاً. ولكن الهوية الوطنية التي آمن بها العرب بفعل التعاليم الجديدة أصبحت تتسع لتشمل غيرهم المختلفين عنهم بالقوميّة والدّين فدخل معهم سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وغيرهم الكثير . وقد بقيت هذه الهوية العروبية جامعة لمختلف الأطياف حتى ما قبل زمن الفتوحات وقبل دخول شعوب أخرى في الإسلام كما يظهر ذلك من خلال الكلام الذي قاله الإمام علي (ع) عندما استشاره الخليفة عمربن الخطاب (رض) في الشخوص لقتال الفرس بنفسه والذي جاء فيه:
( والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالإجتماع فكن قطباً واستدر الرّحا بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمَّ اليك مما بين يديك …وإن الأعاجم إن ينظروا اليك غدا يقولوا هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشدَّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك ………الخ) – نهج البلاغة –
وهذه اللغة الموجودة في هذا الخطاب تكشف عن بقاء الهوية العروبية في ظل الإسلام ولكنها كانت هوية عروبية ليس فيها انغلاق على قومها المتحدرين من أصولها وليس فيها انطواء على الذات إنها العروبة التي تجاوزت الاعراق والالوان والطوائف والمذاهب والأحزاب وحتى الأديان وجمعت بين العرب العاربة والعرب المستعربة وبين المناذرة والغساسنة وهي ذلك الارتباط الذي نشعر به قائماً في أعماقنا وتلك القيم والمبادئ التي أجمع عليها الآباء والأجداد والتي تنادينا بالإبتعاد عن التفرق والعصبية والإنقسام وتدعونا الى عروبة الصدق والصداقة والعدل والعدالة وعروبة حماية الجار وحسن الجوار وعروبة الوفاء والإخاء ونصرة المظلوم وإن كان غريبا ورفض الظالم وإن كان قريبا وعروبة الشجاعة والكرم والإباء وإحقاق الحق وإبطال الباطل هذه القيم وأمثالها التي طبعت بها العروبة لا يمكن ان تتنافى مع الإسلام لأنها ليست بهذه المعاني أيديولوجية معادية للدّين وأهدافه بل هي منسجمة مع الأمرين تمام الانسجام فهي رابطة أخويّة تقوم على هذه القيم الانسانية والعربيّة الأصيلة التي تدعو إلى قيام أمتن العلاقات وأحسنها بين الأخوة في أقطارهم ودولهم وبينهم وبين سائر شعوب العالم ودولهم على أساس من الاحترام الذي يقوم على المبادئ التي ذكرناها. ولا يمكن للإسلام بهذه المعاني التي تتضمنها العروبة أن يكون على خلافٍ معها ولا يمكن أن يعمل على إلغائها كهويةٍ منفتحةٍ جامعة لكل خصال الخير ومبادىء الفضيلة والقيم الإنسانية السامية.
المواطنة والهويّة
وهذا المعنى للمواطنة الذي تأسس في مجتمع المدينة المنورة يكشف لنا أن المواطنة تتسع لتشمل مختلف التشكيلات داخل الوطن الذي يجمع الأفراد والفئات والجماعات وإن اختلفت أصولهم التي يتحدرون منها والقوميات التي ينتسبون إليها ناهيك عن إختلاف المعتقدات الدينية بينهم ولكنهم كانوا يعيشون معاً حياة مشتركة على أرضٍ واحدة فلا بد من صيغة تعبر عن هذا المشترك الذي يجمعهم تنظيماً للعلاقات فيما بينهم . وهذه الصيغة كانت صيغة المواطنة وهي مرتبطة بحدود الوطن الذي يعيشون فيه وهي تستلزم المساواة بينهم في الحقوق والواجبات وبهذه المواطنة يتحقق الإنتساب إلى الوطن وهو المكان الذي استوطنوه ولهذا يقال عن الفرد أنه لبناني أو بحراني أو قطري أو إماراتي وسوري ومغربي وهكذا …غيرها من أسماء البلدان التي تقترن(بياء النسبة)نسبة إلى المكان كما كان يقال في الماضي عراقي ومصري وشامي ويمني بمعنى أنه من تلك البلاد والمواطن وهذا التعدد المكاني ليس تعدداً في هوية الأفراد والجماعات وليس اختلافاً فيها ولا تحديداً لها بحدود المكان وإنما هي تعبير عن مواطنة تقف عند حدود الوطن وتنتهي عندها مفاعيلها القانونية المتفق عليها لأن المواطنة بهذا المعنى هي جنسية وطنية