حينما نبحث في الأسس التي استندت إليها نشأة الحياة الحديثة، سوف نكتشف وجود علاقة وثيقة بين هذه الحياة وبين مفاهيم الحداثة وقيمها. ويعتقد باحثون أن هناك تباينا بين الأخلاق الناتجة عن السلوك الديني التاريخي وبين المفاهيم والقيم الأخلاقية الحديثة، إذ تعتبر الأخيرة مفاهيم وقيم المجتمعات الحديثة. كما يؤكد الباحثون أن الأخلاق التي ينتجها السلوك الديني التاريخي ليست خلاّقة للحداثة، أو بعبارة أخرى، لايمكن للحداثة أن تكون نتاجا للسلوك الديني التاريخي.
ولا تزال العديد من المجتمعات، ومن ضمنها مجتمعات عربية ومسلمة، تفتقد للمفاهيم والقيم الأخلاقية الحديثة، حيث تنتشر فيها أخلاقيات السلوك الديني التاريخي، وهو شأن يعكس الاختلاف بين الدين والحداثة، أو بين الحياة التاريخية والحياة الحديثة.
ومهما تباينت التفسيرات بشأن بدء نشأة الحداثة وتكوّن المجتمعات الحديثة، إلا أنه لا يمكن إنكار أن القيم والمفاهيم الأخلاقية التي ساهمت في إنتاج الحداثة، تختلف عن القيم والمفاهيم الأخلاقية الدينية التاريخية المولّدة للسلوك الديني. بمعنى أن هناك اختلافا واضحا بين أخلاق الحداثة وأخلاق السلوك الديني، ولا يمكن لتلك الأخيرة أن تنتهي إلى ولادة مجتمعات متطورة وحديثة، وبالتالي لابد أن تسبق نشأة المجتمعات الحديثة نشوء قيم تختلف عن قيم السلوك الديني التاريخي.
على سبيل المثال، لا يمكن للديموقراطية الراهنة أن تنشأ في مجتمعات غير متطورة وغير حديثة، إذ لابد من وجود شروط للتطور تخص الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري ما تعتبر ضرورية لنشأتها. فالديموقراطية تلحق التطوّر، والتطوّر يستند في نشأته إلى وجود قيم الحداثة، وقيم الحداثة استطاعت أن تزيح عن طريقها نظائرها الدينية التاريخية التي تعتبر قيم خاصة بعصر ما قبل الحداثة.
استنادا إلى ذلك نستطيع أن ندّعي بأن أخلاق السلوك الديني التاريخي، التي تركّز معظم اهتمامها على الدنيا الآخرة – حيث تعتبر الدنيا الراهنة ممرا إلى المقر الأبدي، الذي هو ممر إيماني لا يعير الدنيا اهتماما كبيرا بقدر ما يعير نفسه ذلك الاهتمام، ولا يهدف لتغيير العالم الخارجي بل يسعى إلى تغيير العالم الداخلي – لا يمكن أن تكون منطلقا للحداثة والتطور، لأن همّها منصبّ على التحولات الداخلية لا الخارجية، بمعنى أنها لا تنظر إلى الهمّ الدنيوي بجدية مقارنة بنظرتها إلى الهمّ الإيماني النفسي الداخلي، وبالتالي لا تستطيع أن تخطو خطوات دنيوية جادة مؤدية إلى الحداثة. فبوصلة أخلاق السلوك الديني موجهة نحو الدار الآخرة لا نحو إعمار وتطوير الدار الراهنة. وللدلالة على ذلك نجد أن النبي الأكرم كان يقول بأن “حب الدنيا رأس كل خطيئة”، فيما كان الإمام علي ابن أبي طالب يقول في نهج البلاغة أن “الدنيا دار ممر إلى دار مقر والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها”، وقال الإمام جعفر الصادق أن “الدنيا سجن المؤمن والقبر حصنه والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر والقبر سجنه والنار مأواه”، وقال الشيخ أبو حامد الغزالي “ألا صلح لكافة الخلق فقد المال، وإن تصدقوا بها وصرفوها إلى الخيرات”.
