لم يكن مفاجأة لنا قرار القمة العربية الذي يدافع عن البشير. فدول القمة العربية- باستثناء لبنان المطلوبة شرعيته سوريا – لا تختلف في شرعيتها جوهريا عن شرعية نظام البشير، إذ هي تتوحد في مواقفها نحو مفهوم السيادة، بوصفها سيادة حكام لا سيادة أوطان… وإذا كانت الأنظمة العربية موحدة في فهم السيادة بوصفها (سيادة السلطان)، فإنها إذا اختلفت –في هذا الأمر- فالاختلاف هو في الدرجة لا في النوع. إنه في درجة شراستها وسطوتها واغتصابها للشرعية على أوطانها، أي أنها تتمايز ولا تختلف في درجة انتهاك الشرعية. فقد أصبح من اليسير أن يميز المرء بين درجة شرعية أو لاشرعية الأسر الحاكمة بالقياس إلى الشرعيات الانقلابية العسكرية التي حازت القدح المعلى في الطغيان، وأول هذه التمايزات هي (الشراسة الثورية) لأنظمة (الشرعية الثورية): عراق صدام- سوريا الأسد- ليبيا القذافي) المحاكون (قرصانيا) لنموذج الديكتاتورية الناصرية التراجيدية لكن بطريقة كاريكاتورية سوداء…!
في حين أن الأسر الحاكمة التقليدية الموصوفة بـ(المحافظة أوالمعتدلة)، قد تميزت بـ(الشرعية القبلية والأسرية) التي آلت إلى نوع من التحول التدريجي إلى أنظمة أبوية (بطركية) تعطي نفسها حق عنف الوصاية على شعوبها فكرا وثقافة وسياسة لكنها لا تبلغ درجة العنف (الثوري الرعاعي). إذ هي في كل جنوحها التسلطي العنفي ظلت في حدود الوصاية الأبوية المحكومة بالعرف والدم والنسب الأرستقراطي البدوي الذي يحدث أن يصفح أو يسامح عند المقدرة. فتمكنت-بذلك- من تجنب حفر أخاديد الدم بينها وبين شعوبها كأشقائها (الثوريين)… في حين أن الشرعيات الثورية الانقلابية تعاملت مع مجتمعاتها تعامل الأبناء العصاة اللقطاء والخلاسيين المتحدرين من قاع المجتمع السفلي (رعاع الريف وحثالات المدن) وليس (الريف الرعاعي أو المدن الحثالات) كما يرغب مثقفو هذه الشرعيات الثورية أن يفهموا صياغاتنا السوسيولوجية العلمية، بمثابتها شتائم للريف –ككل- بوصفه رعاعا أو المدينة ككل بوصفها حثالة…! ومع ذلك فنحن نمارس (حرية القول) ونترك لهم (حرية التقول) كما يشتهون ويكلفون ويؤمرون…
وعلى هذا تمكن السفهاء المتحدرون من عالم القاع أن يتحكموا بعالم القيم والمثل الوطنية والاجتماعية باسم (التسول الطبقي وشحاذة الفقر). ولعل الصورة الرمزية لهذا الميكانيزم الثوري: الحاقد هو (اعتقال السفهاء المستوطنين لدمشق لـ د. فداء حوراني ابنة أكرم الحوراني أحد صانعي الحياة السياسية السورية في زمن الشرعيات الدستورية، أو اعتقال المرشح الوحيد الذي نجح بأصوات الدمشقيين إل ما يسمى بمجلس الشعب (الوطواطي)، وهو الصناعي الدمشقي (رياض سيف ) كعملية ثأرية من ماضي الحاكم الوضيع…
بل ولعل المجاز الأكبر لعملية تسفيل الحياة السياسية ومن ثم الاجتماعية، يتمثل في تقويض النظام الاجتماعي والأخلاقي والسياسي للجار اللبناني لجعله على شاكلة النظام السوري الشقيق الأكبر. وذلك من خلال أخذنا-على سبيل المثال- عينة عن ما يرتأيه الحاكم السوري لشقيقه اللبناني، ويتمثل في صورة الممارسة الأسدية: (اغتيال الحكيم والفيلسوف كمال جنبلاط لصالح مبايعة أحد مستخدمي النظام من عالم القاع السفلي “وهاب” مثلا أيضا، ليس على زعامة دروز لبنان فحسب بل وسوريا…!).