تترتب عليها الأحكام والقوانين التي تعاهدت عليها مجتمعاتنا من خلال المؤسسات التي تمثلنا في أوطاننا وهي حدود يجب احترامها بمقتضى المعاهدات والعقود والأنظمة المرعية ولكن الهوية التي تعكس تاريخنا ولغتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا والجغرافيا التي جمعت أوطاننا لا تقف عند حدود أقطارنا فأنا مواطن لبناني وأنت مواطن بحراني وذاك مواطن سعودي أو كويتي أو يمني أو عراقي وهكذا…ولكنني لا أشعر بأنني غريب في البحرين أو الكويت أو في السعودية أو في الإمارات وسائر البلدان العربية كما لا أشعر بأن المواطن من هذه البلدان هو غريب في لبنان وهذا معناه أن المشترك الأكبر الذي يجمعنا وهو الهوية العربية لا تقف عند حدود أوطاننا الصغيرة نسبة إلى الوطن العربي الكبير فالمواطنة القانونية التي تختص بالمواطنين في وطن محدد ليست عازلاً عن الهوية الواحدة التي تجمعنا وإن تعددت أقطارنا واختلفت أنظمتنا السياسية ومؤسساتنا الدستورية والقانونية التي ارتضيناها في بلادنا .
ونحن عندما نبحث عن الهوية في الخليج العربي كما هو عنوان المؤتمر فإننا لا نبحث عن هوية أخرى غير الهوية العربية لشعوبه ولكن البحث في الحقيقة عن صيغة لتوسيع إطار المواطنة وتعزيزها وترتيب أحكام مشتركة على مواطني تلك الأقطار من خلال اتفاقات بين الدول القائمة فيها كما يحصل في اتحاد مجلس التعاون لدول الخليج وكما يحصل في الإتحاد الأوروبي حيث تحصل الإتفاقات والمعاهدات للمزيد من التواصل بين تلك الدول وشعوبها.
تعزيز المواطنية:
ثم إن المواطنية التي يتساوى فيها جميع المواطنين في الإنتساب إلى الوطن حيث لا جنسية من فئة ألف وجنسية أخرى من فئة جيم أو ياء لأن المواطنية كما تقدم تدعو الى المساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص وتعادل الحقوق والواجبات فيما لهم وعليهم التي تتمثل مراتبها الأولى في الولاء الخالص للوطن والولاية للدولة بمعنى الخضوع لأحكامها ومؤسساتها فلا مواطنية صحيحة بدون ولاء المواطن لوطنه وبدون ولا ية للدولة عليه وإلا أصبحت المواطنية حقوقاً بدون واجبات وهذا يؤدي إلى اختلال النظام واختراقه وتحويل الوطن إلى ساحة للصراعات والتدخلات الأجنبية.
وقد اكتشفنا من خلال التجربة اللبنانية في العقدين الآخيرين أن تعزيز المواطنية التي تقوم على ولاية الدولة والولاء للوطن لا يتم إلا من خلال القيام بإصلاحات يكمن أهمها في إيجاد العلاقة المباشرة بين المواطنين والدولة بدون توسط الزعامات السياسية ذات الخلفية الطائفية المذهبية لأن حصر خدمات الدولة بتلك القيادات الطائفية والمذهبية أدى إلى نشوء ولاءات أخرى لتلك الزعامات والطوائف بعيداً عن الولاء للوطن وبعيداً عن ولاية الدولة عليهم وأصبح المواطن ينظر إلى الدولة من خلال المؤسسات الطائفية والمذهبية وقياداتها التي أعطتهم الدولة خطأً وكالة حصرية في المطالبة بحقوق طوائفهم ومذاهبهم مما أضعف روح المواطنية لدى أتباعهم وأنصارهم .ولا بد من إعادة النظر في مناهج التعليم الذي يجب أن يبقى مهمة أساسية من مهام الدولة اتجاه شعبها وخصوصاً التعليم الديني في المدارس الذي ساهم إلى حدٍ كبير في الفترة الماضية في إيقاظ العصبيات الدينية والمذهبية حيث كان الطالب المسلم يخرج من الصف في ساعة تعليم الدين المسيحي والطالب المسيحي يخرج من صفه في ساعة تعليم الدين الإسلامي فكانوا يقسمون أولادنا صغاراً ويطلبون الوحدة منهم كباراً !!.وامتد هذا الأمر إلى المدارس التي يغلب على طلابها الطابع الإسلامي فعلى أي مذهب يتم التدريس؟!ولذلك طالبنا بتأليف كتاب مشترك يتحدث عن مشتركات الأديان في الدعوة الى التمسك بمكارم الأخلاق والتحلي بمبادىء الحق والعدل والفضائل التي حملها الأنبياء والرسل.