من الممكن للدين والتديّن والسلوك الديني التاريخي، التعايش في بيئة تتصف بالفقر والجهل والتخلف، وقد لا يساهم ذلك في تطور تلك البيئة، وذلك ليس نقيصة في الدين، لأنه لم يأت لتطوير المجتمعات وتحديثها، إنما هناك من يسعى غصبا إلى إلباس الدين غير لباسه. بل لا يمكن أن نبني مجتمعا متطورا ومتقدما وحداثيا استنادا إلى مسائل الدين التاريخية. فالدين والأخلاقيات الناتجة عن السلوك الديني التاريخي كانت أحد أطر الحياة الخاصة بالمجتمعات التاريخية غير الحديثة، بل تعتبر عند البعض أحد العناصر الرئيسية المساهمة في ذلك. لكن، لأن منطلقاتها غير دنيوية، وقيمها ماضوية غير حديثة، فإنها لن تكون أساسا لبناء المجتمع الحديث. فبالرغم من أنها قادرة على العيش في الحياة الحديثة، إلا أنها لا يمكن أن تكون أساسا لنشأة الحداثة. بل هي في بعض صورها تمثّل عائقا في وجه نشأة الحداثة.
ويعتبر الدين الإسلامي أحد مكونات العالم القديم. فالإسلام، بآياته ونصوصه وبرامجه، كان متوافقا مع الحياة القديمة. فهو يعتبر أحد مؤسسي تلك الحياة، وساهم في التأثير في مختلف شؤونها، كما ساهم في إنشاء منظومتها السياسية والاجتماعية. بمعنى أنه لم يسع فحسب ليكون شريكا رئيسيا معها، بل قامت الحياة القديمة بمد يد التعايش إليه حتى أصبح الاثنان شريكين واعتبرا شيئا واحدا. فالحياة في الماضي، في العالم القديم، كانت حياة دينية كاملة، والمسلمون لم يروا أنفسهم غريبين عنها، وعلاقتهم معها كانت علاقة توافقية تقوم على الشراكة والتعاون استنادا إلى الدين، أي كانوا يبنون حياتهم وينظمونها وفق المقياس الديني. فالدين الإسلامي كان مقياسا لجميع أمور الحياة في الماضي، لذلك كانت حياة المسلمين تسير بصورة طبيعية ولا تعكرها شوائب أساسية، باستثناء المسائل الخلافية الطبيعية.
لكن مع تحوّل الحياة وتغيّرها ودخولنا في العصر الجديد، عصر الحداثة، ظهرت مؤشرات تدل على وجود علاقة غريبة للمسلمين مع الحياة الجديدة في ظل استمرار النمط التاريخي للدين الإسلامي. وكيف لا تكون تلك العلاقة غريبة فيما تتغيّر الحياة وتتطوّر وتصبح حديثة، بعدما تم تحرير العقل من أسر المتدينين وجرى إطلاق العنان له في الحياة، في حين لايزال الدين الإسلامي يعبّر عن شكل الحياة القديمة ويعكس الطبيعة التي يهيمن فيها التفسير القديم للدين على العقل وعلى شئون الحياة.
إن ركب التغيّر في العالم الجديد سار مع تطوّر العقل وتقدم العلم من دون أن يستند ذلك إلى الدين. بل استطاع هذا الركب أن يزيح عن طريقه جميع العراقيل التاريخية بما في ذلك الفهم الديني التاريخي. ومن نتائج ذلك أن أصبح المسلمون متأخرين عن اللحاق بركب التطوّر والتغيّر في الحياة، لاسيما التغير الفلسفي المفاهيمي لا التغيّر الظاهري المتعلق بالوسائل والمظهر. وبعبارة أخرى: التغيّر في طريقة فهم قضايا الحياة ومسائلها، لا التغير فحسب في شكل الحياة. إذ من الممكن لمجتمعات في الوقت الراهن أن تكون حداثية المظهر، في حين تستند مفاهيمها إلى تلك التاريخية. فالحداثة ترتبط بعالم الفكر والذهن والمفاهيم، وإذا لم تظهر رؤى جديدة في تلك العوالم فإننا لا نستطيع أن نزعم بأن مجتمعا ما أصبح حداثيا. لذلك أصبحت الحياة حديثة وجديدة، بسبب نشأة رؤى مختلفة في الأذهان والمفاهيم.