ولهذا لم يكن غريبا على القمة العربية أن يتوحد فيها النظام الأبوي التقليدي، مع النظام البنوي (اللقيط – الخلاسي) في الدفاع عن جرائم السوداني عمر البشير. كما لم يكن غريبا أن الحماس للبشير سيزداد طردا بين الدول العربية وفق درجة انتهاك الشرعية الدستورية الشعبية والمجتمعية من قبل هذا النظام العربي أو ذاك، كل حسب درجة جرائمه. فكان للأسد الابن الصغير الوريث حصة الأسد الكبير في تضامنه (القومي) مع الجرائم القومية، أي كان النظام السوري هو الأكثر حماسا (وإخلاصا قوميا) للدفاع عن جرائم البشير المتواضعة –طبعا- بالقياس إلى المنجزات الأسدية الذي لم يتوقف عند الحدود الوطنية افتراسا بل طالت منجزاته الفضاء القومي العربي. فقد طاشت الدماء لتروي الأراضي اللبنانية والفلسطينية والعراقية بعدل قومي لا ينافسهم بعدالته الدموية سوى شريكهم النضالي السابق (صدام) حيث الإبادة للجميع بما فيها للأشقاء الكويتيين. وذلك لأن النظام السوري يجد في دفاعه هذا عن البشير دفاعا عن ذات نفسه وعن القيم النضالية القومية والوطنية التي حار الخلق مع الخطاب (الممندل: الممانع المعتدل) لوريث أبيه الطاغية الأسدي الأكبر في ممارسة فن البقاء في حكم سوريا والاستيلاء عليها كمزرعة، وذلك بعد سقوط عمه صدام المثال الذي علمهم (السحر)، سحر عدم تسليم السلطة للآخر إلا ترابا، وذلك عندما قدم الوريث الشاب خطابا (تربويا) في القمة: كل جملة فيه تنتج معادلها المضاد في الواقع. وكأن ثمة حزمة مجازية خاصة بالمتلقي الإسرائيلي، هي بمثابة (كود مع اسرائيل وأمريكا ) أن يقرأ الخطاب الأسدي وفق الأسلوبية المجازية لما يسمى في علوم البلاغة “الدلالة المعاكسة للجملة “. إذ المفارقة تبلغ ذروتها الساخرة عندما يدعو إلى إلغاء مبادرة السلام العربية في الوقت الذي يفاوض اسرائيل ويعلن عن الاستعداد للمفاوضات المباشرة مع اسرائيل… !
تأسيسا على مفهوم السيادة هذا سيعتبر الأسد الصغير(الإبن) عمر البشير رمزا للسودان، تماما كرمزيته ورمزية أبيه هو لسوريا: (سوريا الأسد) على حد التعبير الإلهي لزعيم حزب الله (حسن نصر الله)، وبأن قرار المحكمة الجنائية باستدعاء البشير يهدف إلى تقسيم السودان…! تماما كما يريد أن يهدد المجتمع الدولي تهديدا استباقيا باطنيا مضمرا بضرب وحدة (بلده: سوريا) إذا ما استدعي كما يستدعى البشير. إذ يعتقد أنه حاذق في مواراته المكشوفة والمفضوحة في تهديده لبلاده وشعبه والمجتمع الدولي بالتقسيم، وذلك على عادته في استخدام مجتمعه وشعبه ووطنه كرهينة. أي يهدد بأنه سيقسم سوريا إذا استدعته المحكمة الدولية بوصفه متهما في جريمة اغتيال الحريري… لماذا؟ بوصفه رمز سوريا… كما البشير رمزالسودان….!
تماما كما كان صدام حسين رمزا لوحدة العراق الذي تقوض مثل أية مدينة ملحية- تحية لذكرى عبد الرحمن منيف كاشف حقيقة “مدن الملح”- وذلك بعد أسبوعين من الاجتياح الأمريكي، فتكشفت لنا مدى صلابة الوحدة الوطنية (الصدّامية/الملحية) التي بناها على التساوي العادل في الذبح والإبادة، وإن كانت بيد ايديولوجية بعثية ومذهبية طائفية ضد الطوائف الأخرى دون توفير طائفته ذاته، لكن لصالح عشيرته وأهل بيته وعائلته… تماما كما هي الوحدة الوطنية الأسدية التي تنحل أخيرا إلى مستوى العائلة، لكن عبر تعبئة الطائفة وتهديدنا بأنه قادر على قيادة انقسامها عن وطنها واهما، ظانا أنه قد حقق تطابقا بين مطامحه الوراثية ومطامحه الطائفية، بحيث يمكن للطائفة أن تتوحد حول رمزيته على حساب رمزية السيادة الدستورية الشرعية والقانونية لوحدة الوطن والمجتمع الذي ساهمت الطائفة العلوية الكريمة في بناء استقلاله بكل جدارة وطنية مثلها في ذلك الشيخ صالح العلي، وليس الجد (سليمان الأسد) الداعية لبقاء الاحتلال الفرنسي الذي لا يتردد حفيده (الصغير بشار) بحبس طلائع النخب السورية الثقافية والسياسية باسم إضعاف الشعور الوطني والقومي…!