وأما الخصائص الدينية والمذهبية فيأخذها الطالب من بيئته ومحيطه أو من المعاهد الدينية ومراكز العبادة ولا يأخذها من المدرسة التي يجب أن تمنحه العلم والمعرفة والتربية الوطنية الجامعة،ولا يوجد دولة في العالم تهدف للمحافظة على وحدة شعبها تتخلى عن واجب تعليم أبناء شعبها وتتركه لمصلحة الأحزاب والجماعات التي لا تؤمن بمشروع الدولة ومرجعيتها الوحيدة.
والإسلام كما لا يتنافى مع الهوية العربية وخصائصها القومية ذات البعد الإنساني والحضاري كما تقدم ،هو لا يتنافى أيضاً مع المواطنية على مستوى أقطارنا وأوطاننا والدول القائمة فيها لأن دعوة الإسلام إلى حب الأوطان وإعمارها كما ورد في بعض النصوص المأثورة مثل(حب الأوطان من الإيمان)و(عمرت البلدان بحب الأوطان) هي دعوة شاملة لكل ما ينطبق عليه عنوان الوطن في كل أحواله بالتمسك به والمحافظة عليه،والوطن هو إسم لأرض يستوطنها شعب تجمعهم المواطنة وتقوم عليها دولة حاكمة لتنظيم أموره وإدارة شؤونه وقد اعتبرت بعض النصوص أيضاً أن حب الوطن هو من علامات الوفاء كما ورد(إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل فانظر حنينه إلى وطنه)وليس في حب الإنسان ووفائه للوطن الشامل بمعناه لشعبه وقومه من عصبية مذمومة كما جاء في الحديث(ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين)وليس في ذلك مخالفة دينية كما حاول أن يستدل البعض على ذلك بقوله تعالى في سورة التوبة(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)فإن الآية المباركة ليست في مقام النهي عن حب المرء لشعبه ووطنه ولكنها في مقام ذم المتقاعسين عن تجسيد ذلك الحب لله ورسوله في سبيل الله الذي يشمل الدفاع عن الوطن والشعب ولذلك لا نرى تنافياً بين تلك النصوص التي ذكرناها في حب الوطن والشعب وبين الآية الكريمة ولذلك ورد في آية أخرى عطفت القتال في سبيل تحرير مكة وأهلها المستضعفين المضطهدين على القتال في سبيل الله كما في قوله تعالى(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها)سورة النساء. وفي سورة البقرة قوله تعالى(وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا…)وغيرها من الآيات التي تكشف عن اتساع سبيل الله للدفاع عن الوطن والشعب وهذا مما لا يتنافى مع حب الإنسان لوطنه وشعبه وحبه لله تعالى ورسله وأنبيائه ورسالاته.
ويكاد يكون حب الإنسان لشعبه ووطنه من الأمور الفطرية التي فطر الله الناس عليها ولذلك ترى أن الشعوب على اختلافها تعتبره فضيلة من الفضائل التي يتنافسون عليها ويمتدحون فاعلها والشريعة نفسها اعتبرت من يسقط دفاعاً عن شعبه ووطنه شهيداً ولذلك لا نرى وجهاً صحيحاً لمن يرفض فكرة الوطن في الإسلام ويقول أن الوطن والهوية حيث تكون العقيدة كما تقول بذلك بعض الحركات الإسلامية وللتوسع في هذه المسألة مجال آخر ولكن أردت التنبيه على هذه المغالطة التي وقع فيها الكثير من دعاة الإسلام خصوصاً بعض الحركات الدينية التي وصلت إلى السلطة وهي تريد توسيع نفوذها خارج حدودها بإسم الإسلام ولكنها تتمسك في الوقت نفسه بحدودها الجغرافية وهوية شعبها القومية . وكأن حب الوطن والشعب والدفاع عنهما مختصُ بشعب دون شعب وبوطن دون وطن مع أن النصوص شاملة لكل الشعوب والأوطان.
والحمدلله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإسلام و العروبة ومسألة الهوية – كلمة العلامة المجتهد السيد علي الامين في مؤتمرالهوية في معهد التنمية السياسية في مملكة البحرين