كانت “كاتين” إحدى الكلمات “المحرّمة” في بلدان شرق أوروبا. “كاتين” إسم غابة تقع في روسيا، قرب “سمولنسك”، عثر فيها الجيش الألماني، في العام 1941، على مقبرة جماعية تضم رفات ألوف الضباط البولونيين الذين تمّ إعدامهم برصاصة في العنق. من الذي أمر بتنفيذ ال؟ الألمان اتّهموا السوفيات. والسوفيات اتّهموا الألمان. وقد استمر السجال حتى العام 1990، حينما اعترف ميخائيل غورباتشوف رسمياً بأن “الأجهزة الخاصة” السوفياتية (المعروفة بإسم “إن كا في دي”) هي التي قامت بتصفية السجناء في أبريل 1940. وفي العام 1992، قام الرئيس بوريس إلتسين بتسليم سلطات وارسو الدليل: وهذا الدليل كان “أمر” الجريمة موقّعاً من جوزيف ستالين.
وللتذكير: حينما اندلعت الحرب العالمية الثانية، كان الجيش الأحمر قد أبرم مع النازيين “الحلف الألماني-السوفياتي”، الذي تم توقيعه في العام 1939. وبموجب الحلف، اتفق هتلر وستالين على تقسم بولونيا “هذا البلد إبن الحرام المولود من إتفاقية فرساي”، حسب تعبير وزير خارجية الإتحاد السوفياتي في حينه، مولوتوف. كان الألمان البادئين بغزو بولونيا، وحينما اجتاز الجيش السوفياتي الحدود بدورهم، أعلن ستالين أن هدفه كان “مد يد العون الأخوي للشعب البولوني”، والدفاع عن الأوكرانيين والبيلوروس. أما هدفه غير المعلن فكان تدمير بولونيا، التي اعتبرها دولة فاشية.
حرص أندريه فاجدا على إخراج فيلم حول هذا الجُرح البولوني لسببين. الأول شخصي وحميم: فوالده كان أحد الضباط الذين أعدموا في “كاتين” (والد “جاروزلسكي” أعدم في “كاتين” كذلك). والفيلم من هذه الناحية تحية تقدير لشجاعة أمّه التي ظلّت تنتظر والده.. أما السبب الثاني فهو الدفاع عن هوية بلاده التي تعرّضت للغزو، والتقسيم، بل والتمزيق إرباً. “كاتين” هو ملحمة بقاء شعبٍ كان دائماً ضحية لأطماع جيرانه. وهي، أيضاً، تعبير عن إصرار “فاجدا” على التنديد بتزوير التاريخ كما مارسه النظام الشيوعي.
“كاتين” فيلم يقول “الحقيقة”!
نقطة مثيرة يشير إليها تعليق جريدة “لوموند” حول الفيلم (بقلم “جان-لوك دوان”) وهي أن فيلم “فاجدا” يبرز أن مجزرة “كاتين” لم تقتصر على الضباط بل شملت “الإنتلجنسيا” كلها. فبين الذين تم إعدامهم ألوف العلماء، وأساتذة الجامعات، والمهندسين، والمحامين، والفنّانين.
هل يذكّر ذلك بالمئات من الجامعيين والمثقفين العراقيين الذين أعدمتهم “الميلسشيات” (أو من كان يقف وراءها) بعد سقوط نظام صدام؟
وما مصير بضع مئات من الجنود اللبنانيين الذين “اختفوا” بعد أن أسرهم جيش حافظ الأسد بعد لجوء قائدهم، الجنرال ميشال عون، إلى سفارة فرنسا؟
*
حوار “لوموند” مع مخرج فيلم “كاتين” أندريه فاجدا
• هل يمثل نجاح فيلم “كاتين” في بولونيا ما يعادل مأتماً وطنياً لضحايا المأساة؟
فاجدا: “كاتين” حدث كبير في تاريخنا لم يجد تعبيراً حقيقياً عنه. كانت الحاجة ملحّة لذلك. إن الجيل المتقدّم في السنّ، الذي لم يعتد التردّد على السينما، خرج من بيته ليشاهد الفيلم. وقامت المدارس بتنظيم عروض جماعية. بالمقابل، لم يكن توزيع الفيلم خارج البلاد مناسباً. فلم يتم توزيع “كاتين” في الولايات المتحدة، وروسيا، وألمانيا، وسيعرض في فرنسا الآن فقط… السبب هو عدم كفاءة التلفزيون البولوني الحكومي الذي يديره ديناصورات “الإشتراكية الحقيقية”.