نقول : كل ذلك مفهوم… حيث أن أزمة الشرعية في العالم العربي هي أزمة أخدودية بين السلطة والمجتمع، إذ هما طرفان متوازيان متناظران لا يلتقيان أبدا… فإذا كان من المفهوم أن يقدم النظام العربي تعريفه وفهمه للشرعية بوصفها شرعية الطغيان والاستبداد والديكتاتورية، بوصف الحاكم ( البشير أو بشار) رمز السيادة الوطنية، فعلى الأقل، فإن المطلوب من الشعوب العربية وممثليها من منظمات وأحزاب وهيئات أن تعرف الشرعية والسيادة من منظور شعوبها ومجتمعاتها وأوطانها، بوصفها شرعية دستورية تمثيلية تكون المرجعية فيها للمجتمع وليس للحاكم، المجتمع ممثلا بمؤسساته التمثيلية التشريعية والقضائية، وليس بأجهزته التنفيذية المخابراتية والعسكرية المرتزقة التي تشكل القاعدة الوحيدة للحاكم العربي من نموذج البشير أو المدافع عنه بشار بالتحديد…
ولهذا فإنه كان مخيبا للآمال تلك المآلات التي انتهت إليها منظمات يفترض أنها كانت تمثل المجتمع المدني – والأهلي العربي: من أمثال المؤتمر القومي العربي والمؤتمر العام للأحزاب العربية والمؤتمر القومي الإسلامي، اللذين توجهوا بمجموعهم برسالة إلى القمة العربية – الدوحة – قطر، يناشدون فيها الحكام العرب بوضع الأولوية لقضيتين: (القدس والبشير)، إذ يغدو مصير البشير- والأمر كذل- بكفة واحدة مع مصير القدس، حيث تتوازى الاثنتان في الأهمية على مستقبل الكرامة القومية: البشير والقدس! فلنتصور أي احترام وتقدير سينظر به العالم إلى قدسية القدس عندما توضع في خانة واحدة مع سفاح لدماء شعبه كالبشير أو كبشار الذي يدافع عن مستقبله بالدفاع عن حاضر البشير… حيث “كل ما عداهما (القدس والبشير) يظل ثانويا “، حسب تعبير رسالة المؤتمرات الشعبية (القوموية – الإسلاموية) التي تعتبر وفق بيانها “الاعتداء الصارخ على سيادة السودان الشقيق الذي اتخذ من المحكمة الدولية سلاحا، ومن الرئيس السوداني عنوانا… ويطالبون ” باسم الأمة ” – بوصف المؤتمرات الثلاث ( القومية والإسلامية ) هذه مشكلة من مئة وأربعين حزبا – يطالبون بجعل قضية جرائم البشير بحق شعبه بذات حجم الجرائم الإسرائيلية تجاه القدس، ويمكن أن نقرأ-بدل البشير- الأسد الصغير بشار، لأن الديباجة الخطابية المستخدمة في البيان هي ديباجة ذات رنين ايقاعي ( بعثي ) من صناعة الإعلام الشعاري الأمني الفاقع في ادعاءاته الوطنية الكاذبة، وذلك عندما يصف المحكمة الدولية بأنها ” متصهينة “، وهي من الصياغات (البعثية بجدارة)، رغم أن كل العالم يعرف مدى المراهنة (المتصهينة) لآل النظام (الأسدي) الأخيرة على إنقاذ ( الصهيونية ) له من المحكمة الدولية مقابل الانصياع لكل الشروط الإسرائيلية…