إن الحياة تخطو خطواتها التغييرية التصاعدية من دون الاعتماد على وجهة نظر أصحاب الأديان. في حين أن حياة المسلمين كانت تسير في الماضي وفق وتيرة يحدّدها الدين. لذلك، أصبح المسلمون “تائهين” في الحياة الجديدة بعدما كانوا يعتبرون أنفسهم “ركيزة” الحياة في الماضي. فنظرتهم للأمور والمسائل في العالم الجديد، وطريقة عيشهم فيه، أصبحت غريبة لاتمت بصلة طبيعية معها. لماذا حصل ذلك؟ لأن الحياة تغيّرت ولم يعد الدين يمثل “مركز” العلاقة بينها وبين البشر. في حين لم يتغيّر المسلمون بل لا يزالون يعتبرون الدين، بتفسيره التاريخي الذي يعتقد بأنه الأساس لأي علاقة بين الإنسان والحياة، “ركيزة” الحياة في الماضي والحاضر معا.
والسعي لإحداث تغيير في الفهم الديني ليتعايش مع متغيّرات الحداثة لا يزال متواضعا جدا حيث لا نرى تأثيرات ذلك على حياة المسلمين. لذلك، بدلا من إيجاد فهم ديني يمكنه أن يعيش في الحياة الجديدة، نجد بأن المسلمين يعاندون، ويصرّون على أن الدين التاريخي الذي توافق مع الحياة القديمة صالح لكل زمان، وهو ما جعلهم يعيشون أزمةً مع الحداثة، وجعل الدين غريبا وغير طبيعي في الحياة. لذلك لابد من إيجاد سبل تساهم في تكوين علاقة جديدة بين الدين الإسلامي والحداثة، لجعل الإسلام يتعايش طبيعيا في العالم الجديد.
ولو أمعنّا النظر في رؤى وفتاوى رجال الدين السنة والشيعة بشأن مختلف مسائل الحياة الراهنة، من سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وحتى ما يسمى منها بـ”العلمية”، سنجد بأنها تصب في إطار لا ينتمي إلى العصر الجديد ولا إلى أسس الحياة الجديدة. فكيف إذن لايصبح الدين الإسلامي غريبا عن الحياة؟ وكيف يطلب رجال الدين من فئة الشباب ألاّ تبتعد عن الدين التاريخي وتسفهه وتعتبر نفسها بأنها غريبة عن الدين؟ يجب أن نقرّ بأن التديّن لم يعد هو “كل الحياة” في العصر الجديد مثلما كان في العصر القديم. ومن يمعن النظر في طبيعة حياة المجتمعات العربية والمسلمة الراهنة سوف يجد تداخلا واضحا – أذكته الصورة النمطية التاريخية حول الدين – بين الديني وغير الديني. فالمواطن العربي والمسلم لا يزال لا يعرف من له الأولوية في تحديد المفاهيم الخاصة التي من شأنها أن تدبّر وتدير شئون حياته، هل هي المفاهيم المرتبطة بالحداثة أم تلك التي ينتجها الخطاب الديني التاريخي.. أم غيرها؟ هل الدين يسبق المواطنة في تعريف هويته؟ هل الانتماءات الدينية الطائفية تحقق له مصالحه في الحياة؟ هل القتل على أساس الهوية الدينية والطائفية والذي راح ضحيته عشرات الآلاف في العراق وباكستان كان مشروعا؟ إن جميع تلك المسائل تحدث له تشويشا فكريا، والسبب في ذلك هو هيمنة الفكر الديني التاريخي على مجريات حياته، مما جعله عاجزا عن التمييز: أيهما يختار لإدارة شؤون حياته؟. فإذا اختار الدين يجد نفسه يسبح في بحر الحياة التاريخية القديمة التي تعجز عن أن تتوافق مع متغيّرات الحياة وعن طرح حلول لمسائل الحياة الراهنة. أما إذا اختار غيره فسوف يرمى بمختلف النعوت التي تجعل حياته مهددة.
ssultann@hotmail.com
• كاتب كويتي