• ما يزال موضوع “كاتين” موضوعاً حسّاساً بين بولونيا وروسيا؟
فاجدا: بعد سنوات الثمانينات، سمح غورباتشوف ثم إلتسين بنقل وثائق تزيل أية شكوك حول طبيعة جريمة “كاتين”. وخصوصاً الوثيقة التي يقترح فيها “بيريا” تصفية الضباط، وموافقة اللجنة المركزية (للحزب الشيوعي السوفياتي) على الإقتراح.
ولكن الوضع تغيّر في العام 2004. فلم يعد بوسعنا الحصول على بقية الوثائق. وفي العام الماضي، وجّهت خطاباً للمدعي العام في روسيا سألته فيه “بموجب أية مادة في القانون أعدم والدي”, وقد أجاب بأنه لا يستطيع أن يجيب عن السؤال، لأن ملف والدي ليس موجوداً.
• كيف أثّرث هذه الدراما على مصيرك الشخصي؟
فاجدا: فقدت والدي وكان عمري 13 سنة. وهذا ما فرض علي أن أعتمد بسرعة على نفسي وأن أصبح ناشطاً، أولاً كجندي في “جيش الداخل” (أي حركة المقاومة) أثناء الإحتلال. ثم بحثت عن موقعي عبر الفن، فالتحقت بكلية الفنون الجميلة في سنوات الأربعينات، ثم بكلية السينما.
البعض يعتقد أن نهاية الفيلم (إعدام الضباط بالرصاص، ورميهم في الحفر) مجرّد تكهّن عاطفي. الواقع أنني فكّرت في أن يكون هذا المشهد هو بداية الفيلم. لكنني قرّرت أن أتحدث عن الجريمة وعن الكذبة معاً. وهذا ما أوجب أن يتحدّث الفيلم عن الكذبة أولاً.
• أية كذبة؟
فاجدا: كشف الألمان جريمة “كاتين” في 1943. وطلبت حكومة بولونيا في المنفى، في لندن، من الصليب الأحمر الدولي أن يتحقّق من هوية القتلى المدفونين في الحفرة الجماعية. وعندها، أمر ستالين بقطع العلاقات مع الحكومة البولونية، وأكّد أن الألمان هم الذين ارتكبوا الجريمة.
السيناريوهات التي اقتُرِحَت علي لم أجدها مُرضية. فقرّرت أن أستخدم شخصيات حقيقية اكتشفت وجودها عبر الروايات الشفهية، وفي الوثائق التي عُثِرَ عليها في ملابس الضباط الذين تم إعدامهم. كنت أشعر أن علي واجبات.، لأنني كنت أقوم بإخراج أول فيلم عن “كاتين”. كان عليّ أن أربط المعلومات التاريخية بشخصيات.
بالنسبة للشخصيات النسائية، كان أمامي نموذج والدتي. بالنسبة للرجال، كان علي أن أعرف كيف عاشوا نهايتهم، وكيف تم إعدامهم.
• ما هي الأفلام الحديثة التي تعجبك؟
فاجدا: السينما البولونية كما عرفتها انتهت. الجمهور تغيّر. عوضاً عن 3000 صالة سينما، لم يبقَ سوى بضع مئات. وارتفعت أسعار تذاكر السينما. الجمهور لم يعد يتوق إلى التغيير، فالحقيقة تناسبه. الجمهور بات يعتبر السينما ترفيهاً. لم يعد ينتظر أفلاماً إجتماعية أو سياسية.
الأفلام الأوروبية التي تسعى لالتقاط حقيقة ما تعجبني. مثلاً فيلم “الطفل” (L’Enfant) للأخوين “داردين” (Dardenne). إن فكرة أن يصبح طفل ما منتجاً تجارياً أثّرت فيّ كثيراً. أيضاً فيلم “بين الجدران” (Entre les murs) الذي أخرجه Laurent Cantet، والذي “أوقف شعر رأسي”. إن العداء الذي يعبّر عنه التلامذة ضد إستاذهم وضد فرنسا يطرح على بساط البحث مبادئ الثورة الفرنسية نفسها.
• هل تقوم الآن بتحضير فيلم حول ليش فاليسا؟
فاجدا: سيكون الفيلم حول بداياته. وأحبّ أن أختمه بالكلمات الرائعة التي تلفّظ بها أثناء رحلة رسمية إلى واشنطن بصفته رئيساً للجمهورية: “نحن، الشعب..”. تصوّر، هذا “الكهربجي” الصغير….
إعداد: بيار عقل