من المفهوم أن بشار يريد أن يخترع من نفسه رمزا لسيادة سوريا من خلال حديثه عن رمزية البشير للسودان، لكن من غير المفهوم أن تتردى الحركة القومية والإسلامية لتبلغ حدا من الشيخوخة والخرف وسوء الحال والمآل حد أن تتكسب من أموال الشعب السوري لاستقبالها بالفنادق السورية الفخمة للدفاع عن طاغية مجرم لتضعه في مصاف القائد الفلسطيني عرفات وفق بيانهم…عرفات الذي يريد الأسد الصغير أن يتماثل مع صورته رغم الكره الأسدي له وتخوينه الدائم، وذلك من خلال الإيحاء لهذه المجالس (القومو-اسلاموية) برمزية عرفات، فانساقت إلى أكاذيب الممانعة للنظام، وذلك بعد أن جعلت من فنادق دمشق متاريسها النضالية في الدفاع المنافق والكاذب عن القدس… بينماهم صامتون على جرائم النظام المتحالفين والمهرولين للتحالف معه ضد إخوتهم السوريين الذين تعرضوا ويتعرضون لاضطهادات وقهر وسجون ومعتقلات وتعذيب جسدي ونفسي لا تقل عما عاناه الشعب الفلسطيني طوال تاريخ نكبته في ظل المحتل الإسرائيلي، يريدون التماهي بعرفات بينما يضمر (الوريث الأسدي الصغير) — هو وعصابته الأمنية الطائفية- كرها لعرفات كان كافيا لاعتباره عميلا إسرائيليا حتى لحظات سقوطه شهيدا… شهيدا، وذلك لأن الراحل عرفات تجرأ على وثنهم الأعظم (طوطمهم حافظ أسد)، وتمرد على وضع أن يكون ورقة بيده…
إن ما يسمونه بمئة وأربعين حزبا سياسيا (عروبويا واسلامويا) يتطوعون للدفاع عن البشير في الرسالة المذكورة لمؤتمر القمة، إنما هو دفاع موحى به (سوريا أمنيا) ليكون دفاعا استباقيا عن قائد مسيرتهم الذي “يوحدون الجهود معه” وحوله باسم القدس…في حين يصمتون على جريمة اعتقال زميلتهم في كل هذه المؤتمرات: وهي ابنة مؤسس من أكبر مؤسسي منظوماتهم القومية ( أكرم الحوراني )، وهي الدكتورة فداء حوراني أسيرة سوريا، يصمتون على أسرها الجبان بأيدي عصابات مسلحة تأخذ سوريا (المزرعة الأسدو-مخلوفية) رهينة ليسكت العالم عن جرائمها وتهديدها للاستقرار والتضامن والأمن العربي لصالح الأطماع الإيرانية واستراتيجياتها القومية والطائفية…ومن ثم تقديم تغطية مفوضة قوميا واسلاميا، للتنازل –لأن ليس ثمة ما يجبر إسرائيل- عن السيادة الوطنية في ( الجولان ) في سبيل كسب رضا إسرائيل ومن خلالها الولايات المتحد للحصول على دفعة أوكسجين تؤجل مصيرهم المحتوم وطنيا وقوميا وإنسانيا تجاه الاستحقاقات التاريخية التي تنتظر هذا النظام المنحل إلى عصابة مافيوية، وفي مقدمة هذه الاستحقاقات: هي المحكمة الدولية في جرائم اغتيال الرئيس الحريري وسلسلة شهداء الاستقلال اللبناني المتناسج عضويا مع الديموقراطية في سوريا، وهما هدفان مرفوضان استراتيجيا من قبل إسرائيل، أي هدفا : الديموقراطية لسوريا والاستقلال للبنان الديموقراطي…
mais44@hotmail.com
• كاتب سوري- فرنسا
(ممثلو شعوب) في خدمة الاستبداد “البشير وبشار”…!شكرا استاذ عبد الرزاق على هذا التحليل الصحيح الذي يصف وضعنا التعيس. هل هناك امل بالخروج من هذه الاوضاع المأسوية لعالمنا العربي؟ كلنا نكرر “ان بعد العسر يسرا” ولكن هل سنعيش لنرى هذا اليسر؟ صحيح ان بلادا اخرى عانت من مثل ما نعاني منه نحن في البلاد العربية ولكن بعد “انتقال الدكتاتور الى رحمة ربه” كثيرا ما تنفست تلك البلاد الصعداء وقامت انظمة حكم وضعت نصب عينيها اصلاح ما افسده ذلك الدكتاتور. اما نحن، فقد كُتِب علينا ان يرثنا ابن ” المغفور له” ليتربع على رقابنا ويواصل مسيرة المرحوم والده ومعلمه ومرشده الذي كان… قراءة المزيد